شبكة قدس الإخبارية

الوجه الحقيقي للمشروع الإسرائيلي: ميليشيات المستوطنين تقود الإبادة وتفرض الضم

photo_٢٠٢٥-١١-١٨_١٠-٥٧-٣٥

خاص - شبكة قدس: تخلق عدوانية ميلشيات المستوطنين معها تغييرات لا على المستويات السياسية العليا في الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال فقط، بل في تفاصيل الحياة اليومية والاجتماعية والزراعية وغيرها من الفسيفساء الكبيرة التي يشكل مجموعها الصورة الكبيرة التي تظهر أمامنا عند معاينة الواقع، الذي لا يتوقف يومياً عن التدحرج نحو جغرافيا فلسطينية ممزقة يحكمها المستوطنون وخلفهم حكومة الاحتلال التي توفر لهم الدعم السياسي والمالي والعسكري لتحقيق مشروع الإبادة والتهجير والضم، وصولاً إلى الهدف الأعلى فلسطين من البحر إلى النهر إسرائيلية خالصة.

تنتشر ميليشيات المستوطنين التي اكتسبت قوة مضاعفة، في السنوات الماضية، وتعززت مع صعود قوى الصهيونية الدينية إلى الحكم، في فضاءات جغرافية حساسة بالنسبة لحياة الفلسطينيين، وهي تعمل بوعي على إزاحة الفلسطيني من هذه المواقع الجغرافية التي تمثل له مفاتيح بقاء وصمود وتحصيل معيشة وامتداداً عمرانياً هو نقيض للمستوطنة التي يعني قيامها موتاً للفلسطيني في الجغرافيا.

ومن هذا المنظور يتشكل الصراع اليومي بين الفلسطيني والمستوطن على الأرض، بين فهم مضاد للجغرافيا، بين من يراها ساحة لحربه لتحقيق مشروع إفناء الفلسطينيين، وتكسير امتدادهم الجغرافي لحصره في أدنى مساحة من الجغرافيا، وبين من اعتاد على بيئة توارث تفاعله معها عبر أجيال ممتدة عبر العصور، وشكلت له مصدر البقاء والتراث والهوية والثقافة.

فضاءات حياة

أمام الفلسطيني الذي يعيش في القرى أو التجمعات البلدية المنتشرة، في أرياف الضفة الغربية والقدس المحتلتين، فضاءات جغرافية يمتد فيها زراعياً وعمرانياً ويتفاعل معها وجدانياً ونفسياً وثقافياً أبرزها: الجبل، والسهل، والواد.

هذه الأيقونات الجغرافية في القرية والبلدة الفلسطينية ارتبطت بحياة الفلاحين والمجتمع الفلسطيني عامة، منذ عصور ممتدة، بما أن النمط الزراعي كان هو السائد اقتصادياً، في فلسطين، في حقب طويلة، قبل التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي نقلت فئات من السكان إلى مجالات عمل أخرى وحرمت جزء منهم من أرضهم بفعل الاستعمار، في المقام الأول.

يتفاعل الفلسطيني مع الجبل على أنه الفضاء الجغرافي الذي يصعد منه إلى عالم أكثر وضوحاً، وفيه يمكن أن يكون له بيته المستقبلي، وعليه يجد النباتات البرية المختلفة التي وصلت له عبر الأجيال أخبار فوائدها، وفيه الأرض التي لها رمزية لارتباطها بالصراع ودماء الشهداء والتضحيات، وإليه قد يتوجه للترفيه والهروب من ضغوطات الحياة والأحزان، وعليه قد يجد المسرات والترويح، ويغرس أشجاره.

وفي السهول أخصب التربة التي عرفت فلسطين فيها زراعة أنواع مختلفة من الخضراوات، وهي التي تشكل سلة غذائية للسكان، منذ قديم الزمان، ومصدراً اقتصادياً لعديد العائلات، بالإضافة لما لها من صورة جمالية شكلت إبهاراً ألوانياً لمجاوريها والزائرين والرحالة المارين قربها، خاصة في فصول الربيع التي تتلون فيها فلسطين بأنواع متنوعة من الزهور والنباتات.

وتشكلت مع الأودية التي تجري في جغرافية فلسطين، ثقافات شعبية تقوم في جانب منها على الماء الذي هو شريان الحياة، خاصة في بلاد تعيش على انتظار المطر لكي تنجح مواسمها الزراعية، وتمر مواسم من الجفاف وأخرى أكثر مطرية، لذلك حضر الماء والأنهار والوديان في أشعار الناس وأغانيهم الشعبية وفي الدلالات على الاستبشار وانتظار الخير، هذا مع تفاعلات أخرى لها علاقة بالترويح والترفيه والزراعة والتنقل.

