شبكة قدس الإخبارية

بولغاكوف .. شياطين الخيال تدخل موسكو

رامي خريس

خاص بـ"شبكة قدس"

المنبوذ في ظلال شجرته

الفانتازيا هي الدراما المجنونة للمخيّلة، ومخيّلة ميخائيل بولغاكوف التي تفتح لك ذراعيها على اتّساعهما على طول صفحات رواية "المعلم ومارغريتا" هي اختبار "حافة هاوية" حقيقي للموهبة الأدبيّة والدهشة المتأتّية منها. لا تبرز الفانتازيا في الرواية كسياق فقط، وإنّما كتحدٍ. تحدٍ للجنون نفسه في القدرة على توليد ضروب جديدة منه. أي في استخراج شكل وأسلوب جديدين، وأصيلين تماما، من عمق الجنون، للكتابة الروائيّة. والذين يقرأون "المعلم ومارغريتا" محكومون بالذكرى: لا يسعهم إلا أن يفغروا أفواههم في رحلتهم مع صفحات الكتاب وهم يتأمّلون بمتعة ألعاب بولغاكوف اللانهائيّة، وأن يُتركوا أسرى الانطباع الدائم بالاختلاف الجذري الذي تمثّله الرواية على مستوى الأسلوب الفني.

بولغاكوف، الشاب الطبيب، الذي سجّل مذكراته عن تجربته المهنيّة في مستشفى بائس بمقاطعة سمولينسك أوائل القرن الفائت تحت عنوان "مذكّرات طبيب شاب" ترك مهنة الطب مدفوعا بشغف لا محدود للمسرح والرواية. حمل فقط مبضعه الدقيق إلى عالمه الجديد ليشقّ فيه دروبا جديدة. ربّى، في قلبه المليء بالأسى دائما، زهرة سخريّة يانعة سرعان ما أصبحت شجرة وارفة ومميّزة في بستان الأدب الروسي الزاخر بالإبداع. لكنّ القدر البائس ألقى ببولغاكوف وحيدا منبوذا في الظلال البعيدة لشجرة سخريته الكبيرة.

يُمكن للمرء أن يستمتع بترف قراءة الأدب حتى النهاية، لكنّ بعض المآثر الأدبيّة، ومن بينها مأثرة "المعلم ومارغريتا" تستنفر فيك بدأب دافعا سريّا للبحث عن عوالم كاتبها الماورائيّة. حين أنهيتُ قراءة الرواية، انتابتني رغبة محمومة للبحث والتنقيب، وأمسكتُ بأناملي ما يسميّه أستاذ أدب متمرّس كإدوارد سعيد "بذرة عدم الاكتفاء"، إذ أنّ المعرفة والقراءة كما يقول سعيد، لا يتم استنفاذهما أبدا. إنّهما دائما في حالة استمراريّة. وهما يحتاجان إلى مقدار من الاستنطاق لا حدّ له من الاستكشاف والتحدّي. واستنطاق تجربة بولغاكوف، كما خبرتْ، تقول بحسم أنّ شجرته الوارفة، شجرة سخريته الطالعة من قلبه الدافيء، هي في الأصل نتاج بذرة مكوّنة من عناق أليم بين الموهبة الفذّة والمصير الشخصي المُفرط في مأساويّته. لقد أمسكتُ ببذرة بولغاكوف يا إدوارد!

مكالمة من ستالين 

 تفتّحتْ موهبة بولغاكوف الأدبيّة في لحظة حسّاسة من عمر بلاده أوكرانيا. كانت ثورة أكتوبر الشيوعيّة في العام 1917 قد فتحت الباب أمام حرب أهليّة دامية بين قوى الثورة البلشفيّة وما يعرف بالحرس الأبيض المناويء للثورة قبل أن تستقر مقاليد الأمور لصالح الشيوعيين. ومن أجواء الحرب الأهليّة الدامية هذه، استوحى بولغاكوف أحداث روايته الكبيرة الأولى "الحرس الأبيض" التي تصوّر تفاعل المجتمع الروسي التقليدي مع التحوّلات النوعيّة التي حملتها الثورة الحمراء. شكّلت "الحرس الأبيض" بالنسبة لكثير من النقّاد لحظة الافتراق الأصيل الذي ستسم أدب بولغاكوف لاحقا عن التقاليد الأدبيّة ما بعد الثوريّة في روسيا الشيوعيّة. الشاب الذي ترعرع في أسرة من المثقفين الليبراليّين الروس كان مشوّشا إلى الحدّ الذي لم يسعه معه حسم موقفه النهائي من الثورة الجديدة، وقد نُظر إلى استعادته لتقاليد مجتمع ما قبل الثورة عبر روايته كإشارة لا تخطئها العين لموقفه السياسي المُحافظ.

