شبكة قدس الإخبارية

موقع الضفة الغربية في مشروع "أرض إسرائيل الكبرى"

GettyImages-2229264196

ترجمة خاصة - شبكة قُدس: منذ تأسيس المشروع الصهيوني ارتبطت فكرة “أرض إسرائيل الكبرى” بأبعاد لاهوتية وتاريخية، لكنها تحولت في العقود الأخيرة إلى برنامج سياسي تنفذه حكومات الاحتلال بغطاء أيديولوجي يقوده التيار المشيحاني الديني. جوهر هذه الفكرة أن قيام "الدولة اليهودية" لم يكتمل عام 1948، وأن على "إسرائيل" أن تبسط سيادتها على كامل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، باعتبار أن أي انسحاب أو تنازل عن الأرض يُنظر إليه كإضرار بمسار الخلاص الإلهي. هذه العقيدة باتت اليوم حاضرة في قلب القرار السياسي عبر مشاريع استيطانية واسعة يقودها وزير المالية في حكومة الاحتلال بتسلئيل سموتريتش، الذي جعل من الاستيطان في الضفة الغربية أداة لإحكام السيطرة ومنع أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية.

خطوات سموتريتش خلال العامين الماضيين توضح بجلاء هذا التوجه. فقد أمر بربط 68 بؤرة استيطانية غير قانونية بالبنى التحتية وتزويدها بالخدمات كما لو كانت مستوطنات معترف بها، ودفع بخطط بناء ضخمة أبرزها مشروع ربط مستوطنة “معاليه أدوميم” بالقدس عبر 3400 وحدة سكنية جديدة، معلنًا أن ذلك “سيُدفن نهائيًا فكرة الدولة الفلسطينية”. كما تحدث صراحة عن خطة لاستقدام مليون يهودي إضافي إلى الضفة الغربية، معتبرًا أن “كل بيت يُبنى إعلان سيادة، وكل حيّ مسمار في نعش حلم الفلسطينيين”. هذه السياسة تجري بتنسيق مع بنيامين نتنياهو، وبحسب تصريحات سموتريتش فإنها تحظى أيضًا بغطاء أمريكي، ما يمنحها شرعية سياسية تُمكّنها من تجاوز الاعتراضات الدولية.

لكن هذه المشاريع لا يمكن فهمها بمعزل عن الجذور الفكرية للتيار المشيحاني. فالحاخام أبراهام يتسحاق كوك، مطلع القرن العشرين، وضع الأساس اللاهوتي باعتبار الصهيونية أداة بيد العناية الإلهية، فيما أكد ابنه الحاخام تسفي يهودا كوك بعد حرب 1967 أن السيطرة على الضفة والقدس وسيناء والجولان ليست مجرد انتصار عسكري بل “مرحلة لا رجعة عنها في مسار الخلاص”. هذا الفكر أفرز جيلاً من التلاميذ الذين ترجموا العقيدة إلى أفعال على الأرض، من بينهم موشيه ليفينغر الذي قاد الاستيطان في الخليل عام 1968، وحنان بورات الذي أسس كتلة “غوش عتصيون” وكان من أبرز مؤسسي حركة “غوش إيمونيم”. هذه الحركة قادت عمليات استيطان جريئة أجبرت الحكومات الإسرائيلية على شرعنة وقائع فرضها المستوطنون بالقوة، حتى بات شعار “الاستيطان يرسم الحدود” سياسة معتمدة.

منذ ذلك الحين، أصبح الاستيطان حجر الزاوية في مشروع “أرض إسرائيل الكبرى”. ومع انقلاب 1977 وصعود الليكود بزعامة مناحيم بيغن، حظي المستوطنون بدعم حكومي مباشر، فشهدت الضفة طفرة استيطانية. وفي التسعينيات وبعد توقيع اتفاق أوسلو، اعتمد التيار المشيحاني أسلوب البؤر العشوائية: كرفانات مؤقتة على التلال تتحول لاحقًا إلى مستوطنات دائمة تحت ضغط سياسي. هذه الإستراتيجية أثبتت نجاحها، إذ جرى لاحقًا تسوية عشرات البؤر وربطها بالخدمات، وصولًا إلى عهد سموتريتش الذي منحها صفة قانونية كاملة وفتح أمامها ميزانيات حكومية.

نفوذ التيار المشيحاني لم يقتصر على الأرض، بل تمدد إلى السياسة والقانون. فقد نجح في فرض أجندته داخل حزب “المفدال” ثم أحزاب اليمين، وصولًا إلى تحالف “الصهيونية الدينية” الذي شكّل مع “عوتسما يهوديت” و”نوعَم” كتلة انتخابية قوية، وحصد مواقع وزارية مؤثرة في حكومة نتنياهو. هذه القوة أتاحت لسموتريتش السيطرة على ملف الاستيطان بشكل مباشر، ونقل الصلاحيات من الجيش إلى المستوى السياسي. في المقابل، عمل التيار على إضعاف المحكمة العليا التي اعتُبرت عقبة أمام التوسع، ودعم “الإصلاح القضائي” كوسيلة لإزالة أي قيود قانونية تعرقل مشروعه. كما دفع نحو إلغاء قوانين فك الارتباط وإقرار تشريعات تمهّد لفرض السيادة على الضفة الغربية، في مسعى لطمس الخط الأخضر بشكل كامل.

الانعكاسات المجتمعية لهذا الفكر لا تقل خطورة. فالتيار المشيحاني يروّج لقيم تعتبر قدسية الأرض والشعب فوق حياة الفرد، ما انعكس في مواقف متشددة تجاه صفقات تبادل الأسرى ومعارضة أي تسويات سياسية. كما عزز خطابًا متطرفًا تجاه الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وسكان الضفة، وصل إلى أعمال عنف وهجمات تُنفذ تحت شعار “تدفيع الثمن”. ورغم إدانة بعض القيادات لهذه الأفعال، فإنها تنبع من بيئة أيديولوجية تشرعن العنف بحجة الدفاع عن “أرض إسرائيل”. هذا الخطاب عزز الانقسام الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، وأدى إلى صدامات سياسية وثقافية بين من يؤمنون بدولة ديمقراطية ليبرالية، ومن يرون أن هوية الدولة اليهودية–المشيحانية تعلو على أي اعتبارات أخرى.

اليوم، يبدو أن رؤية “أرض إسرائيل الكبرى” لم تعد مجرد حلم أيديولوجي بل سياسة حكومية رسمية. مشاريع سموتريتش ليست معزولة، بل امتداد لمسار بدأ مع الحاخامات ومر عبر المستوطنين الأوائل وصولًا إلى قلب السلطة.

وبذلك يتحول الاستيطان إلى أداة عملية لدفن حل الدولتين، وتحويل السيطرة الإسرائيلية على الضفة إلى واقع لا رجعة فيه. فكل بيت جديد في معاليه أدوميم أو بؤرة تُسوّى في شمال الضفة، هو بالنسبة لتيار سموتريتش خطوة إضافية نحو تجسيد الخلاص كما يراه، ورسالة للعالم أن المشروع الصهيوني لا يتوقف عند حدود 1948 ولا عند خطوط 1967، بل يمتد إلى ما هو أبعد بكثير.