زيتون… قداسة ومعيشة

لم تعرف فلسطين شجرة حلت عليها حلل القداسة والتبجيل والارتباط برمزيات عالية، كما شجرة الزيتون، التي زرعت في جبال البلاد وسهولها من الجنوب إلى أقصى الشمال، منذ آلاف السنين، كما يعبر الناس عن الزيتون الرومي أنه مزروع في الأرض منذ أزمان تعد بالمئات من السنين.

وفر الزيتون مصادر دخل مهمة لكثير من العائلات الفلسطينية، والعناية به تمثل رصيداً رمزياً للعائلة أمام العائلات الأخرى، خاصة في القرى، التي كان التنافس الاجتماعي فيها، لسنوات مضت قائماً على ما تمتلك إحداها من أشجار زيتون، واعتبرت العمل في خدمة هذه الشجرة التي تدر الزيت وثمار الزيتون، من أفضل الأعمال البدنية، وقامت على موسم الزيتون دورة اقتصادية كاملة بين العائلات التي تملك حيازات واسعة أو تلك التي بحوزتها أراض أقل، والعمال الذين كانوا يتوافدون من مناطق أخرى أقل زراعة بالزيتون إلى قرى المناطق الوسطى والشمالية، وأصحاب المعاصر وغيرها.

ورغم تراجع الاهتمام بالزيتون لدى نسبة من الفلسطينيين، بفعل تغييرات اقتصادية واجتماعية، ومصادرة الاحتلال لمساحات واسعة من الأراضي، وارتكابه جرائم اقتلاع الأشجار، إلا أن للموسم حضور اجتماعي واقتصادي مركزي، في حياة القرى والبلدات الفلسطينية، وكان هذا العام غير مسبوق على صعيد ضعف الموسم، الذي زاد من قسوته الهجمات المتناسقة التي شنتها ميلشيات المستوطنين على الأهالي، في عدة قرى وبلدات بالضفة الغربية.

إبادة مكانية… إعادة تحديد الحدود 

تحليل الهجمات العدوانية التي تنفذها ميليشيات المستوطنين يؤكد على أنها تعمل بصورة منتظمة ومنظمة، وليست مجرد مجموعات منفلتة تقوم بأعمال "شغب" و"عنف"، كما تسعى وسائل إعلام الاحتلال وبعض المسؤولين فيه وفضائيات عالمية لتصويرهم.

توسعت ميليشيات المستوطنين في عدوانها، في الفترات الماضية، إلى مناطق لم تكن على خارطة هجماتها، وسعت من خلال تحويل الهجوم إلى يومي، وباستخدام أشكال مختلفة منه (إطلاق النار، حرق الأشجار واقتلاعها، سرقة الأراضي، الضرب، تكسير المركبات، حرق المساجد والكنائس، الهجوم على المنازل) وغيرها، إلى استنزاف الفلسطينيين، ودفعهم إلى تقييد حركتهم عبر الفضاءات الجغرافية بأنفسهم، على طريقة "كي الوعي" الذي يقود إلى كبح ذاتي.

ومن هذه الآلية الوحشية التي تعمل عليها ميلشيات المستوطنين، المدعومة من جيش الاحتلال، تنفذ "إبادة مكانية"، تبدأ من خلال هجوم لوضع حدود جديدة للفلسطينيين، وإعادة تعريف الأماكن التي يمكن له أن يتحرك فيها، لذلك تهاجم مثلاً السهل كمنطقة زراعية مركزية في القرية، لتجبر الأهالي بعد فترة تحت ضغط العدوان والاعتقالات المستمرة من استخبارات وجيش الاحتلال، التي تنفذ عادة بعد كل مواجهة مع المستوطنين، إلى الحذر في النزول إلى المكان ثم مع الوقت تجنبه ثم تحوله إلى حيز جغرافي بعيد في  المخيال وربما منسي أو يعيش في الذكريات والفلكلور.

ومع الوقت يتقدم المستوطنون من الفضاءات الجغرافية المحيطة بالقرية أو التجمع الفلسطيني، إلى الحدود الجغرافية الملاصقة بالبيوت، كما انتقلت من تهجير التجمعات البدوية في الأغوار وأطراف الضفة الغربية، إلى قلب القرى الشرقية من رام الله.

