شبكة قدس الإخبارية

كيف يستغل "أبواق الاحتلال" الإبادة لتأليب الفلسطيني على مقاومته؟

٢١٣

 

كيف يستغل "أبواق الاحتلال" الإبادة لتأليب الفلسطيني على مقاومته؟
أحمد الطناني

غزة - خاص قدس الإخبارية: في خضم العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، تتصاعد نبرة تحريضية تطالب المقاومةَ بالاستسلام وتسليم الأسرى والسلاح، تروِّج لها جهات إعلامية وأفراد، بعضهم معلوم الارتباط، وغالبيتهم يتحركون في الظل، مستغلين حالة الإنهاك الشعبي الناجم عن حرب الإبادة، والدمار الواسع الذي فاق كل التصورات.

للوهلة الأولى، قد يُفهَم هذا الخطاب كصوتٍ منبثق عن معاناة حقيقية تطالب بوقف شلال الدماء، لكنه لا ينفصل في جوهره عن آلة الدعاية الإسرائيلية (الهسبارا) التي تسعى، بالتوازي مع العمليات العسكرية، إلى تفكيك الحاضنة الشعبية للمقاومة، وتحويل الضغط الشعبي من الخارج إلى الداخل، أي من الاحتلال إلى المقاومة نفسها.

"تفتيت الصمود" وتشويه الرمزية

من منظور علم الاجتماع السياسي، لا تُخاض الحروب بالرصاص فقط، بل أيضًا بالكلمة، والصورة، والرواية. وكما يشير المفكر الفرنسي بيير بورديو، فإن المعركة على الرمزية لا تقل أهمية عن المعركة على الأرض، إذ تسعى الأطراف الفاعلة إلى فرض "هيمنة إدراكية" تعيد تشكيلَ الوعي العام، وتُحرِّف رمزيةَ المقاومة، فتصوِّرها بوصفها سببًا للموت والدمار، لا سبيلًا للتحرر والكرامة.

في هذا الإطار، يعمل الاحتلال على ضخ روايات مشوَّهة ومفبرَكة، عبر وسائل إعلام وأصوات ناطقة بالعربية، فلسطينية كانت أو عربية، تحاول تحميلَ المقاومةِ مسؤوليةَ الجرائمِ التي يرتكبها العدو نفسه. تستغل هذه الحملات آلياتٍ نفسيةً معروفةً، مثل "الإرهاق المعنوي للجمهور"، التي تفترض أن التعرض المستمر للمعاناة قد يدفع الضحية إلى البحث عن مَخرج عبر لوم مَن يحاول الدفاع عنها، بدلًا من مواجهة المعتدي الحقيقي.

منذ اللحظات الأولى لحرب الإبادة، انبرت آلة الدعاية الصهيونية، ومن خلفها مئات المنصات الرقمية والناطقين الإعلاميين، للعمل المنظم على تهشيم رمزيات الشعب الفلسطيني ومقاومته. الهدف كان واضحًا: استباحة القداسة الاجتماعية التي لطالما أحاطت بالمقاوم الفلسطيني، وهي قداسة استمدت مشروعيتها من تراكم تضحيات تاريخية، وسنوات من الفداء والمقاومة.

وقد ركز الاحتلال في حملاته على قادة المقاومة، مطلِقًا سيلًا من الاتهامات والافتراءات، خصوصًا تلك التي ادعت أنهم يعيشون في ظروف مثالية ومعزولة عن معاناة الناس في غزة. لكن الواقع سرعان ما كذَّب هذه الدعاية، بعد أن ارتقى العديد من قادة المقاومة شهداء في ميادين المواجهة، على الطريق ذاته الذي سلكه أبناء شعبهم.

لم تتوقف هذه الحملة عند القيادات، بل امتدت لتطال المقاتلين في الميدان، في محاولة للنيل من رمزيتهم الثورية، وتحطيم أيقونات الصمود، التي تمثِّل بالنسبة إلى المجتمع الفلسطيني بوارق أمل وتجسيدًا ملموسًا لفكرة المقاومة الحية.

بل إن التحريض وصل إلى الأسرى في سجون الاحتلال، فهُوجِموا أيضًا، وجرت محاولة تحميلهم مسؤولية استمرار الحرب، فقط لأن المقاومة تصر على تحريرهم. ليس هذا الخطاب، في جوهره، سوى امتداد لمحاولات إعدام الرموز، وتفكيك كل قيمة عُليا ينظر إليها الشعب الفلسطيني باعتزاز ووفاء.

إن الهدف الجوهري لهذه الحرب النفسية "تفتيت الصمود" لا بالرصاص، بل بتقويض المعنى؛ بتشويه المفاهيم وتزييف الصورة واغتيال الرمزية في الوعي الجمعي، تمهيدًا لإحلال الهزيمة النفسية مكان الإرادة المقاومة. 

