شبكة قدس الإخبارية

عرب جابوتنسكي وواجب الوقت

متراس
زياد ابحيص

كانت هذه الحرب الملحمة التاريخية الأكبر في تاريخ فلسطين، التي كرست فيها غزة بشعبها ومقاومتها معادلة أننا لا نهزم، ننتصر أو نموت، سواء في المقاومة العسكرية أو مدنيين في مختلف مجالات الحياة. قاتلت غزة عن حق مطلق لا لبس فيه؛ قتال شعب مجبول بتراب هذه الأرض، ليست الهجرة من ضمن خياراته بعد الذي جربه من لجوء وخذلان طويلي الأمد. 

بينما ذهاب المحتل إلى الإبادة يستبطن التسليم بأن أهل غزة هم أهل الأرض وأصحاب الحق، وأنه لا يستطيع أن يحيّد حقهم ومقاومتهم إلا بمحاولة قتلهم جميعًا، فإنه يسلم بذلك أيضًا بأنه طارئ لا يقوى على أن تظل مقاومتهم ومطالبتهم بحقهم قائمة ومستمرة في الأفق، لذا لا بد من تأمين تذكرة بقائه بإبادة تنهي إمكانية نهضة هذه المقاومة.

"عرب جابوتنسكي"

لعل المعضلة الأكبر في الوعي بهذه الحرب هي في كيفية مواجهة الإبادة، إذ حرصت "إسرائيل" على فرض ما لا يطاق من الأثمان لمحو صورة أي مبادرة أو نصر أو اعتزاز بالمبادرة، وكذلك على كي الوعي ليرسخ فيه أن المحاولة مُحرقة أو مَن قاوم فَنِي، وعليه لا خيار إلا الاستكانة. وهذا ما تحدث عنه أبو اليمين الصهيوني جابوتنسكي في مفهوم "الجدار الحديدي": "لا بد من ضرب العرب بشدة وقسوة تكوي وعيهم، وتخرج نخبة تعتقد أن حفظ أمن الكيان الصهيوني حاجة وجودية لهم، هي مدخلهم لمجرد البقاء بعيدًا عن طلب أي مكاسب أخرى". 

هذا الثمن الباهظ يطرح معضلة بشأن كيفية مواجهة الاحتلال، والتي لا تكون إلا بإفشاله ومنعه من تحقيق أهدافه. عمليًا، إن من يحمّلون المقاومة وِزر جريمة الاحتلال يساعدونه على أن تكون جريمته مُجدية، تحقق الهدف وتكوي الوعي. وإذ يبدأ هذا المنطق من زاوية التعاطف مع الضحية، فإنه يجعل دمها عبئًا عليها ويخرج لها بوصفة وحيدة: لا مجال إلا أن تستكين وترضى بالاحتلال والذل مصيرًا حتى لا تدفع هذا الثمن، وهذا أقرب للتصالح مع الذات المتعاطِفة منه إلى إحقاق حق الضحية، هو استثناء للألم باعتباره فكرة بعيدًا عن أي حق أو مبدأ أو قيَم. 

إن المدخل الصحيح لأي موقف أخلاقي كان وسيبقى بالتقدم لدفع الثمن مع غزة وعدم تركها وحيدةً في فم الوحش، وبناء موازين قوى لا تسمح بالاستفراد والإبادة. في واقع الأمر، إن هذا المنطق ينتهي إلى الضد تمامًا: "أتريدنا أن نصبح مثل غزة؟!"، هو منطق مسكون بالسلامة وتجنب الثمن، والعقول التي تحمل مثل هذا المنطق تليق بـ "عرب جابوتنسكي" إذ تتحقق فيهم نظريته.

 

التمسك بالطوفان

إن كنا سنذكر ملحمة "طوفان الأقصى" في الوعي فإنها لا تكتسب معناها الصحيح إلا في إطارها التاريخي، هي قفزة تاريخية على طريق المقاومة بعد 107 سنوات من احتلال فلسطين، وبعد 75 سنة من الإحلال والتهجير، وبعد 56 سنة من احتلال الضفة الغربية وغزة ووضع ما تبقى من شعب فلسطين على أرضه تحت الاحتلال، وبعد 30 عامًا من مسيرة تسوية سياسية لم تؤدِّ إلا إلى التهويد والاستيطان والحصار ومزيدٍ من الاقتلاع وانعدام أفق الدولة. 

جاء الطوفان في السنة السادسة لمشروع تصفية أطلقه دونالد ترامب مع "إسرائيل"، كان يستدعي المواجهة في كل عام، فهو مشروع يريد أن يحسم الصراع وأن يصفي قضية فلسطين على أنها باتت "إسرائيل" المزعومة وإلى الأبد، وأن يصفي هوية المسجد الأقصى وكأنه بات هيكلًا، وأن يحسم مصير القدس على أنها "أورشليم" العبرية، وهو يحضر لتهجير شامل في الضفة التي لا بد أن تصبح "يهودا والسامرة"، بينما أعداد الأسرى تتزايد والتنكيل بهم يتصاعد محولًا السجون إلى قبور مبنية، بينما يجري تعزيز الحصار في غزة لخنق المقاومة وتحييدها، وفرض يهودية الدولة في الداخل المحتل، ومحاولة إنهاء "الأونروا" وