شبكة قدس الإخبارية

من تآكل الصورة إلى تصدّع التحالف: أزمة (إسرائيل) بين واشنطن والرأي العام الأميركي

GettyImages-2223423623
رامي أبو زبيدة

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تواجه تل أبيب واحدة من أعقد أزماتها على الإطلاق، أزمةٌ لا تتعلق بسير العمليات العسكرية أو بتحديات الميدان فحسب، بل تمتد إلى عمق الشرعية الأخلاقية والسياسية التي ظلّت لعقود تشكّل الركيزة الأهم في علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية والعالم الغربي.

فما كان يُعرف بـ “العلاقة الخاصة” بين واشنطن وتل أبيب، بات اليوم أمام اختبار غير مسبوق؛ إذ تكشف المعطيات الميدانية والسياسية والإعلامية عن تصدّعٍ متسارع في جدار الدعم الأميركي، وتآكلٍ حادّ في صورة الاحتلال داخل المجتمع الأميركي نفسه، ما دفع حكومة الاحتلال إلى إطلاق واحدة من أضخم حملات “إعادة تلميع الصورة” في التاريخ الحديث، مستخدمةً أدوات الذكاء الاصطناعي، والإعلام المسيحي، وشبكات النفوذ الرقمي، في محاولةٍ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من رصيدها المتآكل في الوعي الغربي.

وفق تحقيق نشرته صحيفة هآرتس العبرية للكاتب عومر بن يعقوب، وقّعت الحكومة الإسرائيلية خلال الأشهر الأخيرة عقودًا بمئات ملايين الدولارات مع شركات أميركية متخصصة في العلاقات العامة والتأثير الإعلامي، بهدف “إعادة تأهيل صورة إسرائيل في الرأي العام الأميركي”.

وتشير الوثائق التي استند إليها التحقيق إلى أن هذه العقود شملت وزارات الخارجية والسياحة والوكالات الدعائية الرسمية، وأنها استهدفت مجتمعات كانت تُعدّ تاريخيًا داعمة بشكل تلقائي للاحتلال، وعلى رأسها الكنائس المسيحية الإنجيلية، وشرائح الشباب المحافظ داخل الحزب الجمهوري.

ففي آب/أغسطس الماضي، وُقّع عقد بقيمة ستة ملايين دولار مع شركة Clock Tower X المملوكة لمدير الحملة الرقمية السابقة لدونالد ترامب، بهدف “تنفيذ حملة أميركية واسعة النطاق لمكافحة معاداة السامية”.

لكن ما كشفه التحقيق أن الهدف الفعلي لم يكن مواجهة الكراهية، بل إعادة صياغة السردية الأميركية تجاه حرب غزة، وتوجيه الخطاب المسيحي واليميني لتبرير العدوان الإسرائيلي على أنه “دفاع عن النفس”.

وتنصّ العقود على إنتاج ما لا يقل عن مئة قطعة محتوى أصلي شهريًا وخمسة آلاف نسخة مشتقة، تُوزّع عبر منصات التواصل الاجتماعي وتُوجّه إلى جمهورٍ محدّد بدقة، باستخدام أدوات الاستهداف الجغرافي (Geofencing) لتحديد مواقع الكنائس وروّادها أثناء الصلاة، واستهدافهم بإعلانات ومقاطع رقمية مصممة خصيصًا لتعزيز “الرسائل الإسرائيلية”.

ويبلغ عدد الجمهور المستهدف، بحسب الوثائق، أكثر من 12 مليون شخص من روّاد الكنائس والطلبة المسيحيين في الغرب الأميركي.

من تحسين الصورة إلى برمجة الوعي

الأكثر إثارة في هذه الحملات هو توظيف الاحتلال للذكاء الاصطناعي كأداةٍ دعائية، إذ تضمّنت العقود بنودًا صريحة تتعلق بمحاولة “توجيه” مخرجات أنظمة المحادثة التوليدية مثل ChatGPT وClaude، بحيث تُقدّم إجاباتٍ متحيّزة للرواية الإسرائيلية عند البحث في قضايا الصراع أو فلسطين.

هذه الخطوة – التي قد تكون الأولى الموثّقة رسميًا لجهةٍ حكومية تحاول التأثير في الذكاء الاصطناعي العالمي – تعبّر عن تحوّلٍ نوعي في مفهوم “الهاسبارا” التقليدية (الدبلوماسية الدعائية الإسرائيلية) إلى ما يمكن تسميته بـ "هاسبارا 3.0"؛ حيث لا يُكتفى بالتأثير على الإعلام أو الرأي العام، بل تمتد المعركة إلى الخوارزميات نفسها التي تشكّل وعي الأجيال الغربية.

ووفقاً للتقرير ذاته، أنفقت تل أبيب خلال النصف الثاني من عام 2025 أكثر من 45 مليون دولار على الإعلانات الرقمية التقليدية في غوغل ويوتيوب ومنصات “إكس”، إلى جانب عقود أخرى مع شركات مقرّبة من الحزب الديمقراطي لتوليد محتوى رقمي مؤيّد لإسرائيل باستخدام “بوتات” آلية عبر تيك توك وإنستغرام.

إنه انتقالٌ واضح من إدارة “الصورة” إلى إدارة الإدراك، ومن العلاقات العامة إلى هندسة الوعي، في محاولةٍ يائسة لتغطية فشلٍ ميداني وأخلاقي يتفاقم يوماً بعد يوم.

