الأفورة (بتفخيم الفاء) تعبير منتشر مصريًا للدلالة على المبالغة. الكلمة التي تنحدر بوضوح فاقع من أصول إنجليزيّة تستخدم بكثرة في يوميّات السياسة المصريّة. فلسطينيًا، الكلمة ليست مستعملة وإن كان ما تستخدم من أجله متواجدًا وحاضرًا بقوّة. فعل المبالغة والتضخيم في حدّ ذاته ليس مغالطة منطقيّة وضربة لرزانة الحقيقة وضرورة إيصالها على ما هي عليه فحسب، بل ويعطي، في كلّ مرة، شارة البدء لسباق الفائز فيه هو من يستهلك أكبر كم من العواطف، في أسرع وقت ممكن. إنّه يحول الحدث إلى "مشهد"، والواقع إلى "مسرح"، فيكون نتاج التفاعل بينهما مجرّد كيتش آخر.
في اكتوبر من العام قبل الفائت، عندما حصلت فلسطين-السلطة على عضويّة كاملة في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، اليونيسكو، ساد على الفور خطاب النصر، وعلت صيحات التهليل. نفس الخطاب تمّ استخدامه بعد الحصول على عضويّة غير كاملة في الأمم المتحدة بعد تصويت الجمعيّة العموميّة الشهير. في الأيّام القليلة التي أعقبت كلا الحدثين، انكشف المشهد على بؤس الواقع الذي لم يتغيّر ولو قليلاً بهاذين «الانتصارين».
في المثالين السابقين، كان الشطر الأعظم من خطاب النصر يُنتج ويصدّر من داخل المؤسسة الرسميّة الفلسطينيّة. خطاب النصر، في حالة «باب الشمس»، كان يتم انتاجه وتصديره، في دلالة خطرة، عبر قنوات إعلاميّة شبابيّة مستقلة نسبيًا، ومن أشخاص يجري تصنيف أغلبهم على أنّهم على خلاف مع العقليّة الحاكمة في رام الله. ما بين اعتبار القرية/المخيّم التي تم انشاؤها في منطقة E1 في القدس المحتلّة «رمزًا للصحوة الفلسطينيّة» والتأكيد على أنّها «أزعجت نتنياهو» أكثر من صاروخ فجر المنطلق من غزّة، كانت «الأفورة» سيّدة المشهد بامتياز.
بعد انقضاء الفعاليّة، وقلع الخيام الخمسة والعشرين التي كانت قد نصبت، وبعد عودة من كانوا في «باب الشمس» إلى حياتهم الاعتياديّة، يظلّ ملحًا أن نشرّح ما حدث، وكيف حدث، وأن نفحص بموضوعيّة مدى وماهيّة اشتباكه مع سلطة الاحتلال على أرض الواقع، بعيدًا عن «الرومانسيّة الأدبيّة» التي وسمت التناول التحليلي لباب الشمس إبّان كونه مفتوحًا و «رمزًا للصحوة الفلسطينيّة» وإزعاجًا لنتنياهو والإنتلجنسيا الصهيونيّة.
النقطة الأولى، والأهم، هي التمويل. من موّل «باب الشمس»؟ من الذي جاء بالفلسطينيين في باصات، وزوّدهم بالأغطية والمخدّات وما شاكلها من المستلزمات؟. الاجابة تشمل لجان تنسيق المقاومة الشعبيّة (PSCC) التي دعت للفعاليّة ونسقتها، وهي تتلقى تمويلها بشكل أساسي من مكتب رئيس الوزراء سلام فيّاض بواقع نصف مليون شيكل سنويًا، بالإضافة لتوليفة من منظمات المجتمع المدني التي لا تريد أن يطلق الفلسطينيون النار على «إسرائيل»، وتحبّذ –على طريقة جبريل الرجوب- أن نظهر بمظهر «لائق» أمام العالم. ترددت أنباء على أن مكتب السيد الرئيس بدوره كان له إسهامه في التمويل والتشجيع، إذا زار غير واحد من أصحاب لوحات السيّارات الحمراء «باب الشمس» وأثنوا على من فيها.
في معرض اشتباكها مع الاحتلال الاسرائيلي، لم تقدّم «باب الشمس» جديدًا على الصعيد الايجابي، بل واشتملت في أوّل مواجهة مباشرة بين الجنود الاسرائيليين والشباب الفلسطيني على علامة فشل إداري يدلل على خلل في فهم ماهيّة الفعل المقاوم في حدّ ذاته. ما أن سلّم الاسرائيليون الفلسطينيين أمر الإخلاء حتى انبرى المحامون الفلسطينيون مؤكدين لمن في «باب الشمس» أنّ القانون الاسرائيلي يتيح لهم الاقامة مدّة ستة أيام كاملة قبل تنفيذ قرار الاخلاء. اللعبة كانت، إذًا، وفق القواعد الاسرائيليّة، وتحت سقف المحكمة الاسرائيلية العليا الذي لم يخترقه، للأسف، الفلسطينيّون كما يفترض، بل جاء اختراقه من جانب الاسرائيليين أنفسهم.
إعلاميًا، مثلث "باب الشمس" فرصة سانحة لكل مسؤولي السلطة ليؤكدوا من خلالها أنّ شباب فلسطين متمسكون بحل الدولتين، وأنّ القدس الشرقيّة عاصمة أبديّة لدولة فلسطين. لم يصل ضوء الشمس التي انفتح بابها في منطقة E1 لينير على قضايا السكّان الدائمين لتلك المنطقة المهددة بالاستيطان والتهويد، كم ولم يحاول أيٌّ من الناشطين الفاعلين على الأرض الاشارة إلى تلك المعطيات واستغلال المزاج الاعلامي لكسب بعض النقاط. ضوء باب الشمس، كما تبيّن، كان محصورًا عليها وحدها، وما سواها كانت العتمة من نصيبه. حتّى ما جاء لاحقًا من قرى تمّ إنشاؤها على نفس المذهب، كقرية الكرامة التي تمّ ارتجالها على عجل في «بيت إكسا» وغيرها من القرى التي لم تمثّل، على ما يبدو، لا رمزًا للصحوة، ولا مادة يتغنّى فيها الشعراء. هذا البؤس المنكشف بعد تكرار التجربة لاشكّ يعني الكثير.
يقول الروائي التشيكي اللامع ميلان كونديرا متحدثًا عن الكيتش؛ أي الفن عديم القيمة: «الكيتش يُؤدي إلى انهمار دمعتين بسرعة وعلى التوالي. الدمعة الأولى تقول: كَم هوَ جميل أن ترى الأولاد تركض على العشب! الدمعة الثانية تقول: كم هو لطيف أن تتأثّر، مع كل الجنس البشري، من ركض الأطفال على العشب! إنّها الدمعة الثانية، ما يجعل الكيتش كيتشاً». في حالة باب الشمس، دمعة الكيتش الأولى تقول: كم هو جميل أن ترى الفلسطينيين ينصبون الخيام في منطقة E1. الدمعة الثانية تقول: كم هو لطيف أن تتأثر، مع من يتحدثون الانجليزيّة بالدرجة الأولى من الجنس البشري، من رؤية الفلسطينيين ينصبون الخيام في منطقة E1. وفي الحالتين، يكون الكيتش كيتشًا بامتياز.