هذه مفاوضات قامت على أسس مختلة وليست مرشحة للوصول سوى إلى نتائج مختلة هي الأخرى. بدخوله قاعة المفاوضات، تلبية لدعوة جون كيري، يكون المفاوض الفلسطيني قد ارتكب سلسلة أخطاء ووقع في سلسلة تجاوزات، نعتقد أن أهمها:
1) قبوله بمفاوضات لا تتوفر فيها المتطلبات الضرورية التي تضمن الوصول إلى تلبية الحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين، من وقف الاستيطان، واعتماد الشرعية الدولية مرجعاً، وحدود 4حزيران 67 أساساً . وبالتالي ما بني على أسس خاطئة لا بد أن يصل إلى النتائج الخاطئة، وسوف يكون لنا مع هذه الفكرة جولة أخرى.
2) أن القبول بدعوة كيري والاستجابة لها، تمّ خلافاً لقرارات اللجنة التنفيذية في م.ت.ف. حيث أجمعت الأغلبية الساحقة لأعضاء اللجنة على رفض مقترحات كيري أساساً لاستئناف العملية التفاوضية. كما شكلت الموافقة على الدعوة مخالفة صريحة لأسس المفاوضات ومتطلباتها كما نصت عليها قرارات وتوصيات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية. لذلك لا غرابة أن نلاحظ أن الوفد الفلسطيني إلى المفاوضات إنما تشكل من لون واحد، هو اللون الموالي للرئيس الفلسطيني محمود عباس. وإن كان صائب عريقات ومحمد شتية (عضوا الوفد) ينتميان إلى فتح، فإن مصادر الحركة أكدت أن لجنتها المركزية لم توافق هي الأخرى على دعوة كيري وأسسها لاستئناف المفاوضات لذلك قلنا إنه وفد يمثل اللون الموالي للرئيس الفلسطيني، في ظل عدم اتفاق قيادة فتح على موقف موحد.
إن هذه المشاركة بالصيغة التي تمت بها، وفي مخالفتها الصريحة والفاقعة لقرارات الهيئات المعنية وتوجهاتها، تعيد طرح مسألة الإصلاح الديمقراطي داخل هيئات م.ت.ف. وبات من حق الشعب الفلسطيني أن يعرف من هي الهيئة الفلسطينية صاحبة القرارات المصرية التي تجسد طموحاته الوطنية. وما هي الضمانات بأن التفرد والاستفراد لن يقودا الحالة الفلسطينية إلى مغامرة ومقامرة، وتلاعب بالقضايا المصيرية: مستقبل الأرض ومستقبل القدس، ومستقبل الدولة الفلسطينية والكيانية المستقلة لشعب فلسطين ومستقبل حق العودة للاجئين من أبنائه. إن العبث بمصير قضايا بهذا الحجم لا يمكن أن يكون بين أيدي قلة من الأفراد، مهما علت مناصبهم ومهما كبرت مسؤولياتهم. إن المرجعية السياسية والقيادة اليومية لشعب فلسطين هي اللجنة التنفيذية في م.ت.ف. وبالتالي تقف اللجنة التنفيذية اليوم أمام مسؤولياتها لتجيب على أسئلة الشارع وتساؤلاته: من قرر الذهاب إلى المفاوضات بموجب اقتراحات أميركية لا تشكل أساساً صالحاً لضمان حقوقنا الوطنية المشروعة وغير القابلة للتصرف؟
المفاوض الإسرائيلي ذاهب إلى المفاوضات وهو في أحسن حالاته فقرار الذهاب إلى المفاوضات اتخذته الحكومة الإسرائيلية، أي الجهة صاحبة الصلاحية القانونية بذلك، وبالتصويت، وباتفاق أن لا تكون نتائج المفاوضات ملزمة لها، بل تطرح على استفتاء شعبي، ليقول الشارع الإسرائيلي رأيه [في رام الله تعرضت التظاهرة للضرب لأنها احتجت على الذهاب الفلسطيني إلى المفاوضات] والحكومة الإسرائيلية كما بات معروفاً متجانسة في رؤيتها للعملية السياسية. تجاوزت مسألة الاستيطان، حين رفضت تجميد المشاريع الاستيطانية في القدس وغلافها وأنحاء الضفة. وبذلك تحققت إرادة أكثر الأطراف تطرفاً ويمينية في الحكومة، أي الوزراء الذين يمثلون المستوطنين. وهي حكومة موحدة بشأن القدس الشرقية ورفض الانسحاب منها، باعتبارها العاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل. وهي موحدة إزاء «الجدار» باعتباره في تغلغله داخل الضفة الفلسطينية يشكل الأساس (الإسرائيلي) لرسم حدود إسرائيل «الآمنة والمعترف بها». كذلك هي موحدة بشأن قضية اللاجئين ورفض الاعتراف بحقهم في العودة إلى منازلهم وممتلكتهم التي هجروا منها منذ العام 1948، بل تدعو إلى حلول بديلة، تتوزع بين التوطين والتهجير أو السكن الدائم في الضفة الفلسطينية.
أي بتعبير آخر، يقف المفاوض الإسرائيلي وخلفه حكومة يمينية ويمينية متطرفة، تلتقي عند المبادئ الأولية، بل وحتى في تفاصيل بعض الملفات التفاوضية.
