شبكة قدس الإخبارية

المرحلة الثانية بين التعطيل الإسرائيلي والحسابات الأميركية: قراءة في مستقبل اتفاق غزة

589c5244a1e7ed788790ca91c8bea4c8-89634119 (1)
أحمد الطناني

تدخل خطة وقف إطلاق النار في قطاع غزة مرحلة دقيقة مع تعاظم المؤشرات إلى صعوبة الانتقال إلى المرحلة الثانية، مع أن أسابيع قد مرت على تثبيت الهدوء النسبي وفتح مسار تفاوضي متعدد المستويات. فعلى الرغم من الضغوط الأميركية المتزايدة على الحكومة الإسرائيلية للالتزام بالمتفق عليه في "خطة النقاط العشرين"، فإن السلوك الإسرائيلي يوحي بأن تل أبيب تعمل على هندسة تطبيق الخطة وفق مقاربة مختلفة تماماً، تُبقي غزة في حالة "لا حرب ولا سلم"، وتمنح الحكومة الإسرائيلية قدرة على استخدام الوقت كأداة لإعادة صوغ الوقائع الميدانية والسياسية، بما يخدم أهداف الحرب التي لم تتخل عنها بعد عامين من الإبادة.

في هذا السياق، عاد ملف جثمان آخر الأسرى الإسرائيليين إلى واجهة المشهد كذريعة مركزية لتعطيل التقدم، بعدما حولته إسرائيل إلى شرط فوق سياسي، يعلّق عليه نتنياهو وائتلافه اليميني كامل المسار، ويمنع أي نقاش جدي في قضايا إعادة الإعمار، أو الانسحاب من مناطق الخط الأصفر، أو توسيع إدخال المساعدات.

وبدلاً من أن يشكل الاتفاق فرصة حقيقية لإنهاء الحرب وإعادة غزة إلى مسار التعافي، يبدو أن إسرائيل تستثمر نقاط الغموض والفراغ في الخطة الأميركية لتقديم نسختها الخاصة منها: نسخة تضمن استمرار السيطرة العسكرية، والإبقاء على التشوهات التي خلَّفتها الحرب كأمر واقع، من دون أن تدفع ثمناً سياسياً أو أخلاقياً، لحصارها الطويل.

في المقابل، تتحرك الولايات المتحدة على خط موازٍ؛ إذ تحاول الدفع في اتجاه المرحلة الثانية عبر استكمال هندسة "مجلس السلام"، وتشكيل قوة دولية قادرة على تولي بعض المهام الأمنية والإدارية في القطاع، غير أن مسار التشكيل لا يزال يواجه عقبات حقيقية ترتبط بالرفض الإسرائيلي لدول بعينها، وغياب استعداد دول أُخرى للانخراط في مهمة محفوفة بالمخاطر السياسية والميدانية.

وبين موقف أميركي يريد الانتقال قُدماً، وموقف إسرائيلي يعيد إنتاج التعطيل تحت عناوين إنسانية أو أمنية، يبقى القطاع عالقاً في مساحة رمادية لا تقدم فيها ولا تراجع، فيما تتسع الهوة بين نص الاتفاق وروحه من جهة، والتطبيق الإسرائيلي على الأرض من جهة أخرى.

تحول هذه الأوضاع المرحلة التالية من الاتفاق إلى معركة سياسية بامتياز، يتداخل فيها الحساب الانتخابي الإسرائيلي، والارتباك الأمريكي، وصراع الرؤى حول مستقبل غزة، وتتعاظم فيها رهانات الأطراف على "عامل الوقت" بوصفه المحدد الأساسي لأي تقدم أو انهيار محتمل.

الموقف الإسرائيلي من المرحلة الثانية وتحليل دوافعه

تتعامل إسرائيل مع المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار كمسار مشروط لا كالتزام، وتتعمد إبقاءه معلقاً على قضايا جزئية تمنحها هامشاً واسعاً للمناورة، وفي مقدمة هذه القضايا ملف جثمان آخر أسير إسرائيلي في غزة.

فقد رفعت تل أبيب هذا الملف إلى مستوى الشرط المُسبق، وبلّغت واشنطن والوسطاء أنها لن تبحث أي بند من بنود المرحلة الثانية قبل استعادة الرفات، على الرغم من أن جوهر الاتفاق لا يربط التقدم في التنفيذ بهذه المسألة تحديداً. وبهذا، تحولت قضية آخر الجثث إلى أداة سياسية تُستخدم لإبطاء المسار، وإبقاء غزة في حالة الجمود التي تتناسب مع حسابات نتنياهو وائتلافه اليميني.

