شبكة قدس الإخبارية

إشكالية التنبؤ الإسرائيلي: كيف تكسر العمليات الفردية قواعد الأمن التقليدي؟

عملية-شعفاط-696x391
رامي أبو زبيدة

تشهد الضفة الغربية اليوم حالة متصاعدة من الفعل الميداني مع تكرار عمليات الدهس والطعن وإطلاق النار الفردية، وهي عمليات تعيد إلى الواجهة نموذج «المقاومة بلا قيادة». 

وبرأيي، فإن هذا النمط من العمليات ليس مجرد رد فعل عابر أو موجة مؤقتة، بل نتيجة طبيعية لواقع سياسي وأمني واجتماعي يضغط على الفلسطينيين، ويغلق أمامهم كل الخيارات، فيما يمارس الاحتلال سياسة القوة الميدانية القصوى، ما يجعل هذه العمليات تتكاثر خارج أي قدرة إسرائيلية على التنبؤ أو الإحباط.

العمليات الفردية تقوم على عنصر القرار الشخصي، حيث يحدد الشاب الفلسطيني هدفه، ويقرر التحرك دون أن يشرك أحدًا معه، ودون أن يكون جزءًا من خلية أو مجموعة أو سلسلة قيادة. هذا الأسلوب – على بساطته – يخلخل الركائز الأساسية للعقل الأمني الإسرائيلي القائم على تقنيات التتبع والمراقبة والتنصت، لأن هذه التقنيات تعمل بكفاءة عندما تكون هناك بنية تنظيمية أو مسار اتصالات أو خطة تشاركية. لكن هنا، كل شيء يُدار في داخل الفرد نفسه، في دائرة مغلقة لا يمكن للمنظومة الاستخبارية اختراقها.

 الاحتكاك الميداني واليومي في الضفة بين المواطنين من جهة، والمستوطنين والجيش من جهة أخرى. ومع تصاعد اقتحامات المدن والمخيمات، واستمرار الهجمات الاستيطانية، يولد شعور عام بالعدوان الدائم، ما يدفع الشباب نحو المبادرة الذاتية بعيدًا عن أي قنوات أخرى. ومن المهم التأكيد أن هذه العمليات ليست موجهة عبر تنظيمات، بل هي انعكاس مباشر لضغط اجتماعي وأمني يعيشه جيل كامل يرى أن الخيارات تتقلص أمامه بشكل خطير.

تأثير هذه العمليات على الاحتلال كبير، ليس من ناحية حجمها أو أدواتها، بل من ناحية طبيعتها. فالاحتلال يعتمد في سياسته الأمنية على مفهوم «التحكم والسيطرة»، وهو الأساس الذي تبنى عليه كل خطواته الميدانية: مركزية القرار، جمع المعلومات، تحليل التهديدات، الضربة الاستباقية، ثم الإحباط الوقائي. 

لكن العمليات الفردية لا تمنح الجيش أيًا من هذه المزايا؛ فلا يوجد خط سير يمكن توقعه، ولا معلومات مسبقة، ولا شبكة تواصل تترك أثرًا، ولا حسابات تنظيمية يمكن تحليلها. كل ما يحدث هو قرار مفاجئ من فرد لا تملك إسرائيل أي تأثير على مساره النفسي أو الزمني.

من هنا، تظهر إشكالية السيطرة التي تحدثت عنها في مقالات سابقة: عندما تفقد القوة المسيطرة القدرة على فهم ما يجري داخل المجتمع الذي تهيمن عليه، فإنها تبدأ في فقدان القدرة على التوقع، وهي أخطر خسارة يمكن أن تواجه جهازًا أمنيًا يعتمد على نظرية «الوقاية قبل الحدث». فالعمليات الفردية تسير عكس هذه النظرية تمامًا، وتنفذ غالبًا من خارج دائرة الشبهات، ومن أفراد لا يُعرف لهم سجل، ولا ينتمون لبنية يمكن مراقبتها.

