لم يعد الفلسطيني الغزي يشك في أن دمه بات أقل شأنًا من غيره، وأن شلالاتِ الدماء لم تعد تغضب أحدًا، بل أصبح هذا الدم مألوفًا لكثيرٍ من المنبطحين والمتخاذلين، حالةٌ من الصمت تحيط بتلك المجازر، تحيط بأشلاء الأطفال على الطرقات، وبرؤوسِ النساء تحت الركام والجدران، وصمتٌ يلفُّ الجثث المتفحمة في أروقةِ المستشفيات والمدارس والشوارع
لم تكتفِ دولة الاحتلال بهذا الحد من الجرائم، فمنذ استئناف العدوان، وهي تريدُ قتل أكبر عددٍ من ناقلي الحقيقة والمشهد في قطاع غزة، والعاملين في القطاع الإعلامي، لتُكمل ما تجيده وتفضله من ارتكاب المجازر، وكأن بينها وبين الصحفيين ثأرًا خاصًا، فعادت لتقتص منهم على دورهم العظيم الذي فضحها طوال الشهور السابقة
أمسينا اليوم على جريمةٍ جديدة تُضاف إلى سجل جرائم الاحتلال، الذي لا تملُّ نفسه ولا تكلُّ من المذابح، فقد قتلت إسرائيل صحفيَّين آخرَين من ناقلي الرسالة وحاملي الأمانةِ على أكتافهم، من الذين صبروا وصمدوا لنقل صوتِ شعبهم المكلوم، الذي تكالبت عليه وتآمرت كل قوى العالم لإسكاته: الصحفيان حسام شبات، مراسل قناة الجزيرة مباشر، ومحمد منصور، مراسل قناة فلسطين اليوم.
صحفيان حالمان مثابران شاهدناهما منذ أشهر وقد بُحَّت أصواتهما وهما يستصرخان العالم للتحرك، لكن لا مجيب، لا غيورَ على دماء النساء والأطفال المسلمين.
كنت قد شاهدتُ لقاءً سابقًا للصحفي حسام، يصرخ فيه بصوتٍ مبحوح، تملأه كل معاني العتاب والأسى والحرقة واللوعة يقول فيه:" نحن نذبح ونُقتل في شمال قطاع غزة"
اليوم رحل حسام شهيدًا ليُوصل صوت شعبه، فكيف سنجيبك يا حسام الآن؟ من يُخرج صوتك الذي استنجد بنا طيلة هذه الشهور من دواخلنا المقيدةِ بالعجز والضعف؟
شاهدت حالة الحزن التي سادت الأوساط عقب إعلان استشهاد الصحفيين، لكن تبادر إلى ذهني سؤالٌ واحد: كيف سيكون الحال لو أن حسام ومحمد وغيرهما من الصحفيين لم يكونوا من غزة، بل كانوا يحملون جنسياتٍ غربيةً يحسبُ العالم لها حسابًا آخر؟ كنا سنرى هذا العالم صاحبُ الفقاعة الكاذبة يخرج على قدمٍ وساق، يملأ الشوارع بالمتظاهرين الغاضبين الصارخين بحقوق الإنسان التي تنتهي عند حدود فلسطين
نعم، كانوا سيملؤون الشوارع للضغط على الهيئات الدولية للقيام بخطواتٍ ملموسة لحماية الصحفيين، ستُقاطع الدولةُ المعتدية، وتحاصَر سفاراتها، وتُحاسب في المحاكم الدولية، وستضغط الحكومات لتلتزم بالاتفاقيات، وستبدأ الإدانات الدولية بالظهور يمينًا ويسارًا، وستقوم منظمات حقوق الإنسان بدورها، الذي لم نشاهدها تقوم به منذ 15 شهرًا.
سيبذل العالم جهده لعدم تكرار هذا الحادث، لكن نعتذر منكم يا حسام ويا محمد، فأنتما تحملان هويةً خضراء بالية كانت نتاجًا لأوسلو، وأنتما من مدينة جبارة أرادوا لها الضعف، أراد العالم لو أن بحرها الأزرق الجميل يلتهمها، ليعيشوا براحةٍ دون أن يُؤرِّقها أحد.
منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية، قتل الاحتلال 208 صحفيين فلسطينيين في مذبحةٍ حقيقية للجسم الإعلامي الفلسطيني، دون أن يرمش لهذا العالم جفن، فلو نظرنا إلى القانون الذي يتغنى به العالم، لوجدنا أن المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف تنص على أن الصحفيين المشاركين في مهام مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة هم مدنيون، وفقًا للمادة 50، وبالتالي، فإنهم يتمتعون بكامل نطاق الحماية الممنوحة للمدنيين بموجب القانون الإنساني الدولي.
لكن إسرائيل، ابنة أمريكا الوسخة والملطخة، لم تتجاوز الحدود فقط، بل داست على كل قوانين العالم مرةً تلو الأخرى دون رادع، فهي تنظر من حولها، فتجد أمةً عربيةً تخفف من حنقها عبر كتابةِ الحروف على مواقع الإنترنت السخيفة، أو من خلال قمةٍ عربيةٍ بينها وبين العروبةِ بلاد.
ويبقى السؤال: لماذا نلوم العرب اليوم، ولماذا لا نلوم أنفسنا أيضًا؟ لماذا لا نتركهم يهنؤون بموائد الإفطار الممتدة، أو أنواع الحلوى التي ستوضع على الطاولة فيما بعد؟
نعيش مشهدًا عجيبًا غير مسبوق: الكل يُطأطئ رأسه ويمضي، دون صرخةٍ لنصرةِ من تقتلهم الأسلحة الأمريكية بيدٍ إسرائيلية، وهم صيامٌ وجوعى!
"وديني دينُ عزٍّ لستُ أدري
أذِلّةُ قومِنا مِن أينَ جاؤُوا؟
أتوا بالجهلِ من أفكارِ قومٍ بلا دينٍ
غرّهمُ الثناءُ فلا طابت لهم فيها حياةٌ، ولا لقوا بالدنيا هناء