روجت الأوساط الإسرائيلية كثيراً لفكرة أن حركة "حماس" تعرف أكثر مما تعلن حول مكان الرفات، وأنها لا تبذل جهداً كافياً في البحث، وهي رواية استخدمتها الحكومة الإسرائيلية لتبرير رفضها فتح معبر رفح، أو زيادة المساعدات الإنسانية، أو التراجع عن مواقع انتشارها العسكري شرق الخط الأصفر.

عكس النقاش داخل الكابينت الإسرائيلي الكثير من التوتر، فبينما يرى بعض الوزراء أن الانتقال إلى المرحلة الثانية أصبح أمراً لا يمكن تجنبه في ضوء الضغوط الأميركية، يصر نتنياهو ووزراء اليمين على أن الاستجابة لأي ضغط خارجي قبل استعادة الجثامين سيُعد تراجعاً سياسياً، يضر بصورتهم داخل جمهورهم الانتخابي.

في هذا الإطار، ومع دخول عام الانتخابات، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية يتحرك بمنطق انتخابي، يقوم على الإبقاء على حالة "اللاسلم واللاحرب" بصفتها الحالة المثالية لحشد قاعدته، وإظهار نفسه كمن يرفض الخضوع للإملاءات الخارجية.

كذلك، يوفر هذا التعطيل غطاءً لاستمرار السيطرة العسكرية داخل أجزاء واسعة من القطاع، واستكمال مشروعه الذي لم يكتمل عسكرياً، والقاضي بإعادة صوغ غزة سياسياً واجتماعياً بما يضمن تفكيك البنية الوطنية للمجتمع، ومحاصرة أي قدرة للمقاومة على إعادة بناء قوتها.

ولا تقتصر دوافع إسرائيل على الحساب الانتخابي فحسب، بل تمتد أيضاً إلى قراءة أمنية أبعد، إذ تخشى الحكومة الإسرائيلية أن يتحول الانتقال إلى المرحلة الثانية إلى التزام بوقف الحرب إيقافاً كاملاً، وهو ما يعني الانسحاب من مناطق واسعة، وعودة إعمار القطاع، وبدء مسار يعيد غزة إلى الحياة الطبيعية.

تتعارض هذه النتيجة مع الرؤية الإسرائيلية التي تعتبر أن قطاع غزة القابل للعيش، هو قطاع قد يبدد طموحات دفع سكان غزة إلى الهجرة الطوعية، وبالتالي تراهن إسرائيل على إطالة أمد الانهيار الإنساني والبنياني قدر الإمكان، كجزء من معادلة تحقيق الأهداف بعيدة المدى.

ويُظهر موقف إسرائيل من المرحلة الثانية أيضاً محاولة واضحة لتفريغ الاتفاق من روحه، وتحويله من اتفاق لوقف إطلاق النار إلى اتفاق لاستسلام المقاومة تدريجياً، عبر دمج أدوات القوة الناعمة والخشنة في المرحلة السياسية: نزع السلاح، وإعادة الهيكلة الداخلية، وقوة دولية تعمل وفق شروط إسرائيلية، وإدارة مدنية تصاغ بتفويض دولي لا يراعي إرادة الفلسطينيين. ولذلك، فإن الانتقال إلى المرحلة الثانية –وفق الرؤية الإسرائيلية– لا يحدث إلا إذا تحقق شرطان:

أن تمنح واشنطن إسرائيل دوراً أساسياً في كل جزئية من جزئيات تطبيق المرحلة.

أن تُسهم الأطوار السياسية الجديدة في استكمال أهداف الحرب التي فشلت الآلة العسكرية في إنجازها.

من هنا، يمكن القول إن إسرائيل ليست في عجلة من أمرها، فهي تُدرك أن واشنطن غير مستعدة لتجدد القتال، وتعلم أن الوسطاء لا يملكون أدوات ضغط كافية، وترى أن الوقت في صالحها. وبينما يستمر الأميركيون في الحديث عن ضرورة تنفيذ المرحلة الثانية، تستخدم إسرائيل الملفات –ومنها ملف الجثامين– لإعادة إنتاج التعطيل نفسه، ضمن بيئة إقليمية ودولية تسمح لها بالتمادي من دون مواجهة كلفة سياسية حقيقية. 