لم تعمل الثورة الشيوعيّة على تحويل الاقتصاد السياسة الروسيّين فحسب، بل إنّها أطلقت، بطبيعة الحال، تحوّلات جذريّة في الفنون والآداب السوفييتيّة لتدفعها للاتّساق مع جملة القيم الإشتراكيّة القائمة حول أفكار تضحيات البروليتاريا ووحشيّة البرجوازيّة وفرادة النموذج الذي تُقدّمه الثورة كفتح جديد لمجتمع زراعي مُتخلّف. كان بولغاكوف في تلك اللحظة المفصليّة ينهي تأليف مسرحيّته الشهيرة "أيام آل توربين" وهي استيحاء درامي لرواية الحرس الأبيض. وقد أطلقت المسرحيّة وعرضها على مسرح موسكو الفنّي جدلا محموما في أوساط المثقفين الروس ولاقت نجاحا لافتا، وقد حاولت الجهات الرقابيّة المُنبثقة عن تجمّعات المثقفين اليساريّين المناوئين لأدب ما قبل الثورة منعها من العرض، لكنّ تدخلا شخصيّا من ستالين، الذي حضر المسرحيّة بنفسه عدّة مرّات، أنقذها من المنع.

في بيئة المضايقة البيروقراطيّة التي أحاطت ببولغاكوف في وسطه المسرحي، تطوّرت قريحة الطبيب الشاب النقديّة وأصبح مبضعه أكثر حدّة، ليتقدّم إلى الرقابة في العام 1926 بمسرحيّته "الجزيرة القرمزيّة". والجزيرة القرمزيّة هي بيان بولغاكوف الأكثر سخريّة من بيروقراطيّة المسرح الروسي. إنّها مسرحيّة داخل مسرحيّة، فصّلت بدقّة أشكال العسف الواقعة على الإبداع والحريّة المسرحيّين، وانتقدتْ في العمق بعض الأساسات النظريّة لدولة ما بعد الثورة. كان تقدّم بولغاكوف بمسرحيّة من هذا النوع بمثابة إصبعٍ ممدود لفقأ عين السلطة الرقابيّة مباشرة: كيف سيتعامل الرقيب مع مسرحيّة تستبطن الانتقاد الساخر لأساليب رقابته؟ قد يكون تأجيل منح الرقابة المسرحيّة الروسيّة جواز مرور الجزيرة القرمزيّة إلى العرض المسرحي دليلا على المأزق الذي أوقع فيه بولغاكوف الذكي خصومه. ففي أيلول من العام 1928، أي بعد سنتين من تقدّم بولغاكوف بمسرحيّته للدوائر الرقابيّة، سُمح للمسرحيّة بالصعود إلى الخشبة أمام جمهور موسكو. عدّ بولغاكوف عرض المسرحيّة نصرا كبيرا لحريّة المسرحي وإبداعه على الوطأة الثقيلة لشبح الرقيب المتبلّد. لكنّ نشوة بولغاكوف لم تدم طويلا، فقد صدر في آذار من العام 1929 قرار رقابي بمنع عرض أعمال بولغاكوف على مسارح موسكو. كانت هذه اللحظة نقطة تحوّل في حياة بولغاكوف، إذ تتكثّف بعدها مأساته، وتزداد آلامه إلى حدود التفكير بترك روسيا تماما. ويتساءل بولغاكوف في أعقاب قرار المنع بكمد شديد في رسالة خطّها للروائي مكسيم غوركي: "لماذا يُترك كاتب في مكان تُمنع أعماله فيه؟ عليهم أن يطلقوا سراحي". وقد توالت تظلّماته في رسالة شهيرة أرسلها لحكومة الاتحاد السوفييتي في آذار من العام 1930 قال فيها أنّه بمراجعته لأرشيف ما كُتب عنه في الصحافة الروسيّة خلال السنوات العشر الأخيرة، فإنّ اسمه قد ذكر 301 مرّة في تعليقات مُختلفة، كان السواد الأعظم منها هجوما حادّا ومباشرا على أعماله بوصفها ضدّ الثورة. كانت سهام النقد تنهال على بولغاكوف من كلّ حدبٍ وصوب وتقصيه أبعد وأبعد عن مسرحه وتعمّق من مأساته الوجوديّة كمسرحي مبدع.

