خاص - شبكة قُدس: منذ نشأة الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، سعت إلى ترسيخ شرعية مشروعها الاستعماري في فلسطين عبر استدعاء سردية الاضطهاد والتهديد الدائم بالإبادة. هذا الخطاب، الممتد من معاناة اليهود في المنفى الأوروبي وصولًا إلى المحرقة النازية، تحوّل إلى رافعة سياسية كبرى مهّدت لقيام كيان الاحتلال عام 1948، ووفّرت له غطاءً أخلاقيًا دوليًا على حساب الشعب الفلسطيني. غير أن حرب غزة عام 2023، بكل ما حملته من دمار ومجازر وتهجير، شكّلت نقطة تحوّل تاريخية أطاحت بهذه السردية، لتكشف عن مأزق أخلاقي وسياسي غير مسبوق في تاريخ المشروع الصهيوني.
ارتكزت الصهيونية منذ بداياتها على الجمع بين أسطورة "العودة إلى صهيون" والدعاية السياسية حول الاضطهاد في أوروبا، لكن التحول المفصلي جاء بعد "المحرقة" النازية التي أبادت ملايين اليهود وأقنعت العالم بأن بقاءهم في الشتات يشكّل تهديدًا وجوديًا دائمًا. بعد الحرب العالمية الثانية، دفعت مشاعر الذنب الغربي إلى دعم خطة تقسيم فلسطين عام 1947، ما وفّر الشرعية الدولية لقيام "إسرائيل" عام 1948.
لم يقتصر الأمر على البعد الأخلاقي، بل تداخل مع حسابات جيوسياسية استعمارية؛ بريطانيا والولايات المتحدة اعتبرتا الكيان الجديد قاعدة متقدمة في الشرق الأوسط، فيما استثمرت القيادة الصهيونية مأساة الناجين من المحرقة بالضغط على الحكومات الغربية لرفض استقبالهم، حتى يُدفع معظمهم باتجاه فلسطين. بذلك تحولت عبارة "بعد أوشفيتز لا بد أن يكون لليهود وطن آمن" إلى صيغة تأسيسية للكيان.
بعد النكبة وتهجير الفلسطينيين، واصلت "إسرائيل" تغذية سردية "الدولة الصغيرة المحاصرة"؛ فحروب 1948 و1967 و1973 غذّت هذه الصورة، وجرى تصوير كل خصم جديد كهتلر جديد: جمال عبد الناصر في 1967، منظمة التحرير في الثمانينيات، وصدام حسين في حرب الخليج 1991. عبر المناهج الدراسية والخطاب السياسي والثقافة الشعبية، رُبطت "إسرائيل" دومًا بتاريخ المذابح اليهودية، لتُقدَّم للعالم كـ"داود الصغير" في مواجهة "جالوت العربي–الإسلامي".
لكن هذه السردية حملت مفارقة صارخة؛ فبينما تحولت "إسرائيل" إلى أقوى قوة عسكرية في المنطقة، بجيش متطور وترسانة نووية ودعم أميركي لا محدود، ظلت في وعيها الذاتي "دولة ضحية" ترى نفسها على شفا الإبادة، وهو ما برر استمرار الاحتلال في الضفة وغزة والجولان تحت ذريعة "الدفاع عن النفس".
حرب غزة 2023: لحظة الانكشاف
اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر 2023 فتح صفحة جديدة في علاقة "إسرائيل" بالعالم؛ فبعد عامين من القصف المتواصل، تجاوز عدد الضحايا الفلسطينيين 60 ألف شهيد، معظمهم من المدنيين، بينهم آلاف الأطفال، وكل ذلك بالإضافة إلى عمليات التهجير القسري، تدمير الأحياء السكنية، وتجويع السكان، حوّل صورة "إسرائيل" من "دولة تدافع عن وجودها" إلى "آلة حرب تمارس إبادة جماعية".
للمرة الأولى منذ 1948، وُجهت اتهامات مباشرة لـ"إسرائيل" بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، ليس فقط من قبل الفلسطينيين ومنظمات حقوقية، بل من شخصيات رسمية وهيئات دولية. هذا التغير ضرب السردية الإسرائيلية في الصميم، إذ لم يعد ممكناً تبرير الدمار تحت شعار "الدفاع المشروع عن النفس".
التحولات بدت جلية في استطلاعات الرأي؛ ففي أوروبا الغربية (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، الدنمارك، بريطانيا)، انخفضت النظرة الإيجابية إلى "إسرائيل" إلى 13–21% فقط، فيما عبرت أغلبية ساحقة بين 63–70% عن موقف سلبي. كما أن نسبة من اعتبروا العملية العسكرية "عادلة ومتناسِبة" لم تتجاوز 6–16%.
وفي بريطانيا، لم يرَ أكثر من 12% أن الهجوم متناسب، بينما وصلت نسبة الرافضين لشرعيته الأخلاقية إلى 61%.
وحتى في الولايات المتحدة، الحليف الأوثق، أظهر استطلاع لمركز "بيو" في مارس 2025 أن 53% من الأميركيين يحملون مواقف سلبية تجاه "إسرائيل"، مقارنة بـ 42% عام 2022. وبنهاية 2025، وصلت النسبة إلى نحو 60%، مع بروز قطيعة متزايدة بين الاحتلال والجيل الشاب الأميركي، وبين الديمقراطيين الشباب، عبّر 68% عن رغبتهم في أن تبقى واشنطن "محايدة"، بدل الاصطفاف التقليدي إلى جانب الاحتلال.
