"ما شأننا بمصر؟! ما علاقتنا بسوريا؟! لماذا نشغل أنفسنا بالشأن الداخلي للدول العربية والإسلامية؟ أليس شأننا الفلسطيني الداخلي أولى بالاهتمام؟"
عندما تسمع مثل هذا الكلام تدرك أنه وبالقدر نفسه الذي نجحت فيه سايكس بيكو في تقسيم الخارطة الجغرافية للمنطقة، ومن بعدها الخارطة الثقافية والاقتصادية السياسية لها، فإنها نجحت كذلك في رسوم خطوط مشابهة في بعض العقول.
هذه الأسئلة وما شابهها ناتجةٌ عن عدم القدرة على تحديد الميزان الذي توزن به الأحداث وحجمها، والركائز والأسس التي يبنى عليها تحديد الأولويات، عدا عن كونها استجابةً لا واعية للرغبات الاستعمارية القائمة على التقسيم والتفرقة وإعلاء مكانة القُطر على حساب الأمة.
إن ترتيب الأولويات يجب أن يقوم أساساً على التخلص من هذا البعد الاستعماري المهيمن على تفكير البعض، فالأولويات أولويات أمة، وليست أولويات قطر، فما مصر؟ وما سوريا؟ وما فلسطين؟ وما العراق؟ هل هناك معنى آخر للتفريق بين هذه المكونات إلا الاستجابة لتلك الحدود الوهمية التي صنعها الاستعمار، وبالتالي المزيد من تحقيق أهدافه ومصالحه؟
وبناءً على هذا الفهم فإننا من الممكن أن نقسم الأولويات إلى نوعين:
• أولويات استراتيجية للأمة.
• أولويات اللحظات الراهنة.
ويقف في مقدّمة أولويات الأمة الاستراتيجية تحرير فلسطين، لا ينازعها هذه الصّدارة شيء، فهي الجرح النازف، وساحة الصراع الأولى والأهم، وكل الصراعات المحيطة امتدادٌ لها أو انعكاس عنها، وهي كذلك الخطوة الأهم على طريق تحقيق الغاية الأسمى، وهي وحدة الأمة ونهضتها وريادتها.
وعليه تكون فلسطين الأولوية الأولى للمصري والخليجي والمغاربي والتركي والماليزي، كما هي الأولى عند الفلسطيني، ذلك أن الفلسطيني لم يجعلها كذلك نظراً للانتماء الجغرافي، أو لأنه يحمل هويتها وجوازها الموسومين بنسر مقصوص المخالب منتوف الريش من دونهم، بل هو الانتماء للأمة، وحده الانتماء لها من جعل لها الصّدارة عنده، وكذلك ينبغي أن يكون عندهم.
غير أنّ للحظة الراهنة سلطتها، فلا يمكن لأحدٍ أن يصمّ أذنيه ويغلق عينيه عن اشتعال ساحةٍ من الساحات، وعليه فإن لها أولوياتها، والحال في مصر الآن يجبرنا –بحكم انتمائنا للأمة أيضاً- أن نعطيَه الصدارةً وإن بصفةٍ مؤقّتة.
وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ الأولوية الآنية لا يجوز أن تشغلنا بحالٍ من الأحول عن أولويتنا الاستراتيجية، بل على العكس من ذلك، علينا أن نستحضرها وندرك أن هذا المشهد الآني هو جزء من الصورة الكليّة، بحكم أن كل صراعٍ محيطٍ بالمركز هو امتداد له وانعكاس عنه، فمصر الآنَ لا تنافح عن القُطرِ وحده، بل عن مستقبل الأمة كلّها، وفي قلب ذلك وعلى رأسه فلسطين.
وبين هذين النوعين من الأولويات اللذين يحملان مساحة واسعةً من الاجتهاد والاختلاف، يرتكس ضمير قطاعٍ كبير من جماهير الأمة أو عقله، أو كلاهما معاً، وينكسر ميزانه، فيصاب ترتيب أولوياته في مقتل، حتّى إن الهزيمة نفسها لو اختارت لما أتت بغير ما أتى به، فتراه يقدّم على كل ما سبق نصراً وهمياً لممثلٍ وهميٍ للقضية في محفلٍ انتهازيٍ وساقطٍ بامتياز، بل إن بعضهم يلقي كلّ ذلك وراء ظهره ويعطي الأولية لمظاهر ماديّة فارغة، ليس هذا هو القاع .. لقد وصل الارتكاس والانتكاس لأن تُفضل شواطئ تل أبيب على ساحات المسجد الأقصى!