تصدّع العلاقة الخاصة: قراءة في موازين التحالف الأميركي – الإسرائيلي

لكن على الجانب الآخر من هذا المشهد الدعائي، تشير تحليلات باحثين إسرائيليين – من بينهم عيران ليرمان في معهد السياسة والاستراتيجية (JISS) – إلى أن الأزمة ليست فقط في الرأي العام، بل في بنية التحالف الإستراتيجي ذاته الذي ربط تل أبيب بواشنطن منذ عام 1967.

يقول ليرمان في مقاله الأخير إن العلاقة تمرّ بمرحلة “تراجع هيكلي” بسبب تضارب الأولويات بين الإدارتين، وتآكل الأسس الثلاثة التي قامت عليها “العلاقة الخاصة”:

1.⁠ ⁠القيم المشتركة بين “الديمقراطية الأميركية” و”الديمقراطية الإسرائيلية” تهاوت أمام مشاهد الدمار في غزة والمجازر التي وثقتها عدسات الإعلام.

2.⁠ ⁠المصالح الأمنية المشتركة لم تعد متطابقة، إذ باتت واشنطن تنظر إلى سياسات الاحتلال كعبءٍ يهدد استقرار الشرق الأوسط ويُضعف قدرة الولايات المتحدة على إدارة تحالفاتها العربية.

3.⁠ ⁠الدعم السياسي غير المشروط في الكونغرس الأميركي بدأ يفقد زخمه أمام صعود تيارات جديدة داخل الحزبين تطالب بمساءلة الاحتلال ووقف المساعدات العسكرية.

ويضيف ليرمان أن ما يجري ليس خلافًا تكتيكيًا، بل أزمة عميقة في الشرعية القيمية للتحالف. فالإدارة الأميركية، رغم استمرار الدعم العسكري، لم تعد قادرة على تبرير سياسات الاحتلال أمام ناخبيها ولا أمام المجتمع الدولي، في ظل الانتقادات المتصاعدة من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان.

لقد أدركت المؤسسة الإسرائيلية أن الخطر الحقيقي لم يعد في “معاداة السامية” كما تروّج، بل في تحوّل الموقف الشعبي الأميركي من التعاطف إلى الرفض.

فاستطلاعات مركز “بيو” بين عامي 2022 و2025 أظهرت أن أكثر من نصف الجمهوريين الشباب باتوا ينظرون سلبًا إلى إسرائيل، بينما ارتفعت نسبة الأميركيين الذين يرفضون سياساتها في غزة إلى ما يفوق 53%.

وما زاد الأزمة تعقيدًا هو انقسام المجتمع المسيحي الإنجيلي، الذي كان يُعتبر المعقل الأيديولوجي الأهم لدعم الاحتلال. فقد بدأت أجيال إنجيلية شابة تنأى بنفسها عن الرواية الصهيونية، وترى في العدوان على غزة حربًا غير أخلاقية تتعارض مع قيم العدالة التي يرفعها الإيمان المسيحي.

هذا الانهيار المعنوي دفع الاحتلال إلى تكثيف استهداف هذه الفئة بالذات عبر الرسائل الدينية الرقمية التي تقتبس من النصوص المقدسة لتبرير الاحتلال، في ما يشبه توظيف النص الديني في خدمة السردية العسكرية.

إن محاولات الاحتلال ترميم صورته المتهشّمة عبر الذكاء الاصطناعي والمؤثرين الأميركيين لا يمكن أن تُخفي الحقيقة الجوهرية: أن الأزمة ليست في سوء التسويق، بل في جوهر الفعل نفسه.

فالعالم شاهد على حرب إبادة ممنهجة أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، ودمّرت البنية الإنسانية لغزة، وخلّفت صورًا لا يمكن لأي حملة إعلامية أن تمحوها من الذاكرة الجمعية.

كل دولار يُنفق في “هاسبارا رقمية” لن يغيّر حقيقة أن إسرائيل تواجه تآكلًا غير مسبوق في شرعيتها الأخلاقية والسياسية، وأن واشنطن نفسها بدأت تدرك أن دعمها غير المشروط لهذا الكيان أصبح عبئًا على صورتها العالمية.

وفي ضوء هذه التطورات، يمكن القول إن ما تواجهه إسرائيل اليوم ليس مجرد أزمة “علاقات عامة”، بل أزمة وجود سياسي ومعنوي. فهي تخسر في آنٍ واحد معركة الرأي العام، وتتعرض لتصدّعٍ في تحالفها الإستراتيجي الأهم، وتفقد القدرة على تبرير سلوكها أمام أقرب حلفائها.

وبينما تسعى تل أبيب إلى إعادة بناء صورتها عبر الخداع الرقمي، يتّسع الشرخ بينها وبين المجتمع الأميركي الذي بدأ يرى بوضوح ما وراء “رواية الدفاع عن النفس”: واقع احتلالٍ طويل، وحربٍ بلا أخلاق، وتحالفٍ بات يتآكل من الداخل.

لقد دخلت إسرائيل مرحلة ما بعد الشرعية، حيث لم تعد القوة العسكرية ولا التفوق التكنولوجي كافيين لإقناع العالم بعدالة قضيتها. فالحرب على غزة لم تكشف فقط هشاشة منظومتها الأخلاقية، بل عرّت حدود نفوذها داخل الحليف الأميركي نفسه.

ومهما حاولت توظيف الذكاء الاصطناعي أو استدعاء الدعم الإنجيلي، فإن الحقيقة أصبحت أكبر من أن تُحجب: الاحتلال خسر معركة الوعي، وبدأ يخسر تدريجيًا معركة التحالف.