شبكة قدس الإخبارية

السلطة الفلسطينية في امتحانها الثاني

سلطة عباس
عريب الرنتاوي

لم يعد يُؤتى على ذكر السلطة الفلسطينية من دون استدراكات تتصل حصرا بـ"الإصلاح"، ولم يعد إصلاح السلطة شأنا وطنيا فلسطينيا خالصا، بل بات متطلبا دوليا، مدعوما بكتلة عربية وإسلامية، أو بلغة أخرى، لقد تم "تدويل" قضية الإصلاح و"تعريبها" و"أسلمتها"، ما يدفع بالسلطة إلى تقديم "أولوية الإصلاح" على ما عداها من أولويات تحفل بها أجندتها.

ولسنا نأتي بجديد، إن نحن قلنا إن إصلاح السلطة احتل مكان الصدارة في أولويات الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والمدنية منذ نشأتها قبل أزيد من ثلاثين عاما، واشتدت الحاجة الوطنية لإنجاز هذا الملف المُستعصي في السنوات الأخيرة، بعد أن تفشت مظاهر الفساد والإفساد في أوساطها، وأخذت تُضعف دورها وأداءها، وتهدد مكانتها المتآكلة أصلا بفعل الصلف الإسرائيلي، وبعد أن بات ملف "التوريث" و"الخلافة" حاضرا بقوة في مختلف الأروقة ذات الصلة خلال الأعوام القليلة الفائتة.

بين إصلاح وطني، وآخر دولي

بين إصلاح وطني، مطلوب من قبل قاعدة واسعة من الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وكياناته، وآخر محكوم بـ"دفتر شروط" أميركية-إسرائيلية، ثمة بون شاسع.

هذا لا يشبه ذاك، وكل منهما يضع القضية والمشروع الوطنيين الفلسطينيين في اتجاهين مختلفين، وعلى سكتين متعاكستين.. السلطة رفضت الأول برغم النداءات والمطالبات المتكررة، بيد أنها اليوم، تغذ الخطى لإنجاز أجندة الثاني وعناوينه، كارهة أم طائعة، لا فرق، فالملف برمته، لم يعد بيدها، وكل خطوة تخطوها، باتت تخضع لرقابة دولية لصيقة وكثيفة.

بين إصلاحين

ليس كل "إصلاح" يجري الحديث عنه إصلاحا. بعض حديث الإصلاح، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه فيه الخراب.

البرنامج الوطني للإصلاح يضع نصب عينيه، وفي صدارة أولوياته، إعادة بعث وتجديد منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي لشعب فلسطين، على أسس وطنية- ديمقراطية، تعددية، تمثيلية، تجمع الكل ولا تستثني أحدا، وبصورة عابرة لحدود الجغرافيا، والأيديولوجيات، والأجيال، والانتماءات السياسية، ودائما على قاعدة وحدة الشعب والأرض والقضية ووحدانية التمثيل.

البرنامج الدولي للإصلاح لا يرى سوى السلطة، ويستبدلها بالمنظمة، هي المبتدأ وهي الخبر، حتى وإن لم يُنص على ذلك صراحة، مختزلا الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، في "شعب الضفة وغزة"، أو من تبقى منه، ناجيا من مؤامرة التهجير والتفريغ، التي وإن تعثرت، إلا أنها لم تُهزم بعد.

البرنامج الوطني للإصلاح يضع في صدارة أهدافه، تعزيز صمود الفلسطينيين على أرضهم وفوق ترابهم الوطني، بوصفهم كتلة فاعلة في مقاومة الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري، وعقلية الإلغاء والإبادة، فيما البرنامج المفروض دوليا، يسعى في إعادة إنتاج وتعميم مشروع "الإنسان الفلسطيني الجديد" للثنائي توني بلير والجنرال كيت دايتون، أو "الإنسان ذي البعد الواحد"، الذي لا يرى مستقبلا خاصا لنفسه بعيدا عن التبعية الذيلية والذليلة لكيان الاحتلال، الإنسان الذي يرى في عدوه مشروع حليف، وفي "ابن جلدته" مشروع تهديد.

