تُظهر التوترات المتصاعدة بين إسرائيل و«حزب الله» أنّ فهم بنية القوة داخل الحزب لم يعد ترفاً بحثياً، بل ضرورة استراتيجية لفهم مسار الصراع وتقدير اتجاهاته المقبلة. وفي هذا السياق يقدّم معهد «مسغاف» للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية قراءة مفصلة لطبيعة القوة التي يمتلكها الحزب، مُعتبِراً أنها تقوم على ثلاث مكونات أساسية تشكل في مجموعها بنيته الصلبة، وتفسّر قدرته على الصمود والمناورة والردع.
ومن المهم التأكيد منذ البداية أنّ ما يجري عرضه هنا يمثّل الرؤية والتحليل الإسرائيلي كما ورد في المصدر الأصلي، ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظرنا أو تبنٍ لأي من خلاصاتها، بل يُقدَّم في إطار المتابعة والرصد والتحليل المهني لمضامين الخطاب الأمني الإسرائيلي.*
أولاً: القوة العسكرية… الذراع الأكثر حضوراً
يرى تقرير «مسغاف» أن السلاح يبقى المكوّن الأكثر وضوحاً في صورة «حزب الله»، باعتباره الأساس الذي يمنحه القدرة على فرض معادلات الردع، وخلق أعباء مستمرة على إسرائيل. وبرغم الضربات المتكررة، فإن الحزب، وفق التقرير، حافظ على مسار إنتاج السلاح محلياً، وعلى خطوط الإمداد التي لا تزال تمر عبر إيران وسوريا، ما يعني أن أي مواجهة تكتيكية لن تكون كافية لوقف قدرته على تجديد ترسانته. اغتيال هيثم علي طبطبائي ـ أحد أبرز قادة الجناح العسكري ـ شكل نقطة اختبار حساسة، إلا أن تأثيره، وفق الرؤية الإسرائيلية، لن يمس جوهر البنية العسكرية المستمرة بالتوسع.
ثانياً: منظومة الدعوة والخدمات… القاعدة الاجتماعية التي لا تسقط
المكون الثاني، الذي يراه التقرير لا يقل خطورة عن السلاح، هو منظومة الدعوة والرعاية والخدمات التي ينظمها «حزب الله» داخل البيئة الشيعية في لبنان. شبكة واسعة تضم الصحة والتعليم والإعلام والعمل الاجتماعي، تشكّل معاً رافعة التجنيد ومرتكز الولاء الشعبي. ومن أبرز مؤسسات هذا النظام جمعية «كشافة الإمام المهدي»، التي احتفلت مؤخراً بمرور أربعين عاماً على تأسيسها، بمهرجان حشد عشرات آلاف الفتية والشباب.
يؤكد التقرير أن هذه المؤسسة ليست نشاطاً تربوياً فحسب، بل مشروع إعداد عقائدي وتنظيمي طويل المدى، يربط الأجيال بالقيادة الدينية والسياسية للحزب، ويغرس قيم الثورة الإيرانية والعداء لإسرائيل، لتبقى البيئة الشيعية ـ حسب الوصف ـ بمثابة «الأكسجين» لوجود الحزب واستمراره.
ثالثاً: العلاقة مع إيران… الرافعة الكبرى
أما المكوّن الثالث فهو العلاقة العضوية مع النظام الإيراني، الذي يشكل الحاضنة الأيديولوجية والسياسية والعسكرية للحزب. التقرير يشير بوضوح إلى أن إيران لا تزال تعتبر «تدمير إسرائيل» هدفاً بعيد المدى، وترى في «حزب الله» أداتها الأكبر لتحقيق ذلك. إلا أن طهران، وفق ما يورده «مسغاف»، لا تدفع الحزب حالياً إلى مواجهة واسعة، بل تمنحه حرية تقدير الرد بعد اغتيال طبطبائي، إدراكاً منها أن أي تصعيد كبير قد يبدد إنجازات استراتيجية راكمها الحزب خلال السنوات الماضية.
توازنات القرار داخل الحزب… بين الرد والامتناع
يفتح التقرير نافذة على النقاش الداخلي في «حزب الله» حول شكل الرد: فريق يرى ضرورة الرد لحفظ معادلة الردع، وآخر يميل إلى تأجيله لتجنب جرّ الحزب إلى معركة استنزاف خارج توقيته. ويخلص إلى أن القيادة تميل إلى الامتناع المرحلي، مع تركيز كبير على معرفة مصادر الاختراق الاستخباري الذي أدى إلى استهداف طبطبائي.
الدولة اللبنانية والفراغ السيادي
كما يلفت تقرير «مسغاف» إلى ضعف قدرة الدولة اللبنانية على استثمار لحظة الضغط على الحزب. إذ يشير إلى أن الجيش اللبناني ـ بما فيه من ضباط شيعة ـ يلتزم تفاهمات تمنع الاحتكاك مع الحزب في الجنوب، وأن هناك تنسيقاً بين ضباط كبار وعناصر الحزب يُفضي إلى إخلاء مواقع قبل وصول قوات الجيش. وهو ما يراه التقرير دليلاً على عمق نفوذ الحزب داخل مؤسسات الدولة.
وفق قراءة «مسغاف»، فإن مواجهة «حزب الله» تحتاج إلى استراتيجية لا تكتفي بالضربات العسكرية، بل تمتد إلى ضرب أعمدة قوته الثلاثة: الحدّ من الإمداد الإيراني، كسر احتكار الخدمات داخل البيئة الشيعية، ومنع قدرته على إعادة بناء القوة القتالية بسرعة. وتخلص الدراسة إلى أن الحزب، بما يمتلكه من بنية اجتماعية وعسكرية وإقليمية معقدة، لن يتأثر بتكتيكات موضعية، وأن أي تغيير حقيقي في معادلة الصراع يتطلب سياسة شاملة تتعامل مع «المنظومة» لا مع السلاح فقط.
هذه الرؤية الإسرائيلية تعكس حجم القلق من تماسك بنية الحزب، وتقدّم ـ للمراقب ـ تصوراً واضحاً حول كيفية قراءة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لطبيعة التحدي الذي يفرضه «حزب الله» على حدودها الشمالية، وعلى مستقبل المعادلات الإقليمية برمتها.