هذا الهجوم على الانتشار الجغرافي الفلسطيني عبر الفضاءات التي اعتاد أن يلقي تفاعلها المعيشي فيها (الجبل، والسهل، والوادي)، وأشجار الزيتون ومحاصيله المختلفة، يعمل على: "إبادة مكانية" يحدد المستوطن بما توفر له من قدرة عسكرية وعدوانية على تحديد حدود المسموح والممنوع في حركة الناس، والإنهاك الاقتصادي عبر حرمان العائلات من مصدر دخلها الزراعي، والحد من التوسع الجغرافي للفلسطينيين من خلال منعهم من البناء في هذه المناطق.

وهذا النزع من الأماكن وحشر الفلسطينيين في فضاءات ضيقة، وقطع اتصالهم بعالمهم الجغرافي والزراعي والروحي والثقافي، هو جوهر الخطة التي تعمل عليها "الصهيونية الدينية"، التي تريد إعادة تعريف جغرافيا الضفة الغربية، على أنها إسرائيلية بالكاملة، لتأخذ بالمشروع الاستيطاني الذي بدأ مع حزب العمل ثم الليكود ثم زادت عليه كل حكومة حكمت في دولة الاحتلال، إلى آخره، بمعنى أن يكون الحل النهائي هو إبادة مكانية وجسدية للفلسطينيين، وإن لم يتحقق الطرد الكامل، تحويل حياة الفلسطينيين إلى دخول وخروج فقط من سجون قد تكون حدودها على قدر الحدود الضيقة في محيط المنازل فقط.

من بين نشطاء الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، إليشاع يراد، المتهم بقتل الشهيد قصي معطان من قرية برقا شرق رام الله، وله حساب نشط على "التلغرام"، ومن خلال تحليل الخطاب الذي ينشره يظهر بوضوح صراع هذه الجماعات على تحديد حدود جديدة بين الاستيطان وانتشار الفلسطينيين، وفي أحد منشوراته يتحدث عن ضرب فكرة الطرق الفلسطينية التي انتشرت، في السنوات الماضية، في الجبال بعضها في مناطق مصنفة “C”.

ويحضر دور الاستيطان الرعوي مركزياً في هذه الاستراتيجية، إذ أن المستوطن الراعي يحاول السيطرة من خلال أغنامه على كل منطقة تصل إليها، وفي الوقت ذاته حصر الفلسطينيين عنها، ومع الوقت تتحول هذه الحدود التي رسمها المستوطنون إلى دائمة، مع تكرار العدوان والدعم العسكري لهم من جيش الاحتلال.

ويمكن الاستدلال بتجارب عدة بلدات مثل بلدة عقربا شرق نابلس، وسنجل الواقعة في المساحة الجغرافية بين رام الله ونابلس.

عاش أهالي المنطقتين منذ عقود طويلة على الزراعة والرعي وغيرها من الأنشطة المرتبطة بالسهول الممتدة أمامها، ومنذ احتلالهما في 1967، أقام الاحتلال في محيطهما مستوطنات بدأت تسرق الأرض حتى صارت مناطق كاملة محرومة على أصحابها، وفي الأسابيع الماضية تحولت أيام البلدتين إلى مواجهة مفتوحة مع المستوطنين وجيش الاحتلال.

اقتلع الاحتلال آلاف الأشجار منهما وسرق مساحات واسعة من أراضيها، ويعمل مع ميلشيات المستوطنين على حرمان الناس من الوصول إلى الجبال والأغوار التي مثلت مصدر رزق مركزي لعقربا، وهذا الحال ينطبق على سنجل المحاصرة بالمستوطنات من جهات ثلاث، ولا يمر يوم دون أن تشن ميليشيات المستوطنين عدواناً عليها.

وفي القرى الشرقية من رام الله، أصبحت ميليشيات المستوطنين تدخل إلى قلبها وتنفذ عدوانها قبل أن تنسحب بغطاء من جيش الاحتلال، بعد أن كانت لسنوات طويلة ماضية، لا تقدر على اقتحام هذه المناطق، وتكتفي بشن هجمات على أطرافها والطرق المحيطة بها، ولكنها بعد أن نشرت عشرات البؤر الاستيطانية التي يعيش فيها نشطاء من "فتيان التلال" وغيرهم، الذين يحملون أفكاراً أيدلوجية تحمل عدوانها "أهدافاً طلائعية" جديدة لفتح طريق أمام الاستيطان الصهيوني، بعد أن هجروا التجمعات البدوية، والعدوان الوحشي الذي يشنه جيش الاحتلال على الفلسطينيين، صار الطريق أمامهم مفتوحاً أكثر، لتكسير مزيد من القواعد، وانتهاك حياة الفلسطينيين في قلب تجمعاتهم.