في خضمّ التحولات المصيرية التي تعصف بفلسطين التاريخية، من حرب الإبادة في غزة، إلى التهجير المنهجي والقتل اليومي في الضفة الغربية، مرورًا بتهويد القدس وتفريغها من هويتها العربية، وصولًا إلى سياسات التمييز العنصري ضد الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948، تتجدد الحاجة إلى مراجعة جذرية لمفهوم وجدوى التمثيل الفلسطيني في الكنيست الإسرائيلي. ذلك التمثيل، الذي نشأ عام 1949 من خلال الحزب الشيوعي الإسرائيلي في ظلّ واقع سياسي معقد، وُصف في بداياته كآنه منبر للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في الداخل، غير أنّه تحوّل مع مرور الوقت إلى أداة احتواء سياسي تُستخدم لتجميل وجه الاحتلال أمام العالم، دون أن تُحدث تغييرًا فعليًا في بنية الاضطهاد والعنصرية أو في حياة الفلسطينيين المعيشية اليومية.
وفي ظلّ تشرذم الحالة الفلسطينية بين جغرافيا الوطن الممزّقة وشتاتٍ تتسع رقعته يومًا بعد يوم، يتعمق الإحساس بأن سؤال التمثيل لم يعد سياسيًا فحسب، بل وجوديًا في جوهره. فالفلسطيني يعيش انقسامًا داخليًا بين غزة المنكوبة، والضفة المقطعة بالحواجز، والقدس المهوَّدة، والداخل الخاضع للتمييز والتهميش، فيما يعيش ملايين آخرون في المنافي والشتات، ضحايا مشروعٍ صهيوني تأسس على نفي وجودهم، واستعمارٍ غربي وفّر له الغطاء والدعم المستمرين. وهكذا يغدو التمثيل في مؤسسات الاحتلال سؤالًا شرعيا: هل يمكن لمنظومة قامت على محو الفلسطيني أن تسمح فعلًا بتمثيله؟ كما قال إدوارد سعيد: “لا يمكن للمقهور أن يتكلم داخل لغة القاهر دون أن يُعاد تشكيله بما يخدم هذه اللغة.”
منذ إقرار ما يُعرف بـ” قانون القومية اليهودية” عام 2018، الذي ينصّ بوضوح على أن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، بدأت تتشكل سياسات تشريعية ذات طابع قانوني وسياسي تُقصي غير اليهود، وعلى وجه الخصوص المواطنين العرب. فقد تجاهل القانون عمدًا أي ذكر لمبدأ المساواة أو للطابع الديمقراطي للدولة، ما أضفى عليه دلالات قانونية وسياسية تُكرّس التمييز البنيوي ضد العرب داخل إسرائيل.
وفي ظل تصاعد هذه السياسات العنصرية، خاصة بعد نكبة عام 1948 وما رافقها من تهجير واسع للفلسطينيين، وُصفت الحكومة اليمينية الحالية بأنها من أكثر الحكومات تطرفًا وتشريعًا للتمييز، إذ شهدت دورتها البرلمانية سنّ قوانين تحمل طابعًا عنصريًا واضحًا ضد المواطنين العرب، بل ذهبت إلى حدّ شرعنة الاعتداءات المسلحة التي تنفذها ميليشيات المستوطنين، في انتهاك صارخ للمعايير الدولية والانسانية.
ولعلّ أكثر ما كشف جوهر هذا المشروع هو تصريح بنيامين نتنياهو في آذار من العام نفسه، حين كتب على صفحته في إنستغرام " إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها"، في رسالة فاضحة المعنى تؤكد أن المساواة ليست جزءًا من العقيدة الصهيونية، وأن الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948 يعيشون في دولة لا تراهم شركاء في المواطنة، بل غرباء في وطنهم الأصلي. هكذا تتعرّى الرواية الإسرائيلية من شعاراتها الديمقراطية، لتكشف عن وجهها الحقيقي كدولة استعمارية استيطانية متحالفة بعمق مع الإمبريالية العالمية، تستمد شرعيتها من الاحتلال والقوة.
الواقع السياسي يفرض مراجعة جذرية لمفهوم التمثيل الفلسطيني داخل مؤسسات الاحتلال، وعلى رأسها الكنيست الإسرائيلي. لا يمكن الحديث عن مساواة أو حلول اجتماعية واقتصادية في ظل منظومة صهيونية استعمارية تتغذى على التمييز والإقصاء، وتقوم على بنية أيديولوجية ترى في الفلسطيني تهديدًا وجوديًا. فالصهيونية ليست مجرد حركة قومية، بل مشروع عنصري استيطاني، كما يؤكد المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية إيلان بابيه بقوله: "يتحتم إعادة تعريف الصهيونية باعتبارها حركة عنصرية استعمارية استيطانية، وإسرائيل بوصفها دولة فصل عنصري، وأحداث 1948 بوصفها تطهيرًا عرقيًا" (المثقف، 24 نيسان/أبريل 2022). هذا التوصيف لا يترك مجالًا لوهم الإصلاح من داخل مؤسسات الاحتلال، بل يدفع نحو بناء مشروع تحرري مستقل، يرفض التبعية ويؤمن بالتحرر الكامل.
