بعيدا عن مناخات "التضخيم" و"التفخيم" و"المبالغة" التي اشتهر بها ترامب، لاعتبارات تتعلق بنظرته لشخصه و"زعامته"، يمكننا وضع المبادرة في السياق الذي شكلها، وأخرجها إلى دائرة الضوء، في هذا التوقيت بالذات، قبل أن نختبرها على ميزان الربح والخسارة بالنسبة للأطراف المنخرطة في حرب السنتين؛ حرب التطهير والتطويق والإبادة، وسنقترح بعضا مما يتعين فعله، بالذات من مختلف الكيانات والمكونات الفلسطينية.
أولا: في السياق والأسباب الموجبة
لم يكن لهذه المبادرة أن ترى النور، لولا الصمود الأسطوري لشعب غزة ومقاومتها، فعلى امتداد عامين، لأكثر حروب العصر وحشية وهمجية، صمد الشعب الفلسطيني على أرضه، وقدم أزيد من ربع مليون شهيد وجريح وأسير ومفقود، وظلت المقاومة على عهدها برفض الاستسلام، والاستمرار في مقارعة العدو.
بعد ذلك، وبعد ذلك فقط، يمكن الحديث عن دور للدبلوماسية العربية والدولية، وفضلها في اجتراح المقترحات ومشاريع الحلول، وإذا كان لا بد من أن ننسب الفضل لأصحابه، فأصحاب هذا الفضل هم أهل غزة ومقاوموها.
نقول ذلك، وفي الأذهان، ذلك السباق على الشاشات العربية، لادعاء صنع المعجزات وتسطير الاختراقات، ولمن لديه ذرة شك فيما نقول، ليتأمل السيناريو الأسوأ، لو أن غزة، سقطت في الأيام والأسابيع الأولى لهذه الحرب، ورفعت راية بيضاء، لطالما حلم نتنياهو واشتهى سموتريتش وبن غفير، رؤيتها ترفرف فوق رؤوس المقاتلين العراة، رافعي الأيدي خلف الرؤوس المطأطئة.
وفي السياق، يمكن الإشارة إلى انقلاب المشهد على الساحة الدولية، فإسرائيل، واستتباعا، حاضنتها وراعيتها، لم تعانِ العزلة والنبذ يوما، كما هو حاصل اليوم.
لقد أراد نتنياهو مكابرا، تغيير الشرق الأوسط، فإذا بغزة تغير العالم بأسره. أطواق العزلة التي ظهرت أثناء إلقاء نتنياهو خطابه "الفارغ" أمام المقاعد الفارغة في الجمعية العامة، رسمت بعضا من ملامح المرحلة الإستراتيجية الجديدة، التي دخلتها إسرائيل، مجردة من صورتها "الوردية" و"سرديتها الكاذبة، وتظهر عارية أمام العالم، متهمة بالإبادة والتطهير والفصل العنصري.
ولعلنا نجد في انتقال هذه التحولات الجذرية، إلى الداخل الأميركي، على مقربة من انتخابات نصفية مهمة، أحد المحركات التي دفعت ترامب، للإقدام على هذه الخطوات، وبعضها مفاجئ جدا، لغرض الحفاظ على "نصره المؤزر" في الانتخابات الأخيرة.
وفي السياق أيضا، يمكن استحضار الاجتماع الذي عقد بين ترامب وقادة ثماني دول عربية وإسلامية، وازنة، بوصفه "شارة البدء" لانطلاق هذا المسار، ووضع قطار المبادرة، على سكته.
لقد استمع ترامب لكلام مختلف، عما ظل يسمعه من فريقه، وغالبية أعضائه أقرب لليمين الإسرائيلي الأشد تطرفا، وعرف تمام المعرفة، إنه سيجد شركاء نشطين، إن هو تحرك على خط وقف المذبحة ووقف العدوان، ورفع "الجائحة" التي حاقت بغزة وأطفالها ونسائها وشيوخها.
ضاق صدر ترامب بنتنياهو، وفيض وعوده بإنهاء هذه الحرب في آجال زمنية قصيرة، وبدا أن الشرق الأوسط برمته، سيظل على صفيح ساخن، لأشهر عديدة قادمة، من دون أي ضمانة من أي نوع، لا لإخراج المحتجزين أحياء، ولا لإنهاء حماس واجتثاث المقاومة. عيل صبر الرجل الذي لم يشتهر بسعة الصدر وطول النفس، وكانت اللحظة مواتية لاقتناصها، وكان له ما أراد.
