شبكة قدس الإخبارية

التهدئة كأداة حرب: قراءة في منهجية الاحتلال باغتيال قادة المقاومة خلال الهدوء

photo_2025-12-13_16-26-51
رامي أبو زبيدة

لا يتعامل الاحتلال الإسرائيلي مع ما يُسمّى “التهدئة” في قطاع غزة بوصفها حالة توقف عن الحرب، بل كمرحلة عملياتية مختلفة تُدار فيها المعركة بأدوات أقل ضجيجًا وأكثر دقة. فالاغتيالات والاستهدافات الانتقائية التي نُفّذت خلال الفترة الأخيرة تكشف بوضوح أن الحرب لم تنتهِ، بل أُعيد تدويرها ضمن نمط جديد يقوم على الضرب المتقطع، وإدارة الصراع بدل حسمه.

يحرص الاحتلال على اختلاق مبررات ميدانية لتسويق عدوانه باعتباره “ردًا دفاعيًا”، كما في ادعائه أن اغتيال القيادي رائد سعد جاء عقب خرق لوقف إطلاق النار. غير أن هذا الخطاب لا يخرج عن كونه محاولة مكشوفة لإعادة تعريف مفهوم الخرق نفسه، بحيث يصبح أي حادث أمني أو اشتباك محدود او اختلاق احداث غير موجودة في عمق سيطرته داخل الخط الاصفر ذريعة كافية لتنفيذ عملية اغتيال، وفرض معادلة جديدة قوامها أن التهدئة لا تعني الأمان، وأن الاحتلال يحتفظ بحق الضرب متى شاء.

عسكريًا، يسعى الاحتلال من خلال هذا السلوك إلى فرض قواعد اشتباك أحادية الجانب، تمنحه حرية العمل الجوي والاستخباراتي داخل القطاع دون التزامات سياسية أو قانونية. فالضربات المحدودة لا تهدف فقط إلى إيقاع خسائر مباشرة، بل إلى الحفاظ على زمام المبادرة، ومنع المقاومة من الانتقال من مرحلة الصمود إلى مرحلة التعافي وإعادة التنظيم. إن اغتيال القادة خلال الهدوء يهدف أساسًا إلى ضرب الاستمرارية القيادية، وإبقاء البنية التنظيمية للمقاومة في حالة استنزاف دائم.

أمنيًا، تشير كثافة العمل الاستخباراتي إلى أن الاحتلال يستغل فترة الهدوء لتحديث بنك أهدافه استعدادًا لجولات قادمة. فعدم تسريح وحدات سلاح الجو والطيران المسيّر، واستمرار عمل شعبة الاستخبارات العسكرية بكامل طاقتها، يؤكد أن إسرائيل لم تُنهِ حالة الحرب، بل أبقتها في مستوى أقل كثافة وأكثر انتقائية. هذه المرحلة تُستخدم لجمع المعلومات، اختبار الجهوزية، وقياس ردود الفعل الميدانية والسياسية على الاغتيالات.

كما يندرج استهداف الأجهزة الأمنية في قطاع غزة ضمن سياسة مدروسة تهدف إلى إضعاف منظومة الضبط الداخلي، وخلق بيئة فوضى أمنية محسوبة. فالاحتلال يدرك أن ضرب الاستقرار الداخلي يحقق له أهدافًا مضاعفة: إرباك المجتمع، تحميل المقاومة مسؤولية أي انفلات، وتوفير مبررات إضافية للتدخل العسكري لاحقًا. 

في السياق نفسه، يمكن قراءة ما يجري في غزة بوصفه محاولة لاستنساخ النموذج المطبّق في لبنان حيث لا حرب شاملة، بل اعتداءات متقطعة تضمن لإسرائيل حرية الحركة وتمنع الطرف الآخر من بناء قوة رادعة مستقرة. هذا النموذج يسمح للاحتلال بإدامة الاستنزاف بأقل كلفة ممكنة، مع تقليص الضغوط الدولية مقارنة بالحروب المفتوحة.

سياسيًا، يخدم هذا النمط من العمليات حكومة بنيامين نتنياهو، التي لا تخفي أن الحرب في غزة لم تنتهِ بعد. فالتصعيد المحدود يمنح الحكومة هامشًا واسعًا للمناورة الداخلية، ويُبقي ملف “الأمن” حاضرًا في الخطاب السياسي، بما يبرر استمرار السياسات العدوانية ويحول دون أي مسار سياسي جاد. كما أن إبقاء التهديد قائمًا يساعد نتنياهو على التهرب من أزماته الداخلية، وتصدير صورة القيادة الصارمة أمام جمهوره.

السيناريو الأخطر يكمن في تطبيع هذا النمط من الاستباحة، بحيث تتحول الضربات “الخاطفة” إلى حالة دائمة، تُنفّذ على مدار الوقت، وإن كانت أقل كثافة من الحرب الشاملة. وهذا يعني عمليًا تكريس واقع أمني جديد في قطاع غزة، تُنتهك فيه التهدئة بشكل مستمر، ويُفتح الباب أمام نزيف دم متواصل بلا سقف زمني أو ضمانات حقيقية.

إذا ما يجري ليس خرقًا عابرًا لوقف إطلاق النار، بل محاولة إسرائيلية واعية لإعادة تعريف التهدئة ذاتها، وتحويلها إلى أداة من أدوات الحرب. تهدئة بلا التزامات، وبلا حماية، وبلا ضمانات، تُستخدم لتجميع الأهداف، وفرض قواعد اشتباك جديدة، وإدامة السيطرة العسكرية والأمنية على قطاع غزة. وهو واقع يستدعي موقفًا واضحًا من الوسطاء والضامنين، قبل أن تتحول هذه السياسة إلى أمر واقع دائم، يُشرعن الاستباحة ويُطيل أمد الصراع