جنين - خاص قدس الإخبارية: من دونِ بيوتٍ، ولا شوارع، ولا أزقة، بلا حبال ضوئية تزيّنها، ولا صوت مسحراتيّ يوقظ النيام، أو مساجد تعجُّ بالمصلين، لا مقاهي تحيا بالشباب، لا مواسين لأمُّ الشهيد في وحدتها، لا ولائم، لا صلة رحم، ولا حتى مائدة طعام!
بهذا الشكل الباهت استقبل 48 ألف نازحٍ في شمال الضفة الغربية شهر رمضان المبارك، إذ يحلّ عليهم شهرُ الخيرِ بمائدةٍ فارغة، يلتفّ حولها عددٌ قليل من أفراد العائلة دون البقية، فيصبح الكلُّ وحيداً منفرداً دون لقاءاتٍ عائلية على مائدةٍ واحدة، بعد أن فرّقهم الاحتلال الإسرائيلي.
أجبر جيش الاحتلال مع إطلاقه عملية" السور الحديدي" الفلسطينيين على مغادرة بيوتهم دون وجهةٍ محددة، ليتسنّى له تغيير ديموغرافية المخيم وتحويله إلى حيِّ عادي يلتهم كل المباني التي ألِفها الناسُ يوماً، ليعيش بعدها النازحون ظروفاً صعبة يعجزون معها عن توفير وجبة طعامٍ واحدة.
الفلسطيني في مواجهة الجوع
حمل شهر رمضان معه واقعاً جديداً يعيشه الفلسطينيون في أماكن نزوحهم، ما بين غرفٍ سكنية ومراكزِ إيواءٍ وبيوتٍ للأقارب، يجد الناس أنفسهم فيها أمام شُحٍّ في الإمكانيات والماديّات والمواد التموينية التي تسد جوعهم خلال الشهر الفضيل.
تشكو النازحة من مخيم جنين شاهرة استيتي، في حديثٍ مع "شبكة قدس" حالها وعائلتها بعد اضطرارهم للعيش في غرفةٍ سكنية واحدة في إحدى سكنات الجامعة العربية الأمريكية، والتي كانت قد خُصصت لطالبٍ واحد من طلاب الجامعة للعيش فيها، فأصبح فراشهم عند النوم يمتد من "الحفة للحفة" بعدما انقطعت السبل بها وأفراد عائلتها الستة، واصفةً ضيق المكان.
"بالمخيم كان الزمن قد نسينا، والآن ينسانا مرةً أخرى في هذه الغرفة"، بهذه الكلمات تحاول التعبير عن مكابدتهم لمعاناة النزوح وحيدين، فكما عاشوا مرارة اللجوء عام 1948 وأصبحت قضيتهم طي النسيان، يعود الزمن لهم بمرارةٍ أخرى فتُلقى معاناة نُزوحهم في طيّ نسيانٍ آخر.
"لم يرفع علينا أحدٌ سماعة هاتف، لم يزُرنا مسؤول، ولم يصلنا شيءٌ سوى طعام التكية خلال أيام رمضان"، تقول استيتي لوصف حالة الإهمال التي يعيشها النازحون، وتضيف "المنسيّون هم من لا يعرفون مسؤولاً هنا أو هناك".
وتُعبر شاهرة عن معاناتهم في أصغر التفاصيل التي تسببت بها مأساة النزوح: لا غسالةً لنغسل بها الملابس القليلة التي حملناها معنا، لا مكان لنشرها، لا أواني أو معدات للطبخ، لا مطبخ، لا غاز، في أول ليلةٍ من رمضان لم نستطِع أن نتناول السحور لأنّ الغاز كان قد نفد، ولا حل أمامنا سوى انتظار وجبة الإفطار من التكايا".
وتضيف" وصلنا إلى سكنات الجامعة منذ حوالي أسبوعين، نرى المساعدات تصل إلى عماراتٍ سكنية محددة دون السؤال عن البقية، عشنا برودة المنخفض القطبي المنصرم دون مفارش ولا أغطية إلى أن حصلنا عليها من تبرع أحد المجالس القروية".
لا يختلف الحال كثيرًا للنازحين في مدينة طولكرم، الفلسطيني "هاني سرحان"، وهو أحد النازحين من مخيم طولكرم منذ ما يقارب العام، والذي ما زال يعاني من أضرار النزوح وفقدانه لمنزله ومصدر رزقه، يقول" تخلى عنا الجميع، لا الوكالة ولا السلطة يتابعون شأننا."
ويضيف لـ "شبكة قدس"، طلبنا أن يتم التواصل معنا للسؤال عن احتياجاتنا، فلم يتواصل أحد، ولم يصلنا إلا موادٌ للتنظيف، هل عليّ أن أطهو الكلور وأسدّ جوعي منه؟ تم إهمالنا إلى أن وصل الحال بالناس أن تحتاج الملابس الداخلية!
وفي ذات السياق، يُشير سرحان إلى أن قضية تهجير الفلسطينيين من المخيمات هي "عملٌ تشاركي بين جميع التنظيمات"، فيقول: كل ما يصل من دعمٍ وتمويل للمخيمات وأهلها يتم سرقته، دون دليلٍ واحد على ذلك، كل التنظيمات مشاركة في التهجير، ولا أستثني أحداً".
ويضيف: أنا نازحٌ منذ عام وحتى الآن لم يتم تسجيل اسمي في المؤسسات الرسمية كنازح، تم رفع أسماء عائلات معينة دون غيرها باعتبارها نازحة ومحتاجة، كم يتحتم عليّ الانتظار بعد؟
بينما تصف نهاية الجندي، النازحة من مخيم نور شمس، لـ "شبكة قدس"، حال النساء النازحات في مراكز الإيواء، اللاتي أٌجبرن على انتظار ما تُعده التكية من طعام، واللاتي حُرمن من ممارسة طقوس الطبيخ خلال نهار رمضان في بيوتهن.