ثانيا: في ميزان الربح والخسارة
استبطنت مبادرة الـ"21 بندا"، ما يمكن لكل طرف أن يستله من إنجازات ومكاسب. كما تضمنت ما يمكن وصفه بالخسائر والتنازلات.
هبطت المبادرة بالسقوف العالية لتوقعات طرفي الصراع. ولكيلا نضيع في "زحمة" التصريحات "العرمرمية" التي نطق ترامب بها، فإننا نتحدث عن مبادرة لغزة، وليس للشرق الأوسط برمته، ولا للقضية الفلسطينية بمختلف جوانبها، مع أنها تفتح بابا للولوج إلى هذه الآفاق، وإن كانت في الوقت نفسه، لم تغلق بإحكام، كل الأبواب والثغرات، التي تجعل الانتكاس عنها، في مرحلة من مراحل تنفيذها، أمرا مُحتملا.
بعد نجاح طوفانها في إعادة وضع فلسطين، على صدارة جداول الأعمال الدولية وفي القلب منها، وبعد كل ما استحدثته من انقلابات وتحولات في المشهد الأممي، تستطيع حماس، أن تقول بملء فمها، إنها وضعت غزة- برغم الأثمان الفادحة- على سكة الخروج من شرنقة حصار جائر امتد عقدين من الزمان. وإنها دفنت مؤامرة "التهجير".
فالمبادرة لم ترفض فكرة التهجير فحسب، بل حثت سكان غزة على البقاء في قطاعهم للمساهمة في إعادة إعماره، وتلكم مفارقة كبرى، بعد حديث "الريفيرا" ووعود اليمين الفاشي بتحويل القطاع إلى حديقة خلفية لـ"غوش دان".
نفتح قوسين هنا، ومن باب الموضوعية والانصاف، لنثمن الموقف العربي، الأردني- المصري أساسا، الذي أغلق الباب بإحكام في وجه مشاريع التهجير، ولو لم يفعل البلدان ذلك، لكنا أمام مشهد مغاير.
تستطيع حماس أن تدعي أن أهم مطالبها الرئيسة ستتحقق إذا ما قُيض لهذه المبادرة أن تنتقل من الورق إلى الأرض، فالحرب ستضع أوزارها فورا، والانسحاب الإسرائيلي التام، سيتحقق وإن بالتدريج وعلى مراحل، وإسرائيل لن يكون لها سيطرة أمنية على القطاع، والإدارة الفلسطينية للقطاع، ستتحقق، وإن بالتدريج كذلك.
كما أنها ستكون أنجزت صفقة تبادل للأسرى والجثامين، فليس الإسرائيليون وحدهم، من يهتم بجثث قتلاهم، الفلسطينيون كذلك، معنيون بتكريم شهدائهم ومواراة جثامينهم الطاهرة، ثرى وطنهم الطهور.
وتستطيع حماس كذلك، أن تنسب لطوفانها، "تسونامي" الاعترافات الدولية بفلسطين، دولة مستقلة"، والذي ترتب عليه، تعهُد ترامب، صوتا وصورة، بعدم السماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية لسيادتها. تلكم واحدة من الإنجازات التي لم تكن متخيلة قبل عامين، حيث التقديرات كانت تذهب في اتجاه معاكس تماما.
في المقابل، تعرف حماس، وستعترف- على الأرجح- بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان. هي تعرف أن الإجابة بـ"لا" على المبادرة ستكون مكلفة للغاية، فحبل المبادرة الذي التف حول عنق نتنياهو، يقترب من الالتفاف حول عنقها كذلك، وهذه المرة، لن تكون حماس في مواجهة مع تل أبيب وواشنطن كما درجت عليه طيلة عامي الحرب، بل في مواجهة مع أبرز دول العالمين العربي والإسلامي.
تعرف حماس أن عهد سلاحها في غزة يقترب من نهايته، وربما جاء بند نزع السلاح، كأكثر البنود وضوحا في المبادرة، بل إن الانسحاب المتدرج من القطاع، بات مضبوطا على إيقاع سحب السلاح. دع عنك المساعدات وإعادة الإعمار ورفع الحصار.
المعادلة ليست سهلة على الحركة الفلسطينية. والقادة العرب والمسلمون، الذين دفعوا باتجاه مطالب محددة محقة يتعين تضمينها في المبادرة، راوحت مواقفهم من قضية السلاح بين مؤيد ومتحمس لنزعه، وبين "دعسات ناقصة"، ربما تكون صدرت عن هذا الزعيم العربي، أو ذاك الزعيم الإسلامي.
في مطلق الأحوال، فإن حديث السلاح ومقاتلي حماس، لم ينته بعد، فعن أي سلاح نتحدث، وهل ثمة تفريق بين ثقيل (أنفاق، صواريخ) وخفيف (فردي)، وعن أي مقاتلين يتعين بقاؤهم أو خروجهم، ومن بحوزته، كشوف بأسماء هؤلاء وهوياتهم، فهذه الحركة مندمجة بشعبها، ومتماهية معه، وستكون مهمة الفرز والتصنيف من أصعب مهام، "المراقبين المستقلين"، ولنا في تجربة الضفة الغربية بعد انتفاضة الأقصى (الثانية)، شواهد.
في المقابل، يستطيع نتنياهو أن يزعم أن المبادرة ستعيد له، دفعة واحدة، وخلال 72 ساعة من نفاذها، جميع الأسرى والمحتجزين: أحياء وأموات، وأن سلاح المقاومة في غزة سيجري انتزاعه، وأن غزة لن تكون مصدر تهديد لأمن إسرائيل بعد اليوم، وأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول لن يتكرر ثانية.
يستطيع الاحتفاء بأن حماس لن تبقى في حكم غزة، وأن السلطة لن تعود إليها (حتى اكتمال برنامج الإصلاحات، وليس للأبد). يستطيع أن يتبجح، حقا أو اختيالا لأغراض داخلية، بأنه حقق شروط الكابينت الخمسة لإنهاء حربه على غزة.
لكن في المقابل، سيجهد "الطاووس" في طمس ما كان وفريقه قد تعهدوا به. فلا سيطرة أمنية ولا احتلال ولا استيطان في غزة، ولا تهجير لأهلها، وستذهب جهوده مع دول كانت مرشحة لاستقبال موجات من المهجرين قسرا، هباء منثورا.
وسيبتلع السُم، وهو يخبر وفد مجلس "يشع" الذي جاءه إلى نيويورك محرضا: بأن الوقت ليس مناسبا للحديث عن ضم الضفة الغربية، وسيبدأ منذ الآن، في تقليب خياراته الشخصية والسياسية الداهمة.
فالشرق الأوسط، ما زال على حاله، بل صار أكثر كراهية لإسرائيل، وخشية من نوايا فاشيتها المتجذرة، ومشروع "إسرائيل الكبرى" يكاد يختنق بـ"اللقمة الفلسطينية" العصية على الابتلاع، والصراع الذي يوشك على إغلاق جولة دامية من جولاته المتكررة، ليس في الأفق المنظور، ما يشي بأنه شارف على نهايته، وكلام ترامب عن "سلام أبدي" مدجج بروحه الدعائية، وتنقصه الحكمة والموضوعية.
ثالثا: أين من هنا؟
ستخلق المبادرة حال الشروع في تنفيذها، وبعد أن تضع الحرب أوزارها، ديناميات فلسطينية وإسرائيلية يصعب التكهن بمدياتها ومفاعيلها الآن. سنكتفي في هذه المقالة، بالتأشير على بعض من أهم أسئلتها:
إسرائيليا، ليس السؤال عن مستقبل نتنياهو السياسي والشخصي هو الأكثر أهمية من الناحية الإستراتيجية. الأسئلة الأهم، تدور حول مستقبل اليمين الفاشي برمته، بعد أن تتكشف وقائع الحرب وخسائرها (ومكتسباتها)، وتأخذ التفاعلات بين تيارات الفكر والسياسة مدياتها.
أين وعد الأمن والازدهار، في ظل طوفان العزلة والمقاطعة والنبذ، وبعد أن سقطت مقولات من نوع "الجيش الذي لا يقهر"، و"الكيان الذي يشاطر الحضارة الغربية منظومتها الأخلاقية والإقليمية" و"واحة الديمقراطية في صحراء الشرق الأوسط القاحلة"؟
كيف ستستجيب إسرائيل لـ "أصوات العالم"، بعد أن يُسمح للصحافة والإعلام والدبلوماسيين والباحثين، بتفحص ما دار في غزة خلال العامين الفائتين؟ وكيف ستواجه طوفان الإدانة والتنديد؟ أي إسرائيل ستتشكل في ضوء نتائج هذا الطوفان، وصدق من أسماه طوفانا؟
فلسطينيا، لن يضير حماس أن تتحول إلى حزب سياسي، فلديها من الإرث والخبرة، والمكتسبات، ما يمكنها من تجاوز "قطوع السلاح"، والمقاومة لا شكلَ واحدا لها، ومروحة أدواتها واسعة وعريضة، وخيار المقاومة المسلحة، لا يتعين التخلي عنه، فهو حق كفلته الشرائع السماوية والوضعية، ولا ضير في ممارسة أشكال منها، يستطيع الشعب الفلسطيني، وحاضنة المقاومة، احتمال عواقبها وارتداداتها.