خطط تقسيم غزة الأميركية وتحليل أهدافها

تطرح الولايات المتحدة، بالتوازي مع جهودها لتثبيت وقف إطلاق النار، مجموعة من التصورات التي باتت تُعرف إسرائيلياً وأمريكياً باسم "خطة المناطق الخضراء والحمراء"، وهي صيغة محدَّثة لمشاريع قديمة ظهرت منذ الأسابيع الأولى للحرب، حين روجت تل أبيب لمفاهيم مثل "الفقاعات الإنسانية" و"الجزر الآمنة". وعلى الرغم من تغير المسميات، فإن جوهر الفكرة بقي ثابتاً: إعادة هندسة الجغرافيا السكانية في قطاع غزة عبر فصل مناطق السيطرة، وخلق بيئات بشرية جديدة تحت إشراف دولي–أميركي، وبمعزل عن المقاومة.

ووفق ما كشفته "وول ستريت جورنال"، فإن الخطة الأميركية تقوم على تقسيم غزة فعلياً إلى منطقتين:

المنطقة الحمراء: وهي المناطق الواقعة غرب الخط الأصفر، والتي تُصنَّف أنها تحت سيطرة "حماس" أو تقع ضمن نطاق نفوذها الاجتماعي والسياسي.

المنطقة الخضراء: وهي المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل شرق الخط الأصفر، حيث تعمل فرق هندسية أميركية على تخطيط تجمعات موقتة، توفر خدمات تعليمية وصحية وسكنية للنازحين الفلسطينيين.

هذه البلدات المقترحة ليست مجرد مخيمات موقتة، بل تُعرض كـ"نماذج أولية" لإعادة الإعمار المستقبلية، في رهان واضح على سحب السكان تدريجياً نحو مناطق تعدها الولايات المتحدة أكثر استقراراً، وبعيداً عن نفوذ "حماس".

ويجري العمل حالياً –بحسب التقارير– في مركز التنسيق المدني العسكري الموجود في مستوطنة كريات جات جنوبي الأراضي المحتلة، حيث تقود واشنطن تشكيلاً متعدد الجنسيات للتخطيط للمشهد الجديد داخل غزة.

لكن هذه الخطة تواجه منذ الآن جملةً من الإشكاليات العميقة، تجعلها أقرب إلى مشروع نظري لا يمتلك قابلية حقيقية للتطبيق. أولى هذه الإشكاليات استحالة فصل المجتمع الغزي على أسس سياسية أو أيديولوجية، فالبنية الاجتماعية في غزة متداخلة وعالية التلاحم، وليس هناك خطوط ديموغرافية يمكن البناء عليها لتمييز "فلسطيني مقبول" و"فلسطيني غير مقبول".

لذلك، فإن أي محاولة لتقسيم القطاع على أساس خطوط سياسية –كما جرى طرحه– تصطدم بجدار الواقع، تماماً كما فشلت سابقاً خطط "الفقاعات" التي لم تستطع عزل السكان عن مناطقهم، أو خلق كيانات بديلة.

وأما الإشكالية الثانية فهي أن هذه المقترحات الأميركية تجري على وقع انسجام إسرائيلي كامل مع فكرة تقسيم غزة ميدانياً، لكنها في الوقت ذاته تُستخدم كورقة سياسية لإبقاء الوضع معلقاً. فإسرائيل تعلم أن هذه البلدات الموقتة لن تُبنى قريباً، وأنها تتطلب شهوراً وربما سنوات من التخطيط والبناء، لكنها ترحب بالنقاش حولها لأنها تُشتت الجهد الأمريكي عن النقطة الجوهرية: وقف الحرب فعلياً، وبدء الانسحاب من المناطق التي تحتلها.

وأما الإشكالية الثالثة فتتعلق بالموقف العربي، وخصوصاً المصري، الذي يرى في الخطة خطوة خطيرة قد تفتح الباب لتقسيم فعلي ودائم للقطاع، وتؤسس لوقائع ديموغرافية جديدة تهدد أمن سيناء، وتخلق واقعاً سياسياً يتجاوز الدور المصري المركزي في إدارة الملف الفلسطيني. ولهذا، فإن القاهرة تقارب هذه الخطط بحذر يصل إلى حد الرفض الصامت.

على المستوى الأعم، تكشف هذه الخطط عدم جهوزية أميركية للتقدم بمشاريع واقعية، مقابل رغبة واضحة من إسرائيل في استثمار هذا الارتباك لمصلحتها. فالاحتلال يراهن على عامل الزمن؛ كلما طال انشغال واشنطن بخيارات غير عملية، تراجع مستوى انخراطها التفصيلي في ملف ترتيبات إنهاء الحرب، وازدادت مساحة الحركة الإسرائيلية لإعادة إنتاج العدوان بأطر جديدة تُبقي القطاع في حالة انهيار طويل. 