في أبريل من العام نفسه رنّ جرس الهاتف في بيت بولغاكوف. كان جوزيف ستالين، قائد الإتّحاد السوفييتي شخصيّا على الطرف الآخر. كانت دهشة بولغاكوف صاعقة، لكنّها ازدادت أكثر حين وجد الرجل القوي، المعروف ببطشه، يتحدّث إلى بولغاكوف برقّة سائلا: "هل طلبت بالفعل السماح لك بمغادرة روسيا؟ هل أزعجناك إلى هذا الحد؟". يشرح بلغاكوف لستالين صعوبة عيشه كروسي خارج بلده، فيؤيّد ستالين كلامه، ويسأله إذا ما كان راغبا في العمل في مسرح موسكو الفنّي (وقد كان هذا مطلب بولغاكوف في رسالته للحكومة) فيوضح له بولغاكوف أنّه تقدم للعمل هناك لكنّه رُفض، فيأمره ستالين بالتقدّم مُجدّدا للوظيفة وهو ما حدث بالفعل إذ نال بولغاكوف وظيفة في مسرح موسكو الفنّي لكنّ قرار المنع الذي طال أعماله المسرحيّة والروائيّة بقي مُستمرا. وفي الواقع، لم يحظ أدب بولغاكوف بالاعتراف الرسمي في بلده إلا بعد سنوات طويلة من وفاته في العام 1940. فعمله البديع، "المعلم ومارغريتا" لم يُطبع في روسيا إلا عام 1966، فيما انتظرت أعمال أخرى مثل "قلب كلب" وغيرها حتّى نهاية الثمانينيات لترى طريقها إلى المطابع الروسيّة. كانت الدراما الشخصيّة لبولغاكوف تُطبق بثقلها على مصيره كفنان وتجعله نهبا لهشاشة لا نهائيّة على الحد بين اندفاعه المحموم نحو المسرح وقيود البيروقراطيّة الثقيلة التي هشّمت معنى وجوده بشكل شبه نهائي.

المأساة كرواية .. المعلم ومارغريتا

 في يوم موسكوفي حار يتسلّل الشيطان الساحر مع معاونيه وقطّه الأسود الضخم إلى موسكو ويبدأون سلسلة مُرعبة من ألعاب السحر الشيطاني، مُستهدفين بشكل رئيسي المثقفين الروس العاملين في المسرح. وعبر هذه الألعاب المُختلفة، التي يحبكها بولغاكوف ببراعة منقطعة النظير على امتداد الرواية، ينكشف زيف ونفاق المجتمع الموسكوفي ذاته برجاله ونسائه وطبقته المثقفة. وفي نقلة خياليّة يسافر بولغاكوف عبر الزمن من موسكو الثلاثينيّات إلى أورشليم في العام الأوّل للميلاد لينقل وقائع مُحاكمة المسيح وصلبه على يد حاكم اليهوديّة بيلاطس البنطي. عند تلك اللحظات التي يتداخل فيها عالما موسكو وأورشليم تبرز، في الحقيقة، فرادة بولغاكوف وأصالته الأدبيّة في آن معا. فرادته بالقدرة على الجمع الحصيف والسلس لأزمنة روائيّة متعدّدة ومستويات سرديّة متنوّعة بحيث يُشكّل فعل السحر المنفلت أصلا من الزمن جوهر الحركة الداخليّة الدؤوبة لروايته، وأصالته عبر استحضاره الواعي لصراع قوى الخير والشر (بيلاطس البنطي مقابل المسيح، والشيطان الساحر مقابل مجتمع موسكو)، وهو الموضوع الأساسي في الأدب الروسي كما يبرز لدى غوغول وديستوفسكي وغيرهم. لكن الصراع لا ينتهي عند هذا الحد، وتصل الرواية ذروتها حين يقابل الشاعر إيفان أحد ضحايا السحر الشيطاني "المعلّم" في مستشفى المجانين. ويقصّ المعلّم على إيفان قصّته الحزينة واختياره العيش في مستشفى المجانين بعيدا عن الواقع المُزيّف. والمعلّم كما يقصّ بنفسه على إيفان روائي روسي انكبّ على كتابة رواية بمساعدة حبيبته مارغريتا لكنّه حين تقدّم بها للنشر تعرّض لهجوم قاسٍ من الصحافة مع إخطار حاسم بعدم إمكانيّة الطباعة، وهو ما دفعه إلى أن يترك حبيبته ويُحرق مخطوطاته ويختار العيش في مستشفاه هذا، فقد كان اليأس قد استولى على قلبه تماما. تكمن هنا المفارقة المدوّية التي تتماهى عند حدودها المأساة الشخصيّة مع الفانتازيا الروائيّة: من هو المعلّم؟!