أما على الصعيد العالمي، شمل استطلاع "بيو" في ربيع 2025 نحو 24 دولة، في 20 دولة منها عبّر نصف السكان أو أكثر عن موقف سلبي من "إسرائيل"، وفي دول مثل أستراليا، اليابان، السويد، تركيا، وإندونيسيا، وصلت النسبة إلى 75% أو أكثر، حتى في بريطانيا ارتفعت نسبة غير المؤيدين من 44% عام 2013 إلى 61% عام 2025.
ما بعد الحرب: المقاطعة، التضامن، والاعتراف بالأزمة
تزامن هذا التغير في الرأي العام مع تصاعد غير مسبوق لحملات المقاطعة، فحركة BDS انتقلت من الهامش إلى التيار الرئيسي، ففي قطاع الأغذية والمشروبات، تكبدت "ماكدونالدز" خسائر تاريخية بعد مقاطعة شاملة إثر تقديم وجبات مجانية لجنود الاحتلال. أما مبيعات "ستاربكس" تراجعت بأكثر من الثلث في ماليزيا، بينما هبطت أرباح "أمريكانا" – المشغلة لـKFC وبيتزا هت – بنسبة 40% عام 2024. وفي قطاع الأزياء والرياضة، اضطرت "بوما" إلى إنهاء رعايتها لاتحاد كرة القدم الإسرائيلي، فيما خسرت "نايكي" نحو 44% من أرباحها عام 2025. وفي الاستثمار، أعلن الصندوق السيادي النرويجي – الأكبر في العالم – سحب استثماراته من خمسة بنوك إسرائيلية، كما باعت صناديق تقاعد أوروبية حصصها في شركات مرتبطة بالجيش.
أما في المجال الثقافي؛ لوّحت دول أوروبية بمقاطعة "اليوروفيجن 2026" إذا شاركت فيه "إسرائيل"، فيما أعلن آلاف الفنانين مقاطعة المهرجانات المرتبطة بها، وحتى الرياضة لم تسلم من الضغوط المطالِبة باستبعادها من المنافسات الدولية، على غرار روسيا بعد حرب أوكرانيا.
بالتوازي، شهدت مدن العالم مظاهرات تاريخية؛ ملايين خرجوا في لندن وباريس ومدريد ونيويورك وسيدني، مطالبين بوقف الإبادة، والمظاهرات الأسبوعية في لندن وحدها كلّفت الحكومة البريطانية 47 مليون جنيه إسترليني سنويًا على الصعيد الأمني. وفي يونيو 2025 أبحر أسطول الصمود المؤلف من 42 قاربًا وعلى متنها 450 ناشطًا من الغرب والعالم العربي، بينهم غريتا تونبرغ، لكسر الحصار عن غزة، واعتراض البحرية الإسرائيلية له عمّق صورة الدولة كقوة تقمع حتى المبادرات الإنسانية.
الأخطر أن الأزمة لم تعد خافية حتى داخل "إسرائيل"، ففي مايو 2024، أقرّ 58% من الإسرائيليين بأن دولتهم "لم تعد تحظى بالاحترام في العالم". وفي يونيو 2024، اعترف إيلون ليفي بأن الوضع "كارثي"، وفي سبتمبر 2025 اضطر نتنياهو للاعتراف بأن صورة "إسرائيل" "لم تكن يومًا بهذا السوء". صحيفة "يديعوت أحرونوت" وصفت ما يجري بأنه "فصول مظلمة في القرن الحادي والعشرين"، وقناة 12 العبرية بثت سلسلة بعنوان "خسرنا العالم".
إلى جانب ذلك، واصلت الشركات العالمية إعلان خسائر مرتبطة بالمقاطعة؛ "كوكاكولا" و"بيبسي" سجلتا تراجعًا في المبيعات في تركيا وآسيا، بينما فقدت "نستله" و"يونيليفر" حصصًا معتبرة في أسواق أوروبية. على الصعيد السياسي، تزايدت الخطوات الأوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية: بلجيكا وإسبانيا أعلنتا دعمًا رسميًا في ربيع 2024، بينما ناقش البرلمان الفرنسي مشاريع مماثلة. في الجامعات الأميركية والأوروبية، أطلقت حركات طلابية حملات متزامنة لمقاطعة المؤسسات الإسرائيلية، لتتحول فلسطين إلى رمز مركزي في احتجاجات الشباب الغربي.
في المحصلة، أكثر من قرن من الزمن استثمرت الصهيونية في خطاب "الشعب الضحية" لبناء شرعية دولية، لكن حرب غزة 2023 وما تلاها من دمار، مقاطعة، وتضامن عالمي، فجرت هذه السردية وأدخلت المشروع برمته في أزمة وجودية. واليوم، لم يعد ممكناً الحديث عن "إسرائيل" كملاذ لضحايا الأمس، بل كدولة متهمة بارتكاب إبادة جماعية، ومع تراجع الدعم الشعبي في الغرب وتوسع المقاطعة، تواجه "إسرائيل" خطر الانزلاق إلى عزلة دولية تشبه عزلة جنوب أفريقيا في حقبة الأبارتهايد، لقد بُنيت شرعية الكيان على مأساة تاريخية، لكنها تهوي اليوم تحت ثقل مأساة أكبر صنعتها بيدها في غزة، فالمستقبل مفتوح على مفترق طرق؛ إما مراجعة جذرية لسياساتها، أو مصير "الدولة المنبوذة".