الحرب مع هذا العدو، هي حرب أجيال وعقود، والواهمون وحدهم، من يظنون أن حقوق الفلسطينيين باتت على "مرمى حجر"، قبل مبادرة ترامب وبعدها.
والسلطة الفلسطينية التي طال انتظارها للحظة ترث فيها غزة وما عليها، طاش سهمها. فهي تجد نفسها بعد أن تضع الحرب أوزارها، في وضع لا يختلف كثيرا عن وضعية حماس، برغم كل هذا الدعم والإسناد من فريق من المجتمَعين؛ العربي، والدولي.
لديها مشوار طويل، من الإصلاح، أو بالأحرى التكيف مع "دفتر الشروط" الأميركية- الإسرائيلية، ولو كانت لنا كلمة مسموعة في رام الله، لنصحنا بأن ينطلق مسار الإصلاح والتحديث للسلطة من أولويات الشعب الفلسطيني ومصالحه، وليس من "دفتر الشروط" إياه.
ومن المؤسف أن تسمع عن "برنامج إصلاحي" تسعى السلطة في تحقيقه، لكأنها نشأت بالأمس، أو أمس الأول، ماذا كنتم تفعلون طيلة السنوات العشرين الفائتة؟!
ومن المؤسف أن نسمع من سلطة شائخة، حديثا عن الشباب و"التشبيب"، فمن الذي أخرج أجيالا من الشباب من رحم السلطة ورحمتها، طيلة السنوات والعقود الفائتة؟!
السلطة بحاجة لإصلاح ومصالحة، لن يتحققا بمبادرة ذاتية منها، وهي على المفترق الحاسم: إما أن تفعل ذلك مع شعبها، ولخدمته، أو أن تنصاع لضغوط دولية، لا معنى للإصلاح بالنسبة لها، سوى ملاقاة شروط نتنياهو، ومطالب ترامب.
رابعا: والخلاصة
قطار الحل في غزة انطلق، والأرجح أنه سيتسارع في قادمات الأيام، وسيصل إلى محطة وقف الحرب ورفع الحصار وإدخال المساعدات، وربما يستمر في حركته وصولا إلى إعادة الإعمار.
لقد شهدنا أمرا مماثلا، مع الفارق المهول في حجم الدمار والتضحيات، بعد الانتفاضة الثانية واغتيال ياسر عرفات، وعلى يد توني بلير "إياه"، وكانت "الدولة المستقلة" خطة نهاية خريطة الطريق للرباعية الدولية، التي مثلها الرجل لسنوات سبع عجاف.
وقرأنا لتوماس فريدمان عن "الفياضية" والدولة التي يُراد بناؤها "تحت جلد الاحتلال"، كل هذا سقط وانقطع، ولم يصل القطار إلى محطته الأخيرة: دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67، وعاصمتها القدس الشرقية. سقط تحت ضربات اليمين الإسرائيلي الفاشي، وبفعل التبني الأميركي للرؤية والرواية الإسرائيليتين.
وها هي إسرائيل تعيد احتلال الضفة الغربية من جديد، بما فيها رام الله، عاصمة السلطة المؤقتة، وها هو الزحف الاستيطاني يأكل الأخضر واليابس، فيما قطعان المستوطنين ومليشياتهم السائبة، تعيث قتلا وتخريبا وإفسادا في أرض الفلسطينيين.
قد يقول قائل إن الأمر مختلف هذه المرة، فقد بلور "الطوفان" إرادة دولية للحل والذهاب إلى جذر المشكلة، كما لم يحدث من قبل. هذا احتمال/سيناريو، ولكن على الفلسطينيين- ومن خلفهم العرب والمسلمون والأحرار في العالم- تحضير النفس للسيناريو الأسوأ؛ وهو أن هذا المسار قد ينقطع في لحظة الأسئلة الكبرى: مصير الاحتلال، مصير المستوطنات، مصير القدس، مصير المقدسات، حق العودة وغيرها من القضايا الجوهرية.
وكما قلنا، فإن علينا أن نستذكر دائما، أن مبادرة ترامب تتعامل مع غزة، وليس مع ملفات الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، الشائكة والأكثر تعقيدا، فتلكم حكاية أخرى.