وفي السياق ذاته، يسلط المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الضوء على التناقض البنيوي في تعريف إسرائيل كدولة "يهودية ديمقراطية"، إذ كتب في مجلة الدراسات الفلسطينية (ربيع 1990): "إسرائيل لا يمكن أن تكون متميزة فقط بكونها قصة نجاح، أو إثبات نفسها كدولة مستقرة في مراتبها"، وهو ما شخصه التناقض البنيوي في تعريف إسرائيل كدولة "يهودية تميز طائفياً". هذا التناقض يجعل من أي محاولة للاندماج أو التمثيل داخل مؤسساتها السياسية مجرد وهم سياسي، لا يخدم إلا ترسيخ الاحتلال وتجميل صورته أمام العالم، بينما يستمر في نفي وجود الفلسطينيين وهويتهم وحقوقهم الجماعية.
تميل السياسة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 48 إلى الانعزال عن الكل الفلسطيني بتبرير التاريخ والظرفية وتكرار سرديات الانتماء، لكنها تواجه سؤالًا وجوديًا لا يمكن تجاهله، هل الاستمرار في النضال البرلماني داخل الكنيست الإسرائيلي يتناسب فعلًا مع حجم المشروع الوطني الفلسطيني؟ أم أننا نكتفي باختزال الهوية في مقعد برلماني داخل منظومة استعمارية؟ إن هذا التناقض بين طموح التحرر الوطني وبين أدوات النضال المتاحة داخل مؤسسات الاحتلال يفرض علينا مراجعة عميقة، لا من باب الرفض العاطفي، بل من باب إدراك أن المشروع الصهيوني لا يمنح الفلسطينيين سوى هامشًا ضيقًا من التعبير، دون أي قدرة حقيقية على التأثير أو التغيير.
الحديث عن خصوصية الفلسطينيين في أراضي 48 مقارنة بالضفة وغزة والقدس وكأنه العامل الثابت، يجب أن يُعاد النظر فيه. صحيح أن الظروف مختلفة، لكن المشروع الوطني يجب أن يكون موحدًا. اتفاق أوسلو وخطة التقسيم خلقت تجزئة سياسية، لكن الواقع اليوم يفرض تجاوز هذه التجزئة. بعد طوفان الأقصى، وبعد أن أصبحت القدس معزولة وتحت سيطرة إسرائيل الكاملة، وبعد أن تحولت الضفة إلى ساحة ميليشيات استيطانية، لم يعد حل الدولتين واقعيًا. ما نحتاجه هو مشروع تحرري شامل، يعيد الاعتبار للهوية الفلسطينية المتجذرة في الأرض، ويواجه الصهيونية كمنظومة استعمارية.
تميل السياسة الفلسطينية في أراضي 48 إلى توجيه اللوم، وتعيد طرح سؤال وجودنا: هل الاستمرار في النضال البرلماني داخل الكنيست الإسرائيلي يتناسب فعلًا مع حجم المشروع الوطني الفلسطيني؟ أم أننا نكتفي بمظاهر تمثيلية شكلية للانتماء، في سياق يعكس أزمة بنيوية في الأداء السياسي الفلسطيني؟، حيث يتحول العمل السياسي إلى تمثيل رمزي داخل منظومة لا تعترف بوجودنا التاريخي ولا بحقوقنا الجماعية؟ هذا التناقض بين طموح التحرر الوطني وبين أدوات النضال المتاحة يفرض علينا مراجعة عميقة، تتجاوز الشكل إلى جوهر المشروع السياسي الفلسطيني، وتعيد الاعتبار للهوية كفعل مقاوم لا كصفة ثقافية فقط. كما كتب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه "الهوية والمقاومة" 1999): الهوية الفلسطينية ليست مجرد سردية، بل فعل مقاومة). وهذا الفعل لا يمكن أن يتحقق من داخل مؤسسات الاحتلال، بل من خلال مشروع تحرري يعيد تعريف الذات الفلسطينية في مواجهة محاولات الإلغاء والطمس والابادة.
لم يعد المشهد الفلسطيني في الكنيست مسألة محلية أو حاجة مرحلية، بل بات جزءًا من معادلة سياسية تُستخدم لتجميل صورة الاحتلال أمام العالم، في وقت تتصاعد فيه السياسات العنصرية والتهجير وإسرائيل الكبرى. إن استمرار التمثيل الفلسطيني في الكنيست لا يمكن فصله عن حقيقة أن هذه المؤسسة هي جزء عضوي من المنظومة الصهيونية المعادية لوجودنا، وأن المشاركة فيها تساهم، ولو عن غير قصد، في القفز عن جوهر الصراع، وتكريس وهم الشراكة داخل بنية استعمارية. في هذا السياق، يصبح المطلب الأساسي اليوم هو إعادة بناء مشروع وطني تحرري واحد، يشمل الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، ويعيد الاعتبار لوحدة الشعب والهوية والنضال، بعيدًا عن التجزئة السياسية التي فرضها الاحتلال، وعن الأطر التي تُفرغ المقاومة من مضمونها وتُعيد إنتاج التبعية والخضوع للهيمنة.



