أشعل سيجارته الأولى لتملأ دخانها أطراف غرفته المليئة ببقايا حياة، جمجمة هنا، وصورة فلسطين يحتضنها "حنظلة" هناك، وصور من انتفاضاته المتكررة على حاجز الجلمة، والعشرات من علب السجائر الفارغة المرتبة بطريقة ما على أحد رفوف غرفته.
علاء وشاحي البالغ من العمر 26 عاما بعيونه اللامعة التي تحكي الكثير دون أن تنطق وابتسامته الحزينة وعكازه الذي يقف بألم إلى جانبه يُعيدُنا 10 سنوات إلى الماضي، 10 سنوات عمر جرح أبدي، قال علاء: "كنت مع أصدقاء لي في الحي الشرقي من جنين حين اخترقت رصاصة القناصة جسدي وانتزعت منه 4 فقرات وحولتني إلى جريح انتفاضة مع عكازة". يصمت قليلاً ويطفىء سيجارته بحرقة كبيرة ويتابع : "استمرت مرحلة علاجي لمدة سنة كاملة بمركز أبو ريا في مدينة رام الله واضطر والدي إلى بيع كل ما يملك من معدات في الاستوديو التابع له لاستكمال علاجي".
يشعل سيجارته الثانية بألم أكبر ويستذكر خيبات أمله الكثيرة في الحصول على إعفاء من السلطة الفلسطينية للعلاج في المستفيات داخل الخط الأخضر، نظر بعمق إلى زاوية الغرفة الفارغة وقال: "لم أحصل على دعم من السلطة لإستكمال العلاج الذي قد يصل إلى 25 ألف دولار، إضافة إلى مضايقاتها الكثيرة لي " يضحك ساخراً ويقول :" يمكن كتير علي ًّ "، توقف ضحكته انسكاب فنجان قهوته دون أن يشعر وحاول تدارك الأمر بمساعدة أخته قائلة :"عادي كتير بعملها ".
شعرت وقتها بان لدى علاء الكثير من الكلام المكبوت يختبأ خلف توتره وصمته، فقلت مازحة :" السلطة ما بتحبك ؟" ضحك بمرارة وقال " السلطة ما بتحبني لأني بدي انتفض ,, السلطة ما بدها حد ينتفض ,, السلطة ماخدة حقي، السلطة اعتقلتني 4 مرات.. السلطة.. السلطة..وصمت!"
أشعل سيجارته الثالثة والأخيرة وهو يقلب أوراق المحاكم والتهم التي توجه إليه، يقلبها واحدة تلو الأخرى ثم ضحك بسخرية وأشار إلى إحداها، قال وهو يقبل سيجارته ببطىء: " شوفي هالمسخرة اتهموني إني معي حبوب مخدرة بجيبتي وهاي الحبوب هي نفسها إلي باخدها منهم، من الصحة بشكل رسمي!".
حاول والده التدخل بعد أن امتلأت عيناها غضباً وألماً : " ابني صاوبوا اليهود بس حقدي على السلطة أكثر منهم، كل حقدي عليها الله ينتقم منها ، الله ينتقم منها ،، وتمتم بالكثير الكثير.. ".
اليوم ، بعد مضي 10 سنوات على إصابة علاء ، تغيرت أحلامه من أن يصبح "حلاق" إلى أن يصبح الثائر الفلسطيني المنتفض ، حتى أحقاده قبل ملامحه تغيرت ، إلا أن حسه الوطني لم يتغير بل ازداد وكبُر، فحب الوطن والقضية هو أمله وهوايته الوحيدة.
وعلاء رغم العجزإلا أنه يستمر بنضاله ، وصوره المنتشرة على موقع التواصل الإجتماعي " الفيس بوك " تثبت ذلك ، ولعل أفضلهن صورته وهو ملقىً على الأرض امام "جيب" إسرائيلي على حاجز الجلمة ، " كنا بمظاهرة لنصرة الأسرى الفلسطنيين وحاول هذا الجيب مطاردة صديقي , فوقفت بوجه ليتكمن صديقي من الهرب ،، والحمدالله نفد منها " قال علاء.
نهض علاء من أحزانه وحاول أن يرسم ضحكة على وجهه بسيط الملامح ولكنه لم يدرك بأن الضحكة كانت تنتقل بالتدريج إلى لمعة عينيه وهو يتحدث عن أحلامه ، أحلامه الكثيرة والكبيرة التي بدأها برؤية وطنه حراً وفرحت أمه عند خروج أخيه فراس من الأسر. "اعتقلت أنا لمدة 6 شهور عند الاحتلال بتهمة محاولة لتخطيط لعمل ارهابي، واستمر التحقيق معي لمدة شهر كامل واستغلوا حالتي الصحية وبالرغم من هذا فقد أحببت السجن لأني التقيت بأخي فراس بسجن النقب"، قال علاء.
حاول الأب أن يضع بصمته بأحلام علاء فقال له: "بدي أفرح فيك" تعالت ضحكة علاء وقال "خلولي شوية من هالحرية الي ضلت معي .. حواء بتربط"، وتابع كلامه ولكن تعالت على وجنتيه بسمة خجولة تزاحم بسمات كتثيرة مصطنعة وقال : "تعرفت على فتاة في مركز تعليمي صدفة وشعرت من النظرة الأولى بأنها مختلفة .. تحبني وأحبها " وأطفىء سيجارته الأخيرة "حباً".
جمعت أوراقي وأخفيت معها دمعة كانت على وشك النزول وتمنيت لعلاء الشفاء وأحلام محققة وحباً أبديا ومضيت متسائلة هل يحق لأحدهم "بدم بارد وإهمال" أن يمنع روحاً من الحياة والحب؟.