شبكة قدس الإخبارية

إصرار على نهج التنازلات.. مسؤولون: لقاء عباس وماكرون يكرّس واقع "الانتداب الفرنسي" على القرار الفلسطيني

عباس وماكرون خلال لقائهما

خاص قدس الإخبارية: لم يتوقف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، منذ اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، عن تكرار تصريحاتٍ يرى مراقبون وسياسيون أنها خالِية من أي ثمنٍ مقابل، ومرتبطةٌ بإدانةٍ مستمرةٍ للمقاومة الفلسطينية، ومتقاطعةٌ مع الشروط الإسرائيلية والأوروبية والأمريكية المتعلقة بالمناهج التعليمية، وقطع مخصصات ذوي الأسرى والشهداء، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني وفق المحددات الخارجية لا الوطنية، ونزع "سلاح حماس والمقاومة". وقد تجلّى ذلك بوضوح خلال تصريحات عباس أثناء لقائه نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في الحادي عشر من الشهر الجاري.

غير أنّ اللافت في المشهد لم يكن تكرار مواقف الرئيس عباس المعروفة فحسب، بل ما أعلنه الرئيس الفرنسي عن تشكيل "لجنة مشتركة" لصياغة دستور الدولة الفلسطينية، في خطوة تُظهر إقرارًا عمليًا بوصاية دولية ــ أوروبية تحديدًا ــ على دولةٍ لم تُقم بعد. كما شدّد ماكرون على أنه "من الضروري العمل على العودة السريعة للسلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، وتنفيذ نزع السلاح وتفكيك حماس". في المقابل جدّد عباس تعهّده "بالإصلاحات" التي تشمل إجراء انتخابات، وتعديل المناهج الفلسطينية، وإنشاء "نظام رعاية اجتماعية" جديد، بعد إلغاء العمل بقوانين مخصّصات عائلات الأسرى والشهداء والجرحى.

ولا يمكن فصل هذه المواقف الصادرة من الرئيس عباس عن تاريخه السياسي، بحسب عضو المجلس الثوري لحركة فتح السابق، والدبلوماسي ربحي حلّوم، إذ يروي في حديثٍ مع شبكة قدس عن حادثة كان شاهدًا عليها، قائلًا إنّ "عباس منذ مطلع سبعينات القرن الماضي كان ينادي داخل جلسات المجلس الثوري بأن يتمّ فتح قنوات اتصال مباشرة مع الإسرائيليين، وحين سُئل خلال جلسة الثوري عام 1972 إن كان يقصد اليهود، أكّد عباس أنه يقصد الإسرائيليين والصهاينة واليهود". ووفق حلوم فإن هذه الخلفية التاريخية تعكس قناعات الرئيس عباس التنازلية التي يعكسها في لقائه مع ماكرون. معتبرًا أن الرئيس عباس لا يؤتمن على قضية أو شعب أو وطن.

وتعقيبًا على مخرجات لقاء "عباس-ماكرون" يقول حلوم: "لم تتحرر أي دولة خضعت للاستعمار عبر منحة من الدولة المستعمِرة، بل من خلال نضالات شعوبها (...) نحن بحاجة إلى هيئة إنقاذ وطني تتولى إدارة الشأن الفلسطيني وتمثيل إرادة الشعب بعيدًا عن الارتباطات الخارجية". ويشير إلى أنّ الموقف الفلسطيني سيتغير بشكل جذري "إذا ما أُعيد القرار الوطني إلى أصحابه"، مشددًا على رفض أي وصاية أجنبية على أي جزء من أرض فلسطين.

ويتابع حلّوم أنّ الدعوات الغربية، ومنها الفرنسية، لنزع سلاح الفلسطينيين، تمثل انحيازًا فاضحًا لإسرائيل، متسائلًا: "إن أرادت فرنسا أو غيرها تجريد الفلسطينيين من سلاحهم، فليجرّدوا إسرائيل من سلاحها أولًا". كما يلفت إلى أنّ المناهج الفلسطينية جرى تعديلها سابقًا في عامي 2006 و2009، والآن تسعى الدول الغربية إلى إدخال تعديلات جديدة "تحذف أي إشارة إلى دولة فلسطين أو التعبيرات الوطنية الفلسطينية"، في إطار سياسة تستهدف الوعي والهوية الوطنية للأجيال الصاعدة.

ويصف حلّوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه "مخادع يحاول الظهور بمظهر الحريص على السلام، لكنه في الحقيقة يمرّر ما يريد بذكاء، وكل ذلك في خدمة إسرائيل". ويضيف أنّ الرئيس محمود عباس "ليس غافلًا عمّا يجري، بل مدرك تمامًا لما يفعله، ومصرّ على هذا النهج، ومشارك في الجريمة والإثم، لأنه يعلم إلى أين يقود الشعب الفلسطيني"، مؤكدًا أنّه لو كانت لديه النية الصادقة، لكان قادرًا على تحقيق طموحات شعبه، "لكنه حتى اليوم لا يريد التنحّي".

