تعيش إسرائيل اليوم واحدة من أكثر لحظاتها انكشافًا منذ تأسيسها. فالقضية لم تعد مجرّد نقاش قانوني حول “طلب عفو” يقدمه رئيس حكومة متهم بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، بل تحولت، كما تعكسه الصحافة الاسرائيلية وتقاريرها اليومية، إلى لحظة تفكك سياسي شامل، تكشف عن هشاشة البنية الحزبية، وانهيار نظام الحكم، وتحول الدولة إلى مسرح لابتزاز متبادل أقرب إلى منطق العصابات منه إلى عمل مؤسسات.
من يتابع تغطية وسائل الإعلام الإسرائيلية يرى بوضوح أن الرئيس يتسحاق هرتسوغ لم يعد وسيطاً بين المعسكرات، بل رهينة لصراع شخصي وسياسي قذر. نتنياهو يطلب عفواً بلا ثمن، بلا ندم، وبلا اعتراف، ويواصل في الوقت نفسه السير في مشروع تفكيك القضاء وإفراغ الدولة من مضمونها. وفي المقابل، موتي سندر، صديقه السابق، يهدد بنشر مواد محرجة إذا منح الرئيس العفو. يتعامل الطرفان مع رأس الدولة كما لو أنه قطعة ضمن لعبة ابتزاز؛ ليس مقاماً رمزياً ولا مؤسسة سيادية، بل حلقة في مسلسل جريمة سياسية مفتوحة.
هذا المشهد يعيد تعريف نتنياهو ليس كزعيم سياسي، بل كزعيم عصابة. فهو بحسب وصف مقربين منه في التقارير العبرية، بات يفكّر كمجرم ويتصرف كمجرم: يأخذ أكثر مما يعطي، يبتز قبل أن يتفاوض، ويحوّل كل مؤسسة إلى حاجز يجب تدميره أو تطويعه. ولو مُنح العفو اليوم، سيعلن نفسه “مُبرّأً”، وسيستخدم العفو لضرب القضاء، ولإطلاق يد وزرائه المتطرفين، ولتسريع الانقلاب القضائي بذريعة “تصحيح تاريخي”.
ويصدق أحد فعلاً أنه بعد دقيقة من العفو سيُوقف “اللجنة الخاصة” التي تهدف للسيطرة على الإعلام الحر؟ سيجمد قانون تغيير تركيبة لجنة اختيار القضاة؟ سيلغي قرار الحكومة بإقالة غالي بهراف–ميارا؟ سيطلب من إيتمار بن غفير وتسڤيكا فوگل التوقف عن حفلة التحريض على الإعدامات؟ سيطلب من سموتريتش الاتصال بسيمحا روتمان ليدفن الفأس؟ الواقع يقول إن هذه المخاطر ستستمر أو تتفاقم، ولن يكون العفو سوى أداة لتبرير استمرار الانقلاب على مؤسسات الدولة.
لكن الأزمة ليست نتنياهو وحده؛ إنها ثمرة تآكل طويل أصاب الحياة الحزبية الإسرائيلية.
الليكود، الذي كان يوماً حزب الدولة وصاحب مدرسة سياسية كاملة، صار اليوم مجرد طائفة تدور حول شخص واحد. لا نقاش داخلي، لا انتخابات داخلية، ولا قيادات قادرة على طرح بديل. نواب الحزب يتسابقون في التحريض على القضاء والإعلام، وفي الهجوم على المجتمع المدني، كأن الولاء الشخصي حلّ محل كل مفهوم للدولة.
المعارضة، من جهتها، تلعب دوراً أكثر بؤسًاً: كتلة بلا قيادة، بلا جرأة، وبلا خيال سياسي. تهتف في الشارع، لكنها تتهرب من مواجهة الحقيقة السياسية: أن إسرائيل تحتاج مشروعاً جديد، بينما تفضّل المعارضة الانتظار حتى يسقط نتنياهو بفضل القضاء، لا بفضل بديل تقدمه هي. إنها معارضة تحيا على أخطاء الحكومة، لا على قدراتها.
أما اليمين الديني والقومي سموتريتش وبن غفير وليفين — فقد أصبح مركز الثقل الحقيقي في الحكم. هؤلاء ليسوا مجرد شركاء في ائتلاف، بل أصحاب مشروع أيديولوجي واضح: ترويض القضاء، إخضاع الإعلام، تغيير تركيبة الدولة، وربط بقاء الحكومة ببقاء نمط حكم يميني متطرف. وفي ظل ذلك، يتحول نتنياهو إلى رئيس شكلي؛ يستخدمهم للبقاء، ويستخدمونه لفرض مشروعهم.
الحريديم، من جانبهم، يجندون الدولة لخدمة امتيازاتهم فقط. قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية، الذي وصفته المستشارة القانونية بـ”الكابوس الدستوري”، ليس قانونًا يتعلق بالأمن أو بالعدل، بل ترجمة مباشرة لتحول السياسة الإسرائيلية إلى نظام محاصصة يفتقر لأي مفهوم للمساواة المدنية.
هذا التفكك يمتد ليشمل كل مؤسسات الدولة: الإعلام الذي يُدار بعقلية “لجان مطاردة السحرة”، التعليم الذي يتحول إلى ساحة تجنيد أيديولوجي، القضاء الذي يتعرض لتهديدات علنية، والجيش الذي يُستنزَف في معارك سياسية، وليس فقط عسكرية. وكل ذلك يجري بينما تسير إسرائيل — كما تقول بعض التحليلات الإسرائيلية — نحو نموذج هنغاريا أو بولندا، مع فارق واحد حاسم: هناك، يريد الزعيم دولة قوية، أما هنا فالزعيم لا يريد دولة أصلًا، بل شبكة حماية من السجن.
القضية إذًا ليست “هل يمنح هرتسوغ العفو أم لا؟” فالعفو، في جوهره، ليس قضية قانونية، بل اختبار وجودي لطبيعة النظام. إنه مرآة تعكس دولة تتفكك فيها الأحزاب، وتضعف فيها المؤسسات، ويُختزل فيها المستقبل السياسي لرئيس حكومة يبتز الدولة، ورئيس دولة يتجنب المواجهة، ونظام حزبي فقد أي قدرة على إنتاج قيادة أو بديل.
إسرائيل اليوم لا تعيش أزمة عفو، بل أزمة دولة. أزمة تكشف أن السؤال لم يعد يتعلق بمستقبل نتنياهو، بل بمستقبل النظام كله: هل تبقى دولة مؤسسات أم تتحول إلى دولة رجل واحد؟