معضلة إدارة غزة والقوة الدولية.. التفويض، والتشكيل، والمأزق البنيوي

يقع مجلس السلام والقوة الدولية المزمع نشرها في غزة، في قلب المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، بصفتهما البنية الإدارية والأمنية التي ستُناط بها مهمة تثبيت الهدوء، وإدارة مناطق الانسحاب الإسرائيلي، وإسناد ترتيبات الحكم الفلسطيني الجديد.

غير أن ما يظهر في العلن يؤكد أن هذه المنظومة، التي نص عليها قرار مجلس الأمن، لا تزال في مربع الفكرة، في ظل تعثُّر تشكيل القوة الدولية، وتضارب مواقف الأطراف المنخرطة فيها، ورفض إسرائيل القاطع لأي تشكيل لا يخدم أجندتها.

من الناحية العملية، تواجه واشنطن –التي تتولى قيادة الملف– صعوبات كبيرة في إقناع دول عربية، أو إسلامية، بالمشاركة في نشر قوة يصل قوامها إلى عدة آلاف من الجنود، داخل قطاع غزة.

وعلى الرغم من أن أذربيجان أبدت سابقاً استعداداً مبدئياً للإرسال، فإنها تراجعت لاحقاً، خوفاً من تعريض حياة جنودها للخطر في غزة، في وقت تبدو فيه تركيا راغبة في ملء الفراغ وإدخال قواتها إلى غزة. هذا الطرح ترفضه إسرائيل بشدة، بذريعة أن تركيا وقطر تحتضنان قيادات من حركة "حماس". فيما تبدي إسرائيل استعداداً لقبول قوات من دول بعيدة سياسياً وثقافياً عن مسرح الصراع، مثل أذربيجان أو إندونيسيا، وهو ما يعكس رغبتها في تطويع القوة الدولية، لتصبح امتداداً غير مباشر للرؤية الإسرائيلية.

ويُظهر السلوك الإسرائيلي نقطة أخرى من التعقيد: فتل أبيب لا تكتفي بالاعتراض على جنسية القوات المشاركة، بل تتدخل أيضاً في شكل التفويض، وما إذا كانت القوة ستعمل بمعزل عن الجيش الإسرائيلي أو بالتنسيق معه، بالإضافة إلى مسألة منحها صلاحيات في مناطق ما تزال إسرائيل تدّعي الحاجة إلى عمليات وقائية فيها. وهذا ضمن مقاربة تفرّغ القوة الدولية من مضمونها، وتحوّلها إلى جسم ضعيف يخضع لشبكة المصالح الأمنية الإسرائيلية، بدلاً من أن يكون إطاراً محايداً يُسهم في تثبيت الهدنة.

إلى جانب ذلك، لا تزال تفاصيل بروتوكول تشغيل القوة، وسلسلة القيادة، وقواعد الاشتباك، غير جاهزة. فحتى لو توفر الجنود، فإن دخولهم إلى غزة يتطلب أشهراً من التدريب والتنسيق، ووضع آليات واضحة للتعامل مع المدنيين، والفصائل المسلحة، وحالات الخرق المحتملة.

تعني هذه التعقيدات أن الحديث عن قرب انتشار القوة الدولية غير واقعي، وأنها لن تكون حاضرة في الميدان قبل فترة طويلة، وهو ما يمنح إسرائيل عامل الوقت الذي تحتاجه لتعطيل الانتقال إلى المرحلة الثانية.

وأما "لجنة إدارة غزة" –التي يُفترض أن تقود الإطار السياسي والإداري للمرحلة التالية– فهي الأخرى تعاني من غياب التوافق، فإسرائيل تريد إدارة محلية منزوعة الصلاحيات، تعمل بصفتها هيئة تنفيذية لا تمتلك قدرة على اتخاذ القرار، بينما ترغب واشنطن في إدارة تُسند إلى السلطة الفلسطينية بعد "إصلاحها"، ويمنحها واجهة لإدارة القطاع.

في المقابل، ترى الأطراف الفلسطينية أن الحكم الانتقالي يجب أن يحافظ على الحد الأدنى من التمثيل الوطني، وجزءٍ من النظام السياسي الفلسطيني الرسمي، وألا يتحول إلى صيغة تُستخدم لفرض إدارة سياسية لا تعبر عن الإرادة الفلسطينية.