البرنامج الوطني للإصلاح يريد للنظام الفلسطيني أن يتجدد ويتشبب، ولشرعيته أن تُستعاد عبر صناديق الاقتراع، في الداخل وكل مكان في الخارج أمكن فيه لهذه الصناديق أن تستقبل أصواته وأوراقه.

أما البرنامج الآخر، فلا مطرح للانتخابات على رزنامته، إلا إذا ضمن اللاعبون الكبار والصغار بأنها ستأتي بمن هم على صورة السلطة اليوم وشاكلتها.

وأما حديث أركان السلطة عن انتخابات بعد عام من وقف الحرب على غزة، فلم يُقنع غالبية الفلسطينيين بجديته وجدواه، ورأت فيه ذرا للرماد في العيون، وتوطئة لتحويل "المؤقت" من ترتيبات انتقال السلطة إلى "دائم"، ما دامت "القوانين بمراسيم"، تضمن استمرار مسار "التكيف" مع الإملاءات الأميركية، وتستجيب لمقتضيات ما يمكن وصفه بـ"الوكالة الفرنسية" لبرنامج الإصلاح ومشروع "الدستور الجديد".

البرنامج الوطني للإصلاح يسعى في بناء "اقتصاد صمود- مقاوم"، يعزز من جهة هدف إبقاء الفلسطينيين فوق ترابهم الوطني، ويعزز روح انتمائهم لأرضهم وزيتونهم وقراهم.

فيما البرنامج الدولي للإصلاح، يسعى في إقامة أنماط اقتصادية استهلاكية تابعة، كفيلة بإخضاع جيل من الفلسطينيين لعبودية المصارف والأقساط والكمبيالات، حتى لا يخرج من بينهم من يفكر بقذف الاحتلال بحجر.

تلكم هي الخلاصة التي توصل إليها بلير-دايتون من تجربة ما بعد الانتفاضة الثانية، وقبل ظهور "جيل زد" من أبناء الضفة الغربية وبناتها.

البرنامج الوطني للإصلاح يضع في صدارة أولوياته، صون الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني وضمان تفوق "سرديته"، كما حصل بفعل الطوفان، وينشئ ما يكفي من المؤسسات، ويخصص ما يلزم من موازنات، لتحقيق هذه المهمة.

فيما البرنامج الدولي للإصلاح، يضع في صدارة أولوياته، تفريغ الذاكرة، وإعادة صوغ الرواية الفلسطينية، والاعتداء على كِتابنا المدرسي وأهازيج أمهاتنا، ودائما بذريعة مكافحة خطاب الكراهية والتحريض على العنف.

وإذا كان شهداء الشعب الفلسطيني وأسراه، هم أعمدة السردية الفلسطينية، ومفاتيح الذاكرة الجمعية لشعب فلسطين، واستحقوا لذلك مكانة مرموقة في عقول وقلوب وضمائر أبناء شعبهم وبناته، فإن البرنامج الدولي للإصلاح، يخصص أولوية متقدمة لحملات شيطنتهم، ووسمهم بالإرهاب، وإسقاطهم من ذاكرة شعبهم ووجدانه، بل وجعلهم "عبرة لمن اعتبر".

تجريب المُجرب

السلطة رفضت الاستجابة للنداءات الوطنية والشعبية للإصلاح، وأدارت ظهرها لكل من نادى بها، بل وسعت إلى شيطنة هؤلاء ونعتهم بشتى الأوصاف والاتهامات.

وبدل الشروع في ترجمة أجندة مستحقة وطنيا، تسارع اليوم للاستجابة إلى مندرجات برنامج دولي للإصلاح، تنظر غالبية شعبها إليه نظرة شك وريبة واتهام.

والمؤسف أن السلطة اليوم، تكرر ما فعلته بالأمس دون جدوى، فقد سبق لها أن خضعت لبرنامج مماثل بعد اغتيال أول رئيس لها: ياسر عرفات، ومرت بمخاض شبيه، وبقيادة نفس الوجوه والشخصيات الدولية، أو من هم على صورتهم وشاكلتهم. قدمت كل شيء في سنوات ما بعد الانتفاضة، ولم تحصل على شيء في المقابل، سوى تآكل "سلطتها" و"مكانتها"، وعودة الفساد للتفشي في أوساطها، وانفضاض حاضنتها الشعبية من حولها.