هذا الواقع يجعل الضفة الغربية اليوم الساحة الأكثر إرباكًا للاحتلال. فالعمليات الفردية لا تحتاج إلى إمكانات كبيرة، ولا تعتمد على بنية معقدة، لكنها تتغذى من عدوانية وجرائم الاحتلال ومستوطنيه بشكل دائم، وتُظهر أن منظومة الأمن الإسرائيلية – رغم التكنولوجيا الضخمة والقدرات الاستخبارية – غير قادرة على فهم حركة المجتمع الفلسطيني أو اختراق دوافعه. وكلما ازدادت الضغوط، زادت احتمالات ظهور مبادرات جديدة من أشخاص جدد لا يظهرون على الرادار.

إن انتشار هذا النمط من العمليات يرتبط بشكل مباشر بتراجع الثقة بالعمل السياسي، وبتوسع حالة الاحتكاك على الأرض، واليوم، ومع توسع حالة الاحتكاك ، تصبح كل عملية ناجحة سابقة مصدر إلهام لعملية جديدة، وكل إخفاق إسرائيلي في التوقع مصدرًا لشعور بأن هذا الشكل من العمل قادر على إرباك قوة كبرى دون تكلفة كبيرة.

لذلك، فإن مستقبل الضفة الغربية يبدو متجهًا نحو مزيد من التعقيد، إذ إن الاحتلال – رغم قدراته – لا يملك أدوات حقيقية لوقف عمليات تعتمد على قرار فردي، ولا يمكنها هندسة البيئة النفسية والاجتماعية للفرد الفلسطيني في ظل استمرار سياساتها الحالية. ومع توسع المستوطنات، والاقتحامات اليومية، والاستفزازات المتكررة في القدس، فإن هذا النمط مرشح للاتساع لا للانحسار.

وفي المحصلة، فإن الضفة الغربية اليوم تشهد تحوّلًا لافتًا في طبيعة السلوك المقاوم، تحوّلٌ يتجاوز القدرة الإسرائيلية التقليدية على الضبط والاحتواء. فالعمليات الفردية، بقراراتها الذاتية ومساراتها غير المتوقعة، تفرض حالة من الاستنزاف الأمني والاستخباري يصعب التعامل معها عبر الأدوات القديمة القائمة على المراقبة والاختراق وتفكيك البنى التنظيمية. وفي المقابل، تواصل الفصائل الفلسطينية جهودها المنظمة في بناء قدرات محلية، وتطوير خلايا وهياكل ميدانية في بعض مناطق الضفة، ما يعني أن الساحة لا تُدار بمنطق واحد بل بمنطقين متوازيين.

ومن هنا، تبرز رؤيتي التي أؤكدها في معظم قراءاتي: إن استمرار العمليات الفردية بالتوازي مع العمل المنظم للفصائل الفلسطينية يُنتج بيئة مقاومة معقدة ومتعددة المستويات، تختلف عن النماذج التقليدية التي عرفتها المنطقة سابقًا. هذا التوازي لا يعني اندماجًا أو قيادة موحدة، لكنه يخلق – موضوعيًا – حالة يصعب على الاحتلال تفكيكها أو التعامل معها، لأنها تجمع بين فعل غير هرمي غير قابل للتوقع، وفعل منظم يمتلك بنية وقدرات ومراكمة خبرة.

بهذا المعنى، تتحول الضفة الغربية إلى ساحة ذات طابع فريد:

ساحة تتجاور فيها المبادرة الفردية غير الخاضعة لأي نمط استخباري، مع العمل التنظيمي الذي يحافظ على حضوره وتأثيره. وهذا الامتزاج – رغم أنه غير مخطط – ينتج مشهدًا مركبًا يصعب على الاحتلال التحكم بمساراته، ويعمّق من حالة الإرباك داخل منظومتها الأمنية والعسكرية، التي تجد نفسها أمام أشكال متعددة من التحديات لا تبدأ عند القدرة على التنبؤ ولا تنتهي عند القدرة على التدخل في اللحظة المناسبة.

وبذلك، يبدو أن الضفة الغربية تتجه نحو مرحلة تتسع فيها الفجوة بين قدرة الاحتلال على السيطرة، وقدرة الواقع الميداني على إنتاج أنماط مقاومة جديدة، وهو ما يجعل المشهد أكثر تعقيدًا وأطول أمدًا مما يُقدّر في الحسابات الإسرائيلية الحالية.


.