ويقول حلّوم إنّ الرئيس محمود عباس عمل على تجريد الميثاق الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير من مواده ومضمونه، حتى بات، وفق وصفه، "أداة بيد الاحتلال"، بعدما كان وثيقة تأسيسية تعبّر عن الهوية الوطنية الفلسطينية وحق الشعب في المقاومة والتحرر.

بدوره، يوضّح عضو المجلس الوطني تيسير العلي في حديث مع شبكة قدس إنّ مخرجات اللقاء وتصريحات الرئيس محمود عباس تُكرّس واقع "الانتداب الفرنسي" على القرار الفلسطيني، واصفًا ما جرى بأنه "تخبيص سياسي كامل"، ودليل جديد على حالة الفشل والخروج من المعادلة السياسية الإقليمية والدولية. ويرى أنّه لا مبرر للتمسك بالموقف الفرنسي أو بشخصية الرئيس إيمانويل ماكرون، "الذي يحاول أن يقدّم نفسه كمبادر وصاحب أفكار سياسية، بينما هو أقلّ من ذلك".

ويشير العلي إلى أنّ عباس توجه إلى باريس في محاولة لإعادة لملمة الوضع الداخلي للقيادة السياسية، بعد أن فقدت السلطة حضورها العربي والدولي، مضيفًا أنّ الرئيس الفرنسي لا يمثل طوق نجاة. معبّرًا عن استغرابه من الحديث عن تشكيل لجنة مشتركة مع فرنسا لصياغة دستور الدولة الفلسطينية، متسائلًا: "لدينا قانون أساسي فلسطيني يُعدّ الدستور المؤقت إلى أن تُقام الدولة، والرئيس عباس نفسه شكّل سابقًا لجنة لصياغة الدستور، فكيف يُعاد طرح لجنة جديدة بالشراكة مع الفرنسيين؟".

ويؤكد أنّ الرئيس عباس ينتهج سياسة "مكانك راوح"، ويطلق تصريحات لا أثر لها على الأرض، محذرًا من أن الاستمرار في هذه الإدارة السياسية "سيقودنا نحو الهاوية والدمار".

ويتساءل العلي: "لماذا لا تُطرح قضايا جوهرية مثل الوحدة الوطنية أو تشكيل وفد فلسطيني مشترك للمفاوضات؟"، مشيرًا إلى أنّ الولايات المتحدة تسعى الآن إلى تشكيل لجنة لإدارة قطاع غزة بدلًا من اللجنة التي تم التوافق عليها فصائليًا، ما يعكس، بحسب قوله، "عمق الأزمة الداخلية، التي يدرك الجميع أن مصدرها هو القيادة السياسية الرسمية".

ويقول عضو لجنة المتابعة في المؤتمر الوطني الفلسطيني، عوني المشني، لـ شبكة قدس إنّ قضية الدستور الفلسطيني مسألة سيادية بامتياز، وهي شأن وطني خالص في كل دول العالم، إذ لا يصبح أي دستور نافذًا قبل طرحه على استفتاء شعبي يقرّ شرعيته. ويضيف: "في الحالة الفلسطينية، لم نسمع حتى الآن عن أي استفتاء جماهيري حول الدستور الجاري الحديث عنه، وهذا بحد ذاته خلل جوهري".

ويتابع المشني موضحًا: "من يمنح الدستور صفته الإلزامية إذا لم يستفتِ الشعب عليه؟ وكيف يمكن إلزام المواطن والقوى السياسية بدستور لم يشاركوا في إقراره؟"، مشيرًا إلى وجود صمت فلسطيني عام من المواطنين والقوى السياسية والمؤسسات تجاه هذه المسألة، رغم كونها "سؤالًا جوهريًا وأساسيًا في بناء أي نظام سياسي".

ويقرّ المشني بأنه لا ضير في الاستعانة بخبراء دوليين في صياغة الدساتير، لكنّه يرى أن منح فرنسا أو أي جهة خارجية حق المشاركة في صياغة الدستور الفلسطيني يمثل "تنازلًا عن بعدٍ وطنيٍّ مرتبطٍ بالاستقلالية والكرامة الوطنية"، معتبرًا أن ذلك الدور "يبدو وكأنه استجابة لمتطلبات الاعتراف بالدولة الفلسطينية"، وهو تفسير "غير مقنع ولا مقبول"، لأنه ينطوي على انتقاص من السيادة والكرامة الوطنية.

ويشير إلى أنّ فرنسا اعترفت بدولة فلسطين بالفعل، ولا يمكنها التراجع عن ذلك، "ففي القانون الدولي لا يوجد ما يسمى بسحب الاعترافات، بل هناك فقط قطع العلاقات، وهذا مختلف تمامًا".

ويضيف المشني أنّ إجراءات السلطة الفلسطينية الأخيرة المتعلقة بملف الأسرى والمناهج والإصلاحات الإدارية يمكن النظر إليها في سياق محاولة تعزيز الاعتراف الدولي بالدولة.