ليس المعلّم في الرواية سوى الروائي بولغاكوف بشحمه ولحمه وقلبه الدافق بالمرار. في العام 1928 قرّر بولغاكوف كتابة ما اعتبره درّته الإبداعيّة "المعلم ومارغريتا"، لكن الخطوب التي مرّ بها من منع أعماله إلى مرضه ثم تركه للعمل في المسرح الفنّي قد دفعته إلى إحراق مخطوطة روايته التي احتاج سنوات طويلة لإنجازها. إن الرواية التي بين أيدينا لبولغاكوف هي حصيلة التنقيب الدؤوب في الذاكرة لاستخراج عالم كامل من السحر من قلب رماد الحسرة واللوعة، وهي العمليّة التي لم تكتمل إلا عام 1940، سنة وفاة بولغاكوف.

لا يكتسب الشرّ طابعا مُطلقا لدى بولغاكوف. فبيلاطس البنطي يبدو لديه مُتردّدا وشاعرا بالإثم لمُحاكمته وصلبه للمسيح. أمّا المُعلّم، بطل الرواية، فإنّه يحظى بمساعدة خيّرة من الساحر الشيطاني الذي يجمعه بحبيبته الضائعة مارغريتا ويُعيد له مخطوطة كتابه كاملة بدون أثر لأيّ حرق، قبل أن يُغادر مع مُساعديه "الأشرار" موسكو مودّعا بيلاطس البنطي المُذنب في طريقه إلى القمر بعد شفاعة المسيح، والمعلّم مع مارغريتا في طريقهما إلى خلودٍ صافٍ في بيتٍ لا يعكّر صفوهما فيه أحد. إنّ رواية بولغاكوف التي تتوّج مسيرته الشائقة مفتوحة، في الواقع، على كلّ التأويلات الممكنة، إذ تكتنفها الألغاز والمحاورات الغامضة والألعاب الشيّقة. إنّ البيت الهانيء الدافيء الذي أتمّ فيه المعلّم روايته واختار أن يعود إليه مع حبيبته قد يكون المآل الذي تمنّاه بولغاكوف طوال حياته حيث يستطيع أن ينكبّ على شغفه بالكامل بعيدا عن عين الرقيب التي طاردته طوال حياته. لعلّه البحر الكبير الذي كان بولغاكوف ينشده لروح الكاتب حين كاتب حكومة الإتّحاد السوفييتي في رسالته قائلا: "إنّني أعترف أنّني مع حريّة النشر والإبداع. إن مهمّتي ككاتب هي في أن أواجه الرقابة بغض النظر عن شكلها وتحت أي سلطة وُجدت، كما هي مهمّتي أن أدعو لحريّة النشر. إنّني مُدافع مُتحمّس عن هذه الحريّة وإنّني لأعي تماما أنّ محاولة الكاتب استعراض عدم حاجته لهذه الحريّة يشبه بالضبط محاولة سمكة الإدّعاء علانيّة أنّها لا تريد الماء".

رابط تحميل الرواية، اضغط هنا.