وإذا كانت حكومة إسرائيل قد «قررت» أن تفرج عن دفعة من الأسرى القدامى، فإن هذا مكسب فلسطيني لا يمكن إنكاره، لكنه مكسب لا يتطلب أن يقدم المفاوض الفلسطيني مقابله تنازلات إستراتيجية. فهؤلاء الأسرى كان يفترض أن يفرج عنهم فور التوقيع على اتفاق أوسلو في القاهرة عام 1994. لكن إسرائيل تلكأت وعطلت تنفيذ هذا البند، كما عطلت تنفيذ بنود أخرى، أهمها إنهاء المفاوضات وحسم قضايا الحل الدائم في أيار (مايو) 1999أي بعد خمس سنوات من توقيع الاتفاق. وبالتالي إذا كان الجانب الفلسطيني قد حقق مكسباً في «قرار» إطلاق سراح هؤلاء الأسرى، فإن الجانب الإسرائيلي لم يقدم تنازلاً بالمعنى الحقيقي بل التزم بقرار مضى على تعطيله حوالي عشرين عاماً، كغيره من القرارات والاتفاقات التي أخلّ الجانب الإسرائيلي بالالتزام بها وتنفيذها.
هنا من المفيد أن نحذر من خطورة أن يستغل الجانب الإسرائيلي قضية الأسرى لابتزاز المفاوض الفلسطيني. ولا نعتقد أن ثمة أسيراً واحداً من هؤلاء على استعداد أن يقايض حريته الشخصية بالتنازل عن الحقوق (أو بعض هذه الحقوق) الوطنية في العملية التفاوضية.
كذلك من المفيد أن نحذر من أن يحول الجانب الإسرائيلي قضية الأسرى إلى قضية ابتزاز سياسي وتفاوضي، بحيث يطلقهم على دفعات وأن يرهن قرار إطلاقهم بمدى «تقدم» العملية التفاوضية. في هذا أبشع استغلال لقضية الأسرى.
ما هو مدى تقديرنا لإمكانية نجاح هذه المفاوضات؟. علينا أن نلاحظ أن الوفد الإسرائيلي يتشكل من تسيبي ليفني واسحق مولخو، وخلفهما صف عريض من المساعدين والخبراء والمستشارين. ليفني هي المفاوض الإسرائيلي في زمن حكومة أولمرت، وقد جمدت العملية التفاوضية آنذاك، عند طلبها المستحيل: الاعتراف الفلسطيني بيهودية دولة إسرائيل. ولا نعتقد أن هذا الطلب قد سقط من حسابات الإسرائيليين، بل مازال يحتل موقعاً متقدماً في أجندة المفاوض الإسرائيلي. ونذكر جيداً كيف رد نتنياهو على الاقتراح العربي «بالتبادل» المقدم إلى واشنطن، داعياً العرب إلى الاعتراف بيهودية إسرائيل.
ومولخو هو المفاوض الإسرائيلي الذي حول مفاوضات «الاستكشاف» في عمان، إلى مهزلة، حين كان يقابل الاقتراحات الفلسطينية بالسخرية رافضاً أن يقدم إلى طاولة المفاوضات خارطة واحدة أو ورقة واحدة تكشف حدود النوايا الاسرائيلية. وبدلاً من أن مفاوضات يستكشف فيها كل طرف مواقف الطرف الآخر، نجح الإسرائيلي في استكشاف الموقف الفلسطيني، مقابل تكتمه عن حدود موقفه.
المفاوض الفلسطيني في مواجهة فريق إسرائيلي متصلب، تقف خلفه قيادة وحكومة إسرائيلية متصلبة هي الأخرى. ما يعني أننا سنكون أمام مفاوضات صعبة، من حقنا أن نطرح في سياقها الأسئلة التالية:
- هل من المتوقع في ظل موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل، في الميدان، والسياسة وأسس العملية التفاوضية أن تستجيب إسرائيل للطلب الفلسطيني بالانسحاب من القدس المحتلة؟
- وهل من المتوقع، في ظل الموازين نفسها، أن تقدم إسرائيل على خطوة معينة على حساب مشاريعها الاستيطانية. وهل بإمكان المفاوضات أن ترغم الإسرائيليين (المفاوضات وحدها) على وقف الاستيطان.
- وهل بالإمكان، في ظل مفاوضات مماثلة، الوصول إلى الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية.
الأجواء الإسرائيلية واضحة، ولا تحتاج إلى شرح كثير. كلها تتحدث عن استحالة (نعم استحالة) الوصول إلى حل لقضايا الوضع الدائم خلال الأشهر التسعة القادمة المخصصة للعملية التفاوضية. لذلك يرى المراقبون الإسرائيليون، بمن فيهم وزراء في حكومة نتنياهو أن أحسن ما يمكن الوصول إليه مع الفلسطينيين هو «الدولة الفلسطينية» ذات الحدود المؤقتة. هذا حل يخدم إسرائيل لأنه «يفصل» بين «الشعبين» ويحافظ على يهودية إسرائيل من خطر التزايد السكاني الفلسطيني، ولأنه كذلك يعفي إسرائيل من متطلبات الحل القائم على مبادئ وقرارات الشرعية الدولية.
مفاوضات انطلقت على أسس خطيرة. ولن تصل سوى إلى نتائج خطيرة.