"لا خصوصية، ولا رفاهية اختيار طبق الإفطار، لا مصادر للدخل ولا عمل، لا مياه ولا كهرباء بشكلٍ متواصل"، بهذه الكلمات تصف الجندي حال النازحين في مراكز الإيواء، والذين أُجبروا على البقاء داخلها مع اطفالهم أو كبار السن من ذويهم في ظروفٍ معيشية صعبة نظراً لعدم جهوزيتها مسبقاً.
وتتنهد الجندي وهي تستذكر أيام الشهر الفضيل اللاتي انقضت بين أزقة المخيم وشوارعه: "تفرقنا، وتشتّتنا، وتُهنا في شوارع المدينة وحيدين بلا عائلاتنا التي نُحب، أُجزم أن كل النازحين بكوا في اليوم الأول من رمضان، نور شمس كان مزاراً لكل الفلسطينيين، كان الناس يقصدون أسواقه في ليالي رمضان، كان يعُج بالحياة قبل أن يحيله الاحتلال إلى مخيم أشباح".
وأقام النازحون في سكنات الجامعة العربية الأمريكية خيمةً لتجمعهم في صلاة التراويح، محاولين تعويض ما فقدوه من أجواءٍ رمضانية وهم بعيدون عن مساجدهم التي اعتادوا الصلاة والاعتكاف فيها.
تخاذلٌ رسمي.. تكاتفٌ شعبي
يجمع النازحون وأصحاب التكايا، وأعضاء اللجان الشعبية، على أن الفلسطينيين تُركوا وحدهم كأفراد في مواجهة شبح النزوح وما يترتب عليه من أضرارٍ مادية ونفسية، وما المبادراتُ التي تُطلق سوى تكاتفٍ شعبي من أُناسِ قرروا ألا يقفوا متفرجين أمام هذه المأساة.
ويوضح عضو لجنة الطوارئ في اللجنة الشعبية لمخيم نور شمس محمود أبو رعد لـ "شبكة قدس"، الحالة الصعبة التي يعيشها النازحون، فيروي إحدى الحالات التي صادفها ويقول "سقط منا سهواً اسمُ أحد النازحين ولم نرسل له وجبة إفطارٍ خلال اليوم الثالث من شهر رمضان، فاتصل بنا متوسلاً إرسال وجبةٍ لإطعام أبنائه الصغار على الأقل"، في إشارةٍ إلى عجز الناس عن توفير وجبةِ إفطارٍ ليوم واحد فقط.
وفي هذا السياق، يوجه أبو رعد تساؤله حول دور المحافظة في طولكرم بما فيها المحافظ عن متابعة ملف النازحين والتدقيق في أسمائهم وأرقام التواصل معهم وتوفير كافة احتياجاتهم.
ويضيف: أين هي المواد التموينية المكدسة في مخازن المدينة؟ نحن نعيش منذ حوالي شهرٍ كامل على 100 طردٍ غذائي وشاحنة خضار واحدة لأكثر من 4000 نازح من مخيم نور شمس وحده، هؤلاء النازحون الذين نعرفهم ممن انتهى بهم الحال في المناطق المحيطة بالمخيم من الناحية الغربية فقط.
ويتابع أبو رعد: حملنا مسؤولية النازحين على عاتقنا وضغطنا على جراحنا كوْننا وعائلاتنا أحد هؤلاء النازحين، أسسنا قاعدة للبيانات تشمل كافة المعلومات لـ 650 عائلة من نازحي مخيم نور شمس، بما يعادل 4000 فرد، وبدأنا بجمع التبرعات لتوفير الطرود الغذائية لهم، نحن نقوم بالدور الذي يُفترض أن تقوم به السلطة الفلسطينية".
"سمعنا مصادفةً، في ثالث أيام رمضان عن وجود أنواع مختلفة من الفواكه والخضراوات داخل مخازن التنمية الاجتماعية، وكنا كنازحين آخر من يعلم عن هذه المخازن، توجهنا لها على الفور وشعرنا أننا لصوص يسرقون ما ليس لهم، مع أن النازحين هم أحقٌّ الناس بهذا التموين"، يُضيف أبو رعد.
ويؤكد: لا اتصالات، ولا متابعة، ولا سؤال، ولا تمويل من الجهات الحكومية للجان الطوارئ في المخيم، نحن والنازحون نعيش على ما يتبرع به الناس فقط، والطرود الغذائية التي وصلت لا توفر سوى المواد الأساسية لوجبة الإفطار، النازحون حُرموا حتى من وجبة السحور".
أما حسين الشيخ علي، وهو رئيس جمعية وادي الحوارث في مخيم طولكرم، فيصف حال النازحين بالصعب والكئيب، قائلاً: النازحون خرجوا عن كينونتهم الحقيقية، الأطفال بلا مدارس والنساء بلا بيوت والرجال بلا عمل، والأمر يزداد سوءاً مع رمضان، نعمل على تكيةٍ لتوفير 2000 وجبة باليوم، ولكن عملنا متوقفٌ فقط على ما يتوفر من دعمٍ من أهل الخير في المحافظة أو خارجها.
ويناشد الشيخ علي عبر "شبكة قدس" الفلسطينيين المقتدرين وأصحاب الأيادي البيضاء لتقديم الدعم المادي والعيني لاستمرار تشغيل تكية النازحين على الأقل في شهر رمضان، لإطعام الصائمين.