كان أول من استلم الجندي شاليط من أيدي رجال الله بعد قتل رفاقه وأسره من داخل دبابة الميركافاه، فيما عرف بعملية الوهم المتبدد شرق رفح التي بددت أوهام المحتلين والمنافقين من أن حماس (ركبوا الجيبات وتركوا العمليات)، عقب فوزها بانتخابات التشريعي وتشكيلها الحكومة عام ٢٠٠٦.
أعقبتها هجمة مجنونة من الجيش المهزوم، كانت الأشد منذ بداية انتفاضة الأقصى الثانية، دمر خلالها محطة الكهرباء المركزية والجسور ومبان حكومية وبنى تحتية.
اعتقد العدو المتغطرس، أن الضغط العسكري والقتل والتدمير سيدفع حماس إلى تسليم شاليط دون ثمن، ردت الحركة بأن "شاليط لن يرى النور ما لم يره أسرانا".
وبدأت من وقتها، أعقد عملية أمنية واستخباراتية، وصراع أدمغة بين دوائر الأمن والاستخبارات الإسرائيلية واستخبارات وأمن القسام، في محاولة لتحرير شاليط، دون ثمن.
لكن قائد لواء خانيونس محمد السنوار، العقل المفكر، لوحدة الظل القسامية، قد أعد العدة مسبقا، وتجهز مع رفاق دربه لمعركة طويلة مع العدو، عنوانها (لا تحرير دون ثمن).
كثفت إسرائيل من جهودها الاستخبارية، حاولت اغتياله أكثر من مرة، نجح الشاباك باغتيال عدد من المخططين لعملية الوهم المتبدد، التي حطمت كبرياء الجيش الذي قيل إنه لا يقهر، وحطت من هيبته، وداست على كرامته.
حتى وصلنا إلى صفقة مشرفة، وفاء الأحرار ٢٠١١، وإجبار نتنياهو على التوقيع على تحرير ١٠٧٤ أسيرا وأسيرة، أكثر من نصفهم من أصحاب المؤبدات، وعلى رأسهم أخيه يحيى السنوار الذي سيقود معه بعد ١٢ سنة، طوفان الأقصى الذي قضى على أحلام المستوطنين بالبقاء ووضع إسرائيل على شفا جرف هار سينهار بها عما قريب.
تحقق هدف السنوار محمد ورفاقه، وأصبح لنتنياهو ثأر شخصي مع من أجبروه على التوقيع! صار مطلوبا وملاحقا على الدوام، اختفى عن الأنظار، وتنقل بين المواقع والمسؤوليات، من قيادة اللواء، إلى مسؤول قطاع الجنوب إلى الإمداد، حتى ركن العمليات وقيادة الأركان.
كان مقربا جدا من قائد الأركان المبارك، ضيف الأمة، وهو الذي اقترح عليه في بدايات المطاردة ٩٢، باغتيال رابين رئيس وزراء العدو، الذي تمنى أن يصحو يوما من يومه ويجد غزة قد ابتلعها البحر!
رجل في ريعان شبابه يضع على رأس أهدافه، اغتيال رأس الهرم الإسرائيلي وصانع القرار هناك، ووضع الخطط العملياتية لتحقيقه، غير أن الظروف حالت دون الوصول إليه قبل مقتله برصاص مستوطن يميني .
كان أكاديمية عسكرية متكاملة، فالرجل الذي جمع كل الصواريخ الإسرائيلية التي ضربت غزة ولم تنفجر خلال جولات التصعيد والحروب، وتتبع صناعاتها وتواريخ انتاجها، وتوصل إلى دراسات بحثية عجيبة، وعرف محدودية مخزون العدو التي اضطرته إلى استخدام صواريخ قديمة، فضلا عن الدخول إلى العقل الإسرائيلي ومعرفة الأوقات التي قد يختارها لتنفيذ عمليات اغتيال أو شن الحروب!
لم يكن رجلا عاديا، وهو الذي اشتكى في سنواته الأخيرة، من وجع ظهره، فقد كان يشرف بنفسه على خطة الانتهاء من شبكة الأنفاق، ينزل ويحفر ويحمل الرمال، متقدما على جنوده وتلاميذه.
لقد حباه الله ببنيان جسدي، له هيبة ووقار، وأكرمه بعقل استراتيجي، سبق العقل الإسرائيلي، وتفوق عليه مع رفاقه في دائرة اتخاذ القرار المقربة، بتوجيه الضربة الأمنية التاريخية الاستباقية، في السابع من أكتوبر، يوم العبور العظيم.
قاد هيئة الأركان في الشهور الأخيرة من الحرب، بعد ارتقاء القادة، حتى اغتياله بمئات الأطنان والقنابل الدقيقة التي ألقتها أحدث الطائرات الأمريكية المتطورة على نفق شرق خانيونس، ليرتقي مع رفيق دربه قائد لواء رفح محمد شبانة (سأكتب عنه لاحقا)، ليختم مسيرة طويلة من البذل والعطاء والجهاد وإيلام العدو طيلة ٣٠ عاما من المطاردة والإعداد والتدريب، إلى أن دق مسمار الزوال في عرش إسرائيل.
خسارتنا به عظيمة، وخلق أمثاله صناعة معقدة، لكنها أقدار الله، وحكمته البالغة، فلكل زمان رجاله، ولكل مرحلة أبطالها، فالقائد يخلفه قادة والجندي عشرة والشهيد ألف، حركة مباركة في أرض مباركة، لن تعقم أرحامها عن ولادة الرجال ، قالها التاريخ وأكدتها التجربة.



