ليس مقنعًا بالمرّة، بالنسبة لي على الأقل، أنّ "إسرائيل" تمنح أهل الضفة الغربيّة مئات الآلاف من التصاريح "لإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي". بمعرفة اقتصاديّة بسيطة، وبحدس معيّن، يبدو ذلك التبرير كلامًا فارغًا بامتياز. ومن ثم فإنّ الضفة الغربية، من أقصاها إلى أقصاها، ملحقة تمامًا بالاقتصاد الاسرائيلي بقدّه وقديده، فكيف يكون دخول الفلسطينيين للتسوّق في مولات تل أبيب "إنعاشًا للاقتصاد" في حين أنّ ما سيشترونه متوافر، على الأغلب، في أسواق رام الله، وسيصب ربحه في حلقة اقتصاديّة واحدة "إسرائيل" طرفها الأقوى بما تنصّ عليه الاتفاقات التي منها اتفاقية باريس سيئة الذكر؟
أمّا لماذا تمنح اسرائيل هذا الكم من التصاريح؟ التبرير الذي يبدو، بالنسبة لي، أقرب إلى الواقع، هو سياسة الـ Good cop Bad cop. لا تهديد جدي لمصالح "إسرائيل" في الضفة، لا حراك شعبي عارم، لا طرق لخزّان أوسلو، بل وتنظيم للسير على حاجز قلنديا، فلماذا -من وجهة نظر المحتلّ- لا نكافئهم؟ هذا هو التعريف الحقيقي للتصاريح في شكلها المكتسح، بمئات الآلاف: مكافئة من "إسرائيل" لمجموع شعبي على حسن سيره وسلوكه.
في كتاب "نحو الحكم الذاتي الفلسطيني" الذي صدر عام 1993 كنتاج لورشة نقاش جمعت أكاديميين فلسطينيين وإسرائيليين وأمريكان، كان ثمة باب يتحدث عن اجراءات بناء الثقة. كان من بين تلك الاجراءات تخفيف ساعات حظر التجول حتى إلغائها تمامًا وما شاكل ذلك من اجراءات بسيطة ستسهل عيش الفرد العادي.
اللعبة، منذ الأزل وحتى اليوم، تكمن في كلمة "الثقة" هذه. بين الأقوى والأضعف لا يوجد ثقة، لا يمكن -لأسباب فلسفيّة وعملانيّة- أن يوجد. تخفيف ساعات الحظر وتسهيل السفر ومنح التصاريح لا يمكن أن نراها كإجراءات بناء ثقة، بل كما هي عليه حقًا: مكرمة أو عطايا للرعيّة المؤدبة، ومرهونة بمطلقها لاستمرار حالة السمع والطاعة.
أما محاولة البعض توجيه هذه الظاهرة غير الطبيعية، والمقززة على صعيد عاطفيّ بحت، نحو "خدمة فلسطين" بإطلاق مبادرة لتحديد الأماكن التي سيزورها الفلسطينيون حملة التصاريح داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، في محاولة لمنعهم من التبضّع لدى جهات تجارية اسرائيليّة، واقتراح متاجر ومطاعم ومقاهي يملكها فلسطينيون في الداخل، تلك المحاولة التي لا تقول شيئًا بالمرّة عن دلالة هذه التصاريح، ولا عن أسباب استصدارها، ولا عن طريقة التعامل معها، لا تبدو جديّة وعلى اشتباك مع هذه الظاهرة. إنها مبادرة طبقة وسطى مدفوعة بالنوايا الحسنة إياها التي تدفع للشعور بالغثيان.
أنا لا أستنكر بالمطلق تلك المبادرة ولا أعيب القائمين عليها، لكنني أقول أنّ مبادرتهم تلك، بشكلها ومفاعيلها، تذكرني بالمثل القائل: مش قادر على الحمار، بيتشاطر ع البردعة.