نظريات التأثير.. والضغط المنظَّم

يستند الاحتلال في حملته النفسية إلى أدوات مدروسة من نظريات التأثير وتشكيل الرأي العام، وعلى رأسها ما يعرف بـ"نظرية النافذة المُزاحة" (نافذة أوفرتون)، والتي تقوم على مبدأ توسيع حدود المقبول في الخطاب العام. فالأفكار التي كانت تُعَدُّ يومًا ما "مرفوضة" أو "مستحيلة"، يمكن أن تصبح مع الوقت مقبولة بل ومرغوبة، عبر التكرار والتطبيع والتغليف الأخلاقي.

في هذا السياق، يُروَّج لفكرة "استسلام المقاومة" كحل منطقي وضروري لـ"حقن الدماء"، على الرغم من أنها تمثِّل، في وعي الشعب الفلسطيني، ذروةَ الانكسار الوطني. ومع ذلك، يسعى الاحتلال إلى زحزحة هذا الوعي، عبر منظومة دعائية ضخمة، تستثمر وسائل الإعلام العبرية والمنصات الدولية، وتُسخِّر "أصواتًا محلية" تقدِّم نفسها بصفتها ضمائر حيَّة، بينما وظيفتها الحقيقية تتمثل بزرع الشك وضرب الثقة بالمقاومة، من خلال خطاب ملغوم يخلط بين الادِّعاء الإنساني والتفريط الوطني.

يدرك الاحتلال، كما أولئك المنخرطون في دعايته، أن مشاهد الصامدين الخارجين من تحت الركام، وهم يؤكدون بإيمان راسخ أن ما فقدوه من أرواح وأرزاق فداءً لفلسطين، يمثِّل تحديًا رمزيًّا عظيمًا ينسف جوهر روايته. ولهذا، أصبحت الصلابة الشعبية هدفًا مباشرًا لحملات الضغط النفسي، التي تهدف إلى نزع القداسة عن خيار المقاومة، وتصويره كعبء لا طائل منه.

لا ينكر الفلسطينيون أنهم بشر، وليسوا من فولاذ، لكنهم شعب مجبول على الصبر والمواجهة. وقد أثبتت التجربة أن هذا الشعب قادر على الصمود حتى في أحلك لحظات التاريخ. ومن هنا، فإن استراتيجية الاحتلال تقوم على تفكيك هذا الوعي الصلب، عبر حروب نفسية ممنهجة، تستهدف إعادة تعريف "المنطقي والمعقول" بما يخدم أجندة الاستسلام، وتُمهِّد الطريقَ لتبنِّي سرديات مغايرة تتسلل تدريجيًّا إلى الوعي العام، على أمل أن تُصبح يومًا ما "البديل المعقول".

وهنا، يصبح تجريد المقاومة من شرعيتها الشعبية والمعنوية بمثابة الهدف، تمهيدًا لفرض رؤية الاحتلال على الأرض وفي الأذهان، بما يُنهي إمكانية المواجهة من أساسها.

خطاب "الاستسلام الرحيم".. وتجاهل الحسم الصهيوني

لم تكن هذه الحملة الطارئة أو عفوية. منذ الساعات الأولى للعدوان، سعى الاحتلال –عبر كبار مسؤوليه– إلى التحريض على المقاومة، بدءًا من رئيس حكومة الاحتلال، مرورًا بوزيرَي الحرب المستقيل والحالي، وصولًا إلى الناطقين باسم جيشه، الذين خاطبوا الأهالي مباشرة، طالبين منهم "الانقلاب" على المقاومة. وتكررت الدعوات من خلال مقاطع مصورة ورسائل عبر مكبرات الصوت وحتى رسائل نصية، في محاولة مستميتة لاستنساخ نماذج "الانهيار الداخلي".

وقد كرر وزير الحرب الحالي، يسرائيل كاتس، في خطابٍ مصور، دعوته لأهالي غزة "بطرد حماس"، مع الإشارة بوضوح إلى أن الضغط الشعبي يمثِّل أحد ركائز الخطة العسكرية الإسرائيلية، وأن الحرب ليست فقط مع فصائل مسلحة، بل مع بنية اجتماعية وثقافية تحمي خيار المقاومة وتغذيه.

الخطير أن هذا الخطاب لا يُدار من قبل الاحتلال فقط، بل يجد من بين الفلسطينيين والعرب من يعزف على نغمته، لأسباب متعددة: منها الخلاف السياسي، أو العمل الوظيفي ضمن أجندات إقليمية، أو أحقاد شخصية، أو حتى ارتباطات أمنية مثبتة.

وهنا نستحضر مفهوم "العميل الواعي"، وهو الذي لا يُجنَّد بالضرورة، بل يقتنع بسردية العدو ويتبناها ويعيد إنتاجها بدوافع "وطنية" ظاهرية. هؤلاء يشكلون خط دفاع معنوي متقدم لصالح الاحتلال، من داخل الجبهة الفلسطينية.

يحاول هؤلاء طرح خطاب "الاستسلام الرحيم"، أي الاستسلام الذي يُصوَّر على أنه خيار أخلاقي وإنساني في مواجهة "الموت المجاني". لكن هذا الخطاب يغفل حقيقة أن المشروع الصهيوني –بشهادات قادته– لا يربط استمرار الإبادة بوجود المقاومة، بل بوجود الفلسطيني ذاته.