قبل عشرين عاما، مرت السلطة بالمخاضات ذاتها، وسط موقف دولي وإقليمي أفضل، وقبل أن يأتي ترامب في ولايتيه: الأولى والثانية، ليقلب المشهد رأسا على عقب، وقبل أن تتمكن الفاشية من الإمساك بتلابيب الدولة والمجتمع الإسرائيليين. ومع ذلك، لم تفضِ الإصلاحات المفروضة من الخارج إلى تحقيق الحلم بالانتقال من السلطة إلى الدولة.

صحيح أن طوفان الأقصى استحدث زخما دوليا مواتيا لفلسطين وحقوق شعبها وروايتها، بيد أن الصحيح كذلك، أن لا واشنطن ولا تل أبيب، بوارد الاتساق مع هذه الانقلابات في المشهد الدولي.. فيما الوضع العربي، يزداد ضعفا وخذلانا، فما الذي يجعل السلطة تعتقد أن حظوظها هذه المرة، ستكون أفضل بكثير من حظها في الجولة السابقة؟

وهل تكفي جملة ملتبسة في مبادرة ترامب وقرار مجلس الأمن الأخير، حول مسار لدولة وتقرير المصير، حتى يجري التبشير بأن الدولة باتت على مبعدة عامين أو ثلاثة، وأن مزيدا من التكيف والتساوق مع الإملاءات الدولية، من شأنه تسريع الولادة؟

أخطر ما في المقاربة الرسمية الفلسطينية (والعربية عموما)، أنها تشف عن استعداد لتقديم الأثمان مقدما وبالجملة، قبل التأكد من جدية الطرف الآخر في "تسليم البضاعة".. لقد باعونا البضاعة الكاسدة ذاتها، مرات ومرات، وقبضوا الثمن، دون أن يتقدموا خطوة جدية واحدة على طريق التسلم والتسليم.

اليوم، يجري تسويق محاولات تجريد الشعب من مقاومته، والمقاومة من أسنانها وأنيابها، وإسقاط الحواجز في وجه تطبيع الوجود الإسرائيلي في المنطقة، نظير "وعد ترامب" بأن يأخذ بعين العطف تطلعات الفلسطينيين للدولة وتقرير المصير.

في أزمنة كان فيها الموقف الأميركي أكثر وضوحا لجهة القبول بالدولة، وقبلها "ورقة كلينتون غير الرسمية"، ومعاييره لحل قضايا الوضع النهائي، بما فيها قضية القدس واللاجئين، وفي زمن أُجبر فيه نتنياهو شخصيا على الاعتراف بـ"حل الدولتين" في خطاب "بار إيلان"، وبعد ذلك في خريطة الطريق والرباعية الدولية، وقبل انطلاق مسار التطبيع الأبراهامي.. في تلك الأزمنة، لم يفِ هؤلاء جميعا بوعدهم، بتمكين الشعب الفلسطيني من دولته، فلماذا الاعتقاد بأنهم سيفعلون ذلك هذه المرة؟ أهو خيار اليائسين، أم بداية طريق التساوق والقبول بمخرجات الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية؟

رفضت السلطة البرنامج الوطني للإصلاح، لتجد نفسها مرغمة على الانصياع لبرنامج دولي للإصلاح والوصاية الدولية، وليجد شعبها نفسه من جديد، في مواجهة مع "انتداب أميركي"، لن تكون نتائجه أحسن حالا من حصاد الانتداب البريطاني قبل ثمانية عقود.

ولو أنها اختارت طريق تقديم التنازلات لشعبها، لما وجدت نفسها مضطرة على تقديمها لخصومه وأعدائه، ولكانت، وكان الفلسطينيون، قد تجنبوا العواقب الخطيرة لعهد الوصاية الأميركية وقرار مجلس الأمن الأخير.