غزة - قدس الإخبارية: منذ احتلال فلسطين، يسعى الاحتلال الإسرائيلي بشكل ممنهج إلى طمس الهوية الفلسطينية، عبر حرق وتدمير كل ما يربط الفلسطيني بأرضه وتاريخه.
لم تقتصر محاولاته على السيطرة الجغرافية، بل امتدت لتشمل الحرب على الذاكرة، فاستهدف المعالم، والوثائق، والموروثات، وحتى الحكايات الشعبية، في محاولة لمحو كل ما يُثبت الوجود الفلسطيني الأصيل على هذه الأرض.
وما جرى في غزة خلال الإبادة الجماعية شكّل دليلاً صارخًا على نوايا الاحتلال الممنهجة في محو التاريخ الفلسطيني، حيث لم تقتصر آلة الحرب على البشر، بل امتدت لتطال الحجر والذاكرة. فاستُهدفت المواقع التاريخية والأثرية بشكل متعمّد، وأُحرقت آلاف الكتب والمخطوطات القيّمة التي يفوق عمرها عمر الاحتلال بعشرات السنين، والتي كانت تحكي جغرافيا فلسطين وتاريخها، وتوثّق الوجود الفلسطيني الأصيل على هذه الأرض.
ولأن الفلسطيني بات يدرك، أينما وُجد، أن الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بمصادرة الأرض، بل يشن أيضًا حربًا شرسة على الذاكرة والهوية، فقد انبرى بكل وعي وجهد لحماية روايته وتوثيق إرثه الوطني والثقافي. فكانت محاولاته حثيثة ومضاعفة، سواء عبر التدوين الورقي التقليدي أو من خلال توظيف الوسائل الرقمية الحديثة، لا سيما في السنوات الأخيرة التي شهدت تناميًا لافتًا في الوعي الجمعي بأهمية حفظ الهوية ومقاومة النسيان في وجه محاولات الطمس والتزييف.
ومن أهم المشاريع التي برزت في السنوات الأخيرة للحفاظ على الإرث الفلسطيني، كانت مبادرة "حكايات فلسطينية" لكن بطابع غزة صنعته الدكتورة سمر دويدار، باحثة في التاريخ الشفهي ومؤسسة المبادرة.
لماذا حكايات فلسطينية؟
تقول دويدار لـ "شبكة قدس": كانت الدوافع في البداية شخصية وعاطفية بالدرجة الأولى،كنت أعمل على رواية عن فلسطين، وخلال رحلة البحث التي خضتها لهذا الغرض، وصلت إلى لحظة فارقة حين وقعت بين يدي رسالة شخصية للغاية كتبها جدي خلال النكبة. تلك الرسالة هزّتني بعمق؛ شعرت وكأنني أكتشف فلسطين لأول مرة من خلال صوت حقيقي عاش المعاناة، لا عبر صفحات كتب التاريخ. في تلك اللحظة، لم أعد أقرأ عن الحدث، بل أصبحت جزءًا منه".
وتابعت:" أدركت حينها مدى قوة الروايات الشخصية وعمق أثرها العاطفي والمعرفي. فالتوثيق الشفوي لتجارب الأفراد في أحداث مصيرية كالنّكبة يحمل طاقة إنسانية لا تُضاهى، وقد يفوق تأثيره أحيانًا السرد الأكاديمي أو الرسمي".
ومن هنا، لم تعد الفكرة مجرد توثيق لتاريخ عائلتها، بل تطوّرت إلى مبادرة أوسع تهدف إلى تمكين كل فلسطيني من سرد حكايته، كان هدفها أن تكون هذه القصص ملكًا لأصحابها، تُروى بأصواتهم، دون تدخل من مؤسسات أو سلطات تختار ما يُوثّق وما يُهمل.
وأنشأت مساحة رقمية مفتوحة تتيح لكل فلسطيني مشاركة ذاكرته وتجربته بحرية، ليُصبح لكل صوت مكان يُسمَع فيه، شعرت أن هذه هي طريقتي في المساهمة في القضية، شكل من أشكال المقاومة السلمية، حين لا أملك وسيلة أخرى للمشاركة.
وبحسب قول دويدار فإن مبادرتها تهدف إلى توثيق حياة سكان فلسطين ما قبل عام 1967، وذلك بتوثيق الحياة الشخصية، العائلية، الاجتماعية، الثقافية والاقتصادية من خلال التواصل مع الجيل الثالث من الفلسطينيين. تتضمن المبادرة بناء منصة إلكترونية تتيح أرشيفًا رقميًا تفاعليًا ومتجرًا إلكترونيًا، لتصبح المنصة بمثابة متحف تفاعلي للإنسان الفلسطيني، والأرشيف مصدرًا أوليًا للباحثين.
وحول اعتماد "حكايات فلسطينية" على الأرشيفات العائلية كمصدر أساسي، ذكرت أن الأرشيف العائلي يقدم
صورة إنسانية حقيقية للفلسطيني، بعيدًا عن الصور النمطية المتكررة في السرديات الرسمية، التي تقدَّم الفلسطيني إما كبطل خارق أو كإرهابي، مما يجرده من إنسانيته ويحوّله إلى رمز مجرد، بينما الأرشيف العائلي، فيمنحه القدرة على رؤية الفلسطيني كإنسان يعيش حياة كاملة بتفاصيلها اليومية: نراه طفلاً، عاملاً، طالبًا، يحتفل، ينجح أحيانًا ويفشل أحيانًا أخرى.
حرب غزة، غيرت شكل المبادرة
ولعل أبرز ما يميز منصة "حكايات فلسطينية" أن الشخص نفسه يقوم بتوثيق تاريخ عائلته من خلال اعداد حساب عبر المنصة ثم يحمل الصور والوثائق العائلية التي يحتفظ بها كصور الزفاف ومناسبات التخرج والحياة اليومية كما صورها الناس في غزة قبل وبعد الحرب.
وذكرت دويدار التي تحمل مبادرتها ما بين مصر وتركيا لتحكي أرشيف العائلات وتصطحب شخصيات تحكي المبادرة وتروي حكاية عائلتها، إلى أن مبادرتها ركزت على جمع الأرشيفات التي توثق الحياة في فلسطين حتى عام 1967، باعتبار أن الاحتلال بعد هذا التاريخ شكّل مفصلًا حاسمًا في التاريخ الفلسطيني.
وأشارت خلال حديثها لمراسلة "شبكة قدس" على هامش فعالية أعدتها في القاهرة، إلى أنه بعد العدوان الأخير على غزة في أكتوبر 2023، حصلت مراجعة عميقة في فلسفة التوثيق، واتضح أن ما يحدث اليوم هو استمرار لنكبة طويلة. لذا، أصبح من المهم توثيق الحياة اليومية في غزة قبل 6 أكتوبر 2023 أيضًا، بما يشمل تفاصيل الحياة العادية، من صور عائلية إلى لحظات بسيطة تحمل قيمة كبرى في سياق الفقد والدمار.
وفي ختام دعوتها، تحثّ دويدار الفلسطينيين، ولا سيما أهل غزة، على المشاركة في مبادرتها الهادفة إلى توثيق تفاصيل الحياة اليومية، خاصة في ظل الإبادة المستمرة، واستعراض ملامح حياتهم السابقة لحفظها من النسيان وتخليدها في الذاكرة الجمعية.