فمشروع "حسم الصراع"، كما يظهر في خطابات بنيامين نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، لا يقبل بأي كيان فلسطيني مهما كان طبيعته، بل يسعى إلى تهجير سكان غزة والضفة الغربية، وتحويل الأرض إلى منطقة آمنة لمشاريع الاستيطان والضم. وهذا ما يجعل من الاستسلام لا بابًا للحياة، بل معبَرًا نحو التصفية النهائية.

حين يصبح الوعي ساحة المعركة الأخطر

في مواجهة هذا كله، تبقى الذاكرة الجمعية للفلسطينيين، وتجربتهم المريرة مع الاحتلال، حاجزًا منيعًا ضد خطاب التضليل. فبعد انسحاب منظمة التحرير من بيروت في العام 1982، لم يتوقف العدوان، بل تصاعَد. وبعد كل "تنازل تاريخي"، كان الاحتلال يزيد من شهيته في ابتلاع الأرض وتوسيع الاستيطان.
لذلك، فإن رفض الاستسلام ليس عنادًا، بل إنه وعي بالتاريخ، وإدراك عميق بأن المواجهة خيار البقاء الوحيد، وأن الصمود أمام ماكينة التحريض لا يقلُّ أهميةً عن الصمود أمام المدفع والدبابة.

لقد تحوَّلت ساحة الوعي إلى ساحة مركزية في المعركة الدائرة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي. وإذا كانت الجبهات العسكرية تُخاض على الأرض، فإن الجبهة الأخطر تُخاض في العقول، وفي كيفية تفسير الواقع وتشكيل الإدراك الجمعي، وتحديد "مَن العدو" و"ما الخيار الصحيح". هذا ما يُطلِق عليه خبراء علم النفس السياسي اسم "إعادة توجيه الغضب"، إذ يسعى الطرف الأقوى إلى توجيه غضب الضحية ضد نفسها أو ضد المدافعين عنها، بدلًا من المعتدي.

في هذا الإطار، لا تكون المقاومة فقط هدفًا ماديًّا في العمليات العسكرية، بل هدفًا رمزيًّا في حملات التأثير والتحريض. فحين يُفقد الفلسطيني الثقة بخياراته الوطنية، ويجري إقناعه بأن ما تبقَّى من كرامته ووجوده مرهون بإلقاء السلاح والانحناء، تكون الهزيمة قد بدأت تتسلل، حتى قبل أن تُحسَم المعركة في الميدان.

كما يُحذِّر علماء الاجتماع من ظاهرة "الإرهاق الجمعي"، وهي حالة من الإنهاك المعنوي والنفسي التي قد تصيب المجتمعات الواقعة تحت القصف الطويل والحرمان الشديد، وتدفع بعض الأفراد إلى البحث عن "الخلاص بأي ثمن"، حتى لو كان هذا الخلاص تسليمًا غير مشروط لمشروع تصفوي خطير، بحجة "الواقعية" أو "الإنسانية". وهنا تصبح الواقعية أداة للتسليم، لا للبقاء.

إن الاحتلال يُدرِك أن هزيمة المقاومة، بوصفها حالة نفسية ومعنوية، مدخلٌ ضروريٌّ لأي مشروع تصفية نهائي، ولذلك فإنه يستثمر بشكل موازٍ في تشكيل وعي جديد مشوَّه، يُفرِّغ المقاومةَض من معناها الأخلاقي، ويجعلها عبئًا على شعبها بدل أن تكون حصنه الأخير.

لكن، وعلى الطرف الآخر، أثبت الشعب الفلسطيني في كل محطات نضاله أنه يمتلك ذاكرة حيَّة، عصيَّة على التضليل، تحفَظ الدروس ولا تقع في الفخ ذاته مرتين. لقد خبر الفلسطينيون نوايا الاحتلال ومكرَه، واختبروا بجلودهم ما الذي يعنيه "السلام مقابل الاستسلام"، وكيف تكون التنازلات مقدمةً لعدوان أشد، لا لسلام منشود.

وبالتالي، فإن إفشال هذه الحملة الدعائية والتحريضية ليس مهمة النخب وحدها، بل هو واجب شعبي وأخلاقي عام، يبدأ من تفكيك الخطاب المسموم، وفضح أدواته، وتعزيز الرواية الأصيلة التي تربط بين المقاومة والصمود والبقاء، وتفضح المشروع الصهيوني بوصفه مشروع اقتلاع لا تعايُش.

في هذا السياق، يصبح الدفاع عن المقاومة –سياسيًّا، وإعلاميًّا، وثقافيًّا– في جوهره دفاعًا عن النفس الجماعية، وعن الحق في الوجود، وعن آخر ما تبقَّى من مشروع التحرر الفلسطيني، الذي يراد له أن يُسحَق لا بالصواريخ فقط، بل بالدعاية والخذلان.

يطلق الاحتلال اليوم رصاصتين متزامنتين: واحدة من فوهة المدفع، والثانية من فوهة الكلمة المضلّلة. والمقاومة الحقيقية لا تكتفي بتفادي الأولى، بل تسعى إلى تحييد الثانية، لأن هزيمة الوعي هي الهزيمة الكاملة.