وتزداد الصورة تعقيداً لأن الأطراف الإقليمية تتعامل مع هذه المؤسسات –القوة الدولية والإدارة– بصفتها إطاراً لتحديد النفوذ داخل غزة ما بعد الحرب. فمصر، وقطر، وتركيا، والأردن، وحتى الإمارات، تنظر إلى هذه الهياكل على أنها أدوات تؤثر في تموضعها في الملف الفلسطيني. ولهذا، فإن التنافس الإقليمي ينعكس على مسار التشكيل.

في الخلاصة، فإن المعضلة الحقيقية ليست تقنية ولا لوجستية فقط، بل سياسية بامتياز: كيف يمكن إنشاء قوة دولية وإدارة انتقالية تعملان ضمن بيئة مشبعة بالحساسيات، من دون أن تتحولا إلى أدوات لتكريس الأمر الواقع الإسرائيلي أو إلى عنوان جديد للتدويل وتفكيك النظام السياسي الفلسطيني؟ وحتى الآن، تبدو الإجابة غير واضحة، وهو ما يجعل المرحلة الثانية رهينة حلقة فارغة من الوعود غير المكتملة. 

الخاتمة

تبدو المرحلة التالية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة محاصرة بين رغبتين متصارعتين: رغبة أميركية معلنة في الانتقال إلى مسار سياسي يضمن تثبيت الهدنة وفتح الطريق أمام إعادة الإعمار، ورغبة إسرائيلية واضحة في إبقاء المشهد معلقاً، واستخدام كل ثغرة ممكنة لإدامة السيطرة العسكرية ومنع أي تحول حقيقي في واقع القطاع. وبين هاتين الرغبتين، يظل الاتفاق في حالة انتظار تستهلك الوقت وتُبقي غزة أسيرة واقع ما بعد الإبادة، بلا أفق سياسي حقيقي.

إن اشتراط إسرائيل استعادة آخر الجثامين قبل أي تقدم، وتعثر تشكيل القوة الدولية، وضبابية التفويض الممنوح والتشكيل الفعلي لمجلس السلام، وتعدد الرؤى الأميركية، وتعدد الرؤى الإقليمية، كلها عوامل تجعل من المرحلة الثانية عنواناً بلا مضمون حتى الآن. فالآليات غير مكتملة، والإرادة السياسية غير موحدة، والبيئة الإقليمية لا تزال تتعامل مع غزة كمساحة نفوذ وتجاذب، أكثر من كونها مساحة التزام جماعي بحل مستدام.

وعلى الرغم من ذلك، فلا يمكن القول إن الأبواب مغلقة بالكامل، فالموقف الأميركي -مهما بدا متردداً- يُدرك أن استمرار التعطيل الإسرائيلي يقوض مصداقية واشنطن، ويهدد بتحولات إقليمية غير مرغوبة. كما أن الأطراف الفلسطينية قدمت في القاهرة تصوراً عملياً يستند إلى الحد الأدنى من الواقعية السياسية، ويمهد –إذا توفرت إرادة دولية– لبدء خطوات تنفيذية تعيد تحريك الاتفاق من حالة الجمود الحالية.

لكن العامل الحاسم يبقى في النهاية مرتبطاً بمدى استعداد الولايات المتحدة لاستخدام أدوات الضغط على إسرائيل، وبالقدرة على تحويل الخطط النظرية إلى إجراءات ملموسة تجبر تل أبيب على الالتزام بتسلسل الاتفاق كما هو، لا كما ترغب. وحتى يأتي ذلك الوقت، ستظل المرحلة الثانية معلقة بين الحسابات السياسية الإسرائيلية والقيود الميدانية، وبين الرغبة الدولية بالاستقرار ورغبة إسرائيل بإبقاء غزة في حالة لا سلم ولا حرب.

وهكذا، فإن مستقبل الاتفاق في الأسابيع المقبلة سيعتمد على ما إذا كانت واشنطن ستكتفي بإدارة الأزمة، أو أنها ستسعى فعلياً إلى إنهائها. وفي كل الأحوال، يبقى المؤكد أن غزة تحتاج قبل كل شيء إلى قرار جدي ينهي الحرب نهائياً ويعيد الحياة إلى مسارها الطبيعي، بعيداً عن الحسابات الانتخابية الإسرائيلية والأوراق التكتيكية، التي تُستخدم لإبقاء القطاع عالقاً في مربع الانهيار.