شبكة قدس الإخبارية

إغلاق الأقصى على المقاس الصهيوني

٢١٣

 

89981
زياد ابحيص

بعد نحو ساعة ونصف من الضربة الصهيونية الأولى لإيران كانت شرطة الاحتلال تقتحم المسجد الأقصى وتجبر المصلين على مغادرته بالقوة من بعد صلاة الفجر، وتعلن إغلاق أبوابه أمام صلاة الجمعة لتسجل بذلك سابقة حصلت لثلاث مرات خلال تاريخ احتلال المدينة: الأولى بُعيد احتلال الأقصى في 9-6-1967، والثانية على مدى جمعتين في 14-7-2017 ثم التالية لها في 21-7، لكنها كانت جمع عملياتٍ فردية وغضب شعبي مشهود في مواجهة محاولات تطويق الأقصى؛ والثالثة في الجُمع العشر لإغلاق المسجد الأقصى بذريعة الإجراءات الوقائية من وباء كورونا في 2020.

عند احتلال الأقصى في 7-6-1967 استباحت قوات الاحتلال المسجدَ الأقصى على مدى أيام، لكنها لم تلبث أن غلَّبت عقلانيتها الاستعمارية بضرورة أن لا تظهر بمظهر من يعادي الدين والمعتقد، وأنها "تستحق" إدارة مدينة مثل القدس، وللبرهنة على ذلك والحصول على صمت دولي على احتلالها فلا بد من استعادة الصلاة في المسجد الأقصى وفي كنيسة القيامة في أسرع وقت ممكن، وعلى هذا الأساس انسحبت قوات الاحتلال من المسجد وأعادت إدارته بالكامل إلى الأوقاف التي ما لبثت أن تأسست من رحمها الهيئة الإسلامية العليا لمواجهة استفراد الاحتلال بالأقصى والأوقاف في القدس ومحاولة ضمها، ومن هنا تأسس واقع أن المسجد أسيرٌ نعم، لكن هويته الإسلامية قائمة رغم الأسر، كما أن الأسرى فرضوا لأنفسهم حقوقاً في الأسر عبر نضال طويل... وفي لحظة الإبادة الشاملة، يريد الاحتلال أن ينهي هذه الحقوق على الجبهتين وأن يعلن الحسم الكامل.

التحكم بقرار فتح المسجد الأقصى هو إعلان "سيادة" بالنسبة للاحتلال، هو تكريس لحقيقةٍ يريد فرضها بأنه هو من يدير المسجد الأقصى وهو صاحب القرار الحصري في كل شؤونه، وأنه هو من يقرر من يصلي فيه وكيف يصلي ومتى يصلي، وكأن "دولة إسرائيل" باتت "الإله الحديث" المتوهّم الذي يرسم حدود المقدس، وكأنه لا حياة لأحد على هذه الأرض أو في جوارها إلا تحت إرادته.

الطريق إلى التحكم بهذا القرار كان مساراً طويلاً ومتعرجاً، ولعل محطته الأولى كانت في عام 2002 بإعلان شرطة الاحتلال اغتصاب صلاحية إدخال السياح والمستوطنين إلى المسجد الأقصى من الأوقاف الأردنية، وبذلك بات جزء من الدخول والخروج تحت سيطرتها المطلقة، بعد أن كان دخول السياح يتم عبر الأوقاف وبرفقة مرشديها وبما يتوافق مع قدسية المسجد.

الخطوة التالية كانت في 2008 مع تكريس أوقات خاصة لدخول المقتحمين تتولى شرطة الاحتلال فرضها رغماً عن الأوقاف وبكل ما يقتضيه ذلك من قمعٍ للمصلين والمرابطين، ثم في 14 و15-9-2015 بفرض الإغلاق الشامل على الأقصى في وجه المصلين في رأس السنة العبرية ومحاولة تفريغه تماماً للمقتحمين الصهاينة، وهو الأمر الذي أدى إلى مواجهات مع المرابطين والمرابطات تفجرت على إثرها انتفاضة السكاكين.

في 14-7-2017 تجددت المحاولة بإغلاق المسجد الأقصى في وجه المصلين عقب عملية الجبارين الثلاثة التي أدت إلى قتل اثنين من ضباط "حرس الحدود" عند باب حطة، واستشهاد الشباب الثلاثة في ساحات المسجد الأقصى. إلا أن السحر انقلب على الساحر في هذا الإغلاق، إذ بات عدم الصلاة قراراً مقدسياً وفلسطينياً شاملاً إلى أن تزال البوابات ويفتح الأقصى؛ وهذا ما كان.

في 23-3-2020 شهدت محاولة التحكم بقرار فتح وإغلاق الأقصى المنعطف الأخطر في تاريخها، إذ جرى الانصياع لشروط الاحتلال في إغلاق المسجد تحت سيف وباء كورونا رغم أنه ساحة مفتوحة شاسعة يمكن ضبط التباعد فيها، واستمر هذا الإغلاق إلى ما بعد انقضاء رمضان وعيد الفطر حتى 31-5-2020، فيما كانت أسواق القدس والبلدة القديمة مكتظة بالمتسوقين، وساحة البراق تستقبل المصلين اليهود. 

وكادت تلك الخطيئة تتجدد حين أعلنت الحكومة الصهيونية تشديد قيود كورونا في 16-9-2020 إبان موسم الأعياد اليهودية، وحاولت أن تفرض على الأوقاف إعلان إغلاق الأقصى في وجه المسلمين بما أنه سيغلق في وجه المقتحمين الصهاينة، في محاولة لجعل دخول المسلمين إلى مسجدهم مرهوناًً باقتحام الصهاينة له، تكريساً لزعم "الحق المتساوي" فيه وكأنه "مقدس مشترك". وكاد مجلس الأوقاف ينجر إلى تجديد ما أسماه "تعلق الصلاة!" في المسجد الأقصى، لولا الاعتراضات الشعبية والضغوط المتعددة التي رفضت مثل هذا القرار.

أخيراً، ومع بداية موسم الأعياد الطويل في عام 2023، وقبل السابع من أكتوبر بثلاثة أسابيع بالضبط، فرضت قوات الاحتلال سياسات جديدة لتضمن منع الاعتكاف في المسجد حيث أصبحت تقصر الصلاة على من هم فوق الخمسين من أهل البلدة القديمة حصراً منذ صلاة المغرب وحتى انقضاء صلاة الظهر في اليوم التالي، بمعنى أن يفتح المسجد لبقية الأعمار في صلاة العصر حصراً، وقد مددت هذا الحصار بعد السابع من أكتوبر حتى بداية رمضان، وتحديداً حتى يوم 11-3-2024.

اليوم وبالتزامن مع انطلاق العدوان على إيران، يدخل التحكم بفتح الأقصى وإغلاقه مرحلة جديدة لم يشهدها في أي حرب أو انتفاضة سابقة، وهي الإغلاق الشامل للمسجد الأقصى في وجه المصلين، والسماح فقط للموظفين والحراس المناوبين من دخول المسجد (ومنع غير المناوبين!)، بما يجعل عدد المتواجدين فيه لا يزيد عن 60 شخصاً في اللحظة الواحدة.

التحكم المطلق بإغلاق الأقصى في العقل الصهيوني يعني اكتمال مرحلة، اكتمال مرحلة "المنع" و"العزل" عن المصلين والمرابطين، ويفتح بالتالي أبواب مرحلة جديدة هي التأسيس، وهذا يفرض محاولة منع اكتمال هذه المرحلة بكل جهدٍ ممكن، لأن الصمت على طي هذه المرحلة سيعني من الآن فصاعداً بأن أنظار المحتل ستتجه إلى كيفية فرض حضور تهويدي دائم في المسجد، وقد سبق أن طُرحت في ذلك مبادرات عديدة عنوانها بناء كنيس دائم في الساحة الشرقية للأقصى، إلى جانب عناوين أخرى تستكشف إمكانات تغيير هوية المسجد، قد تدخل حيز التنفيذ –لا سمح الله- إن استمر الصمت المطبق في مواجهة هذا الإغلاق والتغول.