صف طويل عريض من السيارات يُرىأوله ويغيب آخره بين الالتفافات، هدوءمعتاد يتوسده همس يُسمع صداه من على بعد مئة متر على وجه التقريب.. يُقطع المشهدبحركة بسيطة، خمس أصابع تومأ للتالي بأنتقدم إلى نقطة العبور.
كان قرارا لطيفا جدا من أبي أن يصطحبنا يومهاإلى الضفة الغربية، وتحديدا إلى مدينة طولكرم.. نصف ساعة بالكثير ونكون في قلب الحدث فيمالو سارت الطريق دونما عرقلات، وليس ذلكبالأمر الممكن على أيّة حال، فنقاط التفتيشوالتأكد من "إسرائيلية" العابرين نحو الضفة سوف تقوم بواجبها على أتم وجه.
تتقدم السيارات بدون أي نوع من الصفير أو الزمير، غير أنّ ذلك يصاحبه من ضجر وسأم ما يكفي ويزيد، تندفعالمركبة إلى الأمام بمعدلٍ لا يربو على الثلاث ثواني، ثم فرملة خفيفة، ويُستأنف المشهد من جديد.. فيما يتهيّأللناظرين من بعيد أنّه في جمود تام.
ذروة النصر حين نلنا الفرج بعد صبر عسير، بعد أن أشار إلينا أحد ثلاثة يرتدون بزة عسكرية يعتليها بارود أسود اللون– يبدو وكأنه يضغط على أكتافهم من فرط الذخيرة التي ملأت جوفه، ونعق: "تعودوت زهوت(هويّات)"، وبدون أنينبس أحد الحاضرين ببنت شفة سُلمت الهويات، وما تلا ذلك من فحصٍ وتدقيقٍ في الهويات والأشخاص والصور كانكافيا لاعتبار مرورنا أمر جائز شرعا ودولة!
كانت الساعة قد قاربت الواحدة ظهرا، ما يعني أنّ ما كان ينبغي أن يحدث بسرعة سبعين كيلومتر في الساعة –على أقل تقدير- قد حدث بسرعةٍ لا تتعدى السبعة كيلومترات لنفس الوحدة الزمنية، وما هذا إلّا موجز لما يلاقيهالعمال الفلسطينيين يوميّا في طريقهم من وإلى العمل في الأرض التي صارت تسمى "إسرائيل"!
بعض الحاجيات من هنا وهناك وما يتخلل ذلك من نهفات البائعين.. "عنا بضاعة بتقرا وتكتب"، رائحة القماش تندثربين حنايا السوق ما بين زعيق الباعة ومساومات النساء.."بمشيش بأربعة يا حج؟" .. "امبلا بمشي عشان خاطركوالله"، متلوّا بأشدّ علامات الرضا وانفراجٍ واضح لأسارير وجه يبشّر خيرا.
ولمّا كان الإياب في وقت الغروب، اصطفت السيّارات في وضعية مشابهة لتلك التي في المشهد الأول. وفيماالاكتظاظ نفسه ينهش معالم الطريق، تسلّل عدد من الباعة إلى نوافذ السيّارة بزخم، يعرضون بضائع من مختلفالأشكال والألوان، متبارزين فيما بينهم حول مدى نجاح حملات الإغراء وكيف تكون! ولا عجب ببراعتهم في اصطيادالزبائن.. رغم أنهم لم يدخلوا يوماً كلية تجارة أو جامعة!
وفيما كل شيءٍ يضجّ بحركة دائمة فيما خلا حركة السّير، فهي في شلل شبه رباعي. زحفٌ لبضع سنتمترات علىالأكثر مقابل فتية تروح وتجيء، عرض آخر من وجه آخر.. بضاعة بذات الجودة بثمن أقل.. حتى قبل المباشرة بأي طلب "للتخفيض".
دنوٌ بعض الشيء من الهدف، المعسكر آخذ في الاقتراب بينما في الحقيقة نحن من يفعل ذلك، المنظر يبدو أكثرضخامة من ذي قبل، نقاط التفتيش بهيئة مكبّرة، ربما لأن هذا الحاجز بالذات يقبع في نقطة تقاطع شارعين اثنين..لا يهم، المهم أن نتخلص من ورطة حتميّة كهذه بأسرع ما يمكن.
لسنا سوى على بعد عشرة أمتار من هالة محتشدة من البشر، خمس دقائق ونتخطى الحاجز، أو لنقل سبع دقائق.. ولم يكن من أبي إلا بأن تقدّم حينما أباح لنا الجندي الاقتراب. وكما جرت العادة، تسليم الهويات ومن ثم استردادهاحالما يتم التأكد من أشخاصنا.
"افتح الصندوق" قالها ذو الشعر البلونديني بلكنة عربية فلسطينية مبتذلة، نُفّذ الطلب بضغط زر.. نظرتين إضافيتينإلى جوف الصندوق، ثم نظرة طويلة إلى أحد الأكياس.. "اكتشفوا الكمين، الله يُسترْ!" تمتمتُ.. وما هي إلا لحظاتوقطّع اليقينُ الشكَ إربا، حين بدأ يتفوه ببضع أسئلة سخيفة يدور رحاها حول ما احتواه الكيس، كرتونة بيض مندجاج فلسطينيْ الأصل يقع ضمن قائمة المحظورات، بذريعة أنّ ليس هناك ثمة ما يؤكد مدى صلاحية العلف.. محض هراء وترّهات تجبل عقولهم ونحن بدورنا ننصاع وننفذ التعليمات بحذافير حذافيرها لئلا نخسر المزيد منالوقت في عداد الانتظار.
لم تلبث الكرتونة زمنا أطول في الصندوق، كانت من نصيب شبّان فلسطينيين يجلسون على قارعة الطريق، وليس أروع من خيبة أمل الكتلة البشرية التي حدثتنا قبل قليل، على إثر عدم القاء الكرتونة في الجحيم.. اليوم، أجدني نادمة بعض الشيئ على تكاسلي عن شن حربٍ سلاحها البيض.. لو أنني تركت البيض يهوي على رؤوسهم ويسيل رذاذه من بين أعينهم، لكان ضميري الآن على الأقل مرتاح بهذا الشأن.
بعمق المأساة فاجعة تذرك تقضم أطرافك.. لكم من المؤسف أن تُقسّم أرضك ويتجزأ ما لا يتجزأ، نحن أخوانٌ مهما حاولت الحواجز التفضيل بيننا، نحن منهم وهم منّا، نحن شطرٌ واحد لا يُقتسم، حتى ولو أقدمت جرّافات الاحتلال على رسم الحواجز على أرض الواضع، يُكنوها "الحدود"، ثلة قليلة من الحمقى عاثت في الأرض فسادا، حين يُسلم الوطن إلى من لا يؤتمن.. حين يكون الوطن في حد ذاته سجناً كبيراً لا يُحتمل!