غزة - خاص قدس الإخبارية: في كل جولة من جولات المواجهة في المنطقة، تواصل قوى المقاومة تراكم خبراتها في التصدي لآلة الحرب التي يمتلكها الاحتلال الإسرائيلي، والتي تعتمد في استراتيجيتها على مبدأ "الصدمة والترويع" كوسيلة لحسم المعركة بسرعة وتحقيق انهيار نفسي وعملياتي في صفوف الخصم.
هذه العقيدة الهجومية ليست طارئة، بل هي امتداد لفكر أمني صاغه قادة المشروع الاستيطاني منذ البدايات، يقوم على المباغتة، واستهداف مراكز القيادة والسيطرة، وضرب الجبهة الداخلية بهدف إحداث الفزع والشلل.
لكن فعالية هذه الاستراتيجية، التي نجحت في مراحل سابقة في حسم حروب الاحتلال التقليدية، بدأت تواجه تحديات حقيقية مع تطور بنى المقاومة وارتفاع منسوب الجهوزية لدى خصوم الاحتلال، إذ لم تعد الضربة الأولى كافية لإحداث الانهيار، بل تحوّلت في تجارب عديدة إلى مدخل لرد أعنف وأكثر تأثيرًا، يخلخل التقديرات الأمنية والعسكرية للاحتلال ويضعه أمام استنزاف طويل المدى.
يتجلى هذا التحول بوضوح في تجربتين بارزتين: الأولى في قطاع غزة، حيث تمكنت المقاومة الفلسطينية من امتصاص أقسى الهجمات وأكثرها دموية، والاحتفاظ بقدرتها على المبادرة والرد، رغم استهداف بنيتها القيادية والعسكرية.
والثانية في إيران، التي تعرضت لهجوم مباغت واسع النطاق استهدف منشآتها النووية وقياداتها العسكرية، لكنها استطاعت امتصاص الضربة والرد بسرعة وفعالية في عمق الأراضي المحتلة، في مشهد كسر هيبة الضربة الأولى وهزّ ثقة جمهور المستوطنين بقدرة حكومته على الحسم.
تؤشر هذه التجارب إلى بداية مرحلة جديدة في معادلات الاشتباك في المنطقة، حيث لم تعد المبادرة الهجومية للاحتلال كفيلة بتحقيق الردع أو فرض الوقائع، بل أضحت محفوفة باحتمالات الفشل، والانتقال السريع من الهجوم إلى الدفاع، ومن التهديد إلى التورط.
ملامح العقيدة الهجومية للاحتلال الإسرائيلي
تُشكّل نظرية "الصدمة بالقوة" إحدى الركائز الأساسية في العقيدة الهجومية للاحتلال الإسرائيلي، وقد رُسّخت هذه النظرية في صلب العقيدة العسكرية منذ تأسيس الكيان، بوصفها الأداة الأكثر فعالية في تحقيق نصر خاطف يضمن تفكك الخصم قبل أن يتمكن من تنظيم ردّ فعّال.
وتقوم هذه العقيدة على ضربات مباغتة، عالية الكثافة، موجهة في توقيت واحد إلى مواقع القيادة والسيطرة، والبنى التحتية العسكرية، والمنشآت الحيوية، وحتى إلى الجبهات الداخلية للخصوم، بهدف إرباكهم، وتعطيل قدرتهم على تقدير الموقف أو الصمود.
لم يكن هذا المنطق مجرد نظرية نظرية، بل مثّل جوهر العمليات الكبرى التي خاضها الاحتلال منذ نكبة 1948، مرورًا بعدوان 1967، وصولًا إلى الحملات العسكرية المتتالية في لبنان وفلسطين.
وقد شكّلت نجاحات الاحتلال في الحروب السريعة، وما تبعها من انهيارات في صفوف الجيوش النظامية العربية، بيئة خصبة لتثبيت قناعة راسخة في العقلية الإسرائيلية مفادها أن الحرب تحسم في "الضربة الأولى"، وأن السيطرة على اللحظة الافتتاحية للمواجهة كفيلة بتحديد مسارها بالكامل.
لكن مع تصاعد نضج قوى المقاومة، وانخراطها في إعادة تعريف قواعد الاشتباك، بدأ هذا النمط يواجه ارتدادات معاكسة. وللمرة الأولى، في حرب تموز 2006 ضد حزب الله، تعرّضت هذه العقيدة لهزّة كبيرة، بعدما أخفقت الضربات الجوية المكثفة في شلّ بنية المقاومة أو تحجيم ردّها. وتوالى التحدي ذاته في الحروب التي شنها الاحتلال على قطاع غزة، ولا سيما في أعوام 2008، 2012، 2014، 2021، ووصل إلى ذروته في حرب الإبادة التي بدأها الاحتلال بعد السابع من أكتوبر 2023.
في تلك الحرب، استند الاحتلال إلى ذات العقيدة، وعمل على شنّ هجوم رأسي واسع النطاق، انطلق من ضربات جوية غاشمة استهدفت المركز الإداري لمدينة غزة، تلاها تقدم بري مدرّع ومكثّف نحو قلب القطاع، مع محاولة خلق "لحظة سقوط بغداد" – أي صدمة انهيارية تفضي إلى تخلخل جماعي في صفوف المقاومة والمجتمع.
وبالرغم من فظاعة القوة المستخدمة، ومعدل التدمير غير المسبوق، فإن الاحتلال لم ينجح في فرض انهيار شامل، ولم يتمكن من كسر الإرادة القتالية لدى المقاومة، ولا من إنتاج صورة "النصر الخاطف" التي راهن عليها سياسيًا وعسكريًا.
تتجلّى خصائص العقيدة الهجومية للاحتلال الإسرائيلي في ثلاث سمات مركزية:
- المبادرة بالضربة الأولى: باعتبارها مفتاح الحسم، ومحاولة إخراج الخصم من معادلة الرد في اللحظة الافتتاحية.
- استهداف البنية القيادية: بوسائل الاغتيال أو التدمير الشامل لمراكز السيطرة، لإحداث شلل وظيفي داخل جسم المقاومة.
- استثمار الضغط النفسي: عبر ارتكاب مجازر جماعية، واستهداف المنشآت المدنية، لخلق انهيار معنوي يطال المجتمعات لا البنى القتالية فقط.
ورغم أن هذه المنظومة أحرزت نجاحًا في مراحل تاريخية، فإن تطور قدرات الخصوم – وعلى رأسهم قوى المقاومة وإيران – بدأ يُفقدها عنصر الحسم، ويحوّلها إلى سلاح يرتدّ على من يستخدمه عندما لا يتحقق أثره في الساعات الأولى. فالمعركة لم تعد تُقاس فقط بمدى الدمار، بل بقدرة الخصم على الصمود، وإعادة التموضع، والرد المؤلم.
تجربة غزة – الصمود والتكيف تحت الضربات
منذ انطلاق المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، كانت تدرك أنها تواجه قوة عسكرية ذات تفوق تقني ومادي هائل، وأن الاحتلال الإسرائيلي لن يتردد في استخدام أقصى درجات العنف الممنهج لتصفية بنيتها، وفرض معادلات الاستسلام بالقوة.
وقد بنت مقاومتها منذ البداية على فرضية التعرّض لهجوم مفاجئ واسع، ما جعلها توطّن في بنيتها التنظيمية والعسكرية قدرة عالية على المرونة، والمناورة، وتوزيع المهام، والحفاظ على وحدة القيادة حتى في أقسى الظروف.
مع اندلاع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، انتقل الاحتلال إلى أقصى درجات توظيف عقيدته الهجومية، من خلال هجوم رأسي مكثف يستهدف البنية المركزية للقطاع، لا سيما مركزه الإداري، ومحاور تموضع الثقل للمقاومة في المناطق ذات الرمزية، مثل الشجاعية وجباليا وخانيونس. ورغم هذه الوحشية، تمكنت المقاومة من امتصاص الضربات الكبرى، وتجاوز الصدمة الميدانية، والحفاظ على زمام المبادرة في عدد من الجبهات.
تعاملت المقاومة مع هذا النمط من الهجوم بنظام دفاعي مرن، اعتمد على:
- تقدير دقيق لسلوك الاحتلال وتحديد نواياه العملياتية، مما ساعد في استباق بعض تحركاته أو تفريغ أهدافه من مضمونها.
- المناورة الميدانية الذكية، عبر إعادة الانتشار، وتفعيل البنى التحتية القتالية التي بُنيت بعناية طوال سنوات الحصار.
- استقلالية القيادة المحلية، إذ جرى تدريب الكوادر الميدانية على اتخاذ قرارات تكتيكية دون انتظار التوجيه المركزي، ما أبقى الفعل المقاوم حيًا حتى في ذروة الاضطراب.
وفي مواجهة التصعيد الإسرائيلي، الذي تدرّج من القصف الجوي إلى الاجتياحات البرية المركزة، عملت المقاومة على إدارة الاشتباك بطريقة استنزافية، فأفشلت محاولات الاحتلال في فرض "معركة حاسمة" بكل مناطق قطاع غزة، وواصلت الرد عبر الكمين المباغت، والاستنزاف المستمر، والتجديد في الوسائل والأساليب. ولم تسقط أي منطقة في القطاع تحت سيطرة عسكرية ثابتة للاحتلال، ولم يتمكن الجيش من الادعاء بامتلاكه لأي شبر من القطاع بصورة ناجزة.
وعلى الرغم من أن الاحتلال استطاع تنفيذ عمليات اغتيال موجعة بحق عدد من قيادات المقاومة، بما فيهم رؤوس الهرم السياسي والعسكري، فإن بنية المقاومة أثبتت تماسكًا عاليًا في إعادة ترميم خطوط القيادة، والحفاظ على القدرة الاتصالية، ومواصلة الإشراف على المعركة، بل والمناورة بالتكتيكات والسياسات التفاوضية في آنٍ معًا.
وبناء عليه، لم تنجح نظرية الحسم عبر الضربات الكبرى في تجربة غزة، بل انقلبت إلى مأزق ميداني وأخلاقي للاحتلال، وأظهرت المقاومة قدرة استثنائية على التكيف مع الضغط المركّب – العسكري والمجتمعي – وأثبتت أنها لم تعد مجرد طرف يتلقى الضربات، بل فاعل عسكري منظم يحسن إدارة الحرب تحت النار، ويطيل أمد الاستنزاف حتى يفرغ البحث عن "النصر الإسرائيلي" من أي مضمون عملي أو سياسي.
تجربة إيران – امتصاص الضربة والرد المنظم
في ليلة 12-13 يونيو/حزيران 2025، نفّذ الاحتلال الإسرائيلي واحدة من أوسع عمليات الهجوم المباغت خارج فلسطين، مستهدفًا الجمهورية الإسلامية الإيرانية بضربة مركبة، شملت منشآت نووية، ومراكز قيادة عسكرية، وقيادات عليا في الحرس الثوري، إضافة إلى مواقع لصناعة وتخزين الصواريخ.
العملية التي حملت اسم "الأسد الصاعد"، شاركت فيها أكثر من 200 طائرة ومسيّرة، بعضها انطلق من قواعد سرّية داخل الأراضي الإيرانية، بدعم استخباراتي غربي مباشر، خصوصًا من الولايات المتحدة.
راهن الاحتلال على أن تُحدث الضربة الأولى أثرًا استراتيجيًا مزلزلًا، سواء عبر شلّ منظومات القيادة والسيطرة، أو تفكيك سلسلة القيادة داخل الحرس الثوري، أو حتى دفع البلاد إلى حافة الانهيار الداخلي.
وقد استند هذا التقدير إلى فرضية أن شدة الصدمة، وتزامن الضربات، سيفضي إلى إرباك واسع النطاق، يمنع إيران من تنظيم رد فعل عسكري فعّال، ويدفعها في نهاية المطاف إلى خيارات تفاوضية مذلّة أو تفكك داخلي تدريجي.
لكن حسابات الاحتلال فشلت في التقاط طبيعة التطور الذي شهدته إيران أمنيًا وعسكريًا، خاصة في ما يتعلّق بالجهوزية للسيناريو الأسوأ. ورغم المفاجأة الزمنية والتكتيكية، إلا أن إيران بدت – خلال ساعات – قادرة على امتصاص الضربة، والتحول من وضع دفاعي إلى ردّ هجومي منظم.
أولاً، أظهرت القيادة الإيرانية قدرة عالية على تفعيل آليات الطوارئ، وسدّ الشواغر القيادية بسرعة، مما قطع الطريق على سيناريو الفراغ و"شلّ القرار". وعلى الرغم من استهداف شخصيات مركزية في القيادة العسكرية، فإن البنية المؤسسية – خصوصًا داخل الحرس الثوري وقيادة القوة الجوفضائية – أثبتت عمقًا تنظيميًا يسمح بمواصلة المهام القتالية خلال زمن الأزمة.
ثانيًا، انتقلت إيران في وقت وجيز إلى تنفيذ رد نوعي على أهداف داخل الأراضي المحتلة، شمل مواقع حساسة مثل مقر وزارة الحرب الصهيونية، ووحدات قيادة في الشمال والوسط، وهو ما أصاب الوعي الجمعي الإسرائيلي بالارتباك، وبدّد رواية "الضربة النظيفة" التي لا تُقابل برد.
وقد كشفت طبيعة الرد عن امتلاك إيران لبنك أهداف جاهز، وقدرة صاروخية دقيقة، ما يشير إلى أن إيران خططت لسيناريو الرد حتى قبل وقوع الضربة، ونجحت في تفعيله وفق تقدير محسوب.
ثالثًا، لم يقتصر الرد الإيراني على البعد العسكري فقط، بل ترافق مع خطاب سياسي متماسك، ورسائل إقليمية ودولية وازنة، حافظت على صورة الدولة الممسكة بزمام المبادرة، القادرة على الرد دون الانجرار إلى تهور استراتيجي.
وبهذا، تحولت "الضربة الكبرى" التي راهن عليها الاحتلال إلى مدخل لتعزيز شرعية الرد الإيراني، ورفع كلفة العدوان، وإعادة تثبيت معادلة الردع على مستوى الإقليم.
رابعًا، أخفقت استراتيجية الاغتيالات ضمن هذا الهجوم في إحداث الفراغ المراد. فحتى قبل إتمام التعيينات الرسمية من المرشد الإيراني لسدّ المواقع القيادية التي استُهدفت، كانت القوات العسكرية الإيرانية قد بدأت بالفعل تنفيذ الضربات المضادة، ما يُشير إلى مستوى غير مسبوق من اللامركزية والجاهزية العملياتية في بنية الجيش والحرس الثوري.
تُظهر التجربة الإيرانية أن الهجوم الصادم لم يعد ضامنًا لفرض الاستسلام، بل بات محفوفًا بردود فعل أكثر تنظيمًا وتأثيرًا. كما أن الاعتماد على الضربة الأولى لتحقيق التفوّق النهائي تحوّل إلى رهان خاسر، قد يفضي إلى استنزاف طويل، يضرب الأمن القومي للاحتلال ذاته، ويُعيد رسم معادلات الردع في غير صالحه.
ما تقوله غزة وطهران عن نهاية زمن الحسم الإسرائيلي
في عالم ما قبل تحولات العقدين الأخيرين، كان الاحتلال الإسرائيلي قادرًا إلى حد كبير على تحديد شكل ومكان وزمان المواجهة. كان يفتتح الحرب في لحظة يختارها، ويوجه ضربته الأولى دون أن يُحسب حسابًا جديًا للرد، ثم يعلن متى تنتهي المعركة وفق ما يراه مناسبًا لتحقيق أهدافه أو الحفاظ على صورته الردعية. لكن هذا العالم قد انتهى.
التحولات المتراكمة في بنية قوى المواجهة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها قوى المقاومة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، أرست معادلات جديدة عمادها الجهوزية الكاملة لأسوأ السيناريوهات، والتعلم المستمر من التجارب الميدانية، وبناء العمق الاستراتيجي والتنظيمي القادر على الصمود والرد معًا.
إذ لم تعد تلك القوى مجرد حركات مقاومة تُراكم الصواريخ، بل أصبحت جبهات مركّبة تمتلك وحدات قيادة بديلة، وبنية تحتية مرنة، واستعدادًا تنظيميًا لمواجهة الحرب النفسية، وقراءة عميقة لنمط تفكير العدو.
لقد أظهرت غزة، في قلب النار والحصار، أن كسر البنية القتالية ليس ممكنًا عبر الاغتيالات أو المجازر، وأن البنية الاجتماعية للمقاومة لا تتفكك بالهدم، بل تزداد تماسكًا تحت القصف. وفي الوقت ذاته، قالت طهران من عمق الجغرافيا إن المسافة لم تعد عائقًا أمام الرد، وأن احتكار التفوق التكنولوجي لم يعد يضمن الحسم، وأن استهداف القيادات لا يعني إسكات القرار.
بهذا، تتكشّف حدود الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على الصدمة والحسم. فكلما زادت قوتها التدميرية، ارتفعت معها كلفة الفشل، وتضاعفت احتمالات التورط في استنزاف طويل يعجز عن تحقيق الأهداف. وكلما توسّعت دوائر الاستهداف، تعمّقت معها دائرة الردود والمفاجآت المضادة.
إن ما يجمع بين تجربتي غزة وطهران ليس مجرد الرد على العدوان، بل تثبيت معادلة ردع جديدة: مفادها أن الاحتلال الإسرائيلي لم يعد هو الطرف الوحيد القادر على المبادرة، ولا صاحب القرار الوحيد في تحديد متى تبدأ المعركة ومتى تنتهي. في هذا الواقع الجديد، لم تعد الضربة الأولى كافية، ولم يعد الحسم بيد واحدة.
وهذا هو بالضبط ما يعنيه انتهاء زمن الحسم الإسرائيلي: ليس أن الاحتلال لن يهاجم، بل أن هجومه لن يكون كافيًا، وردّه لن يكون آخر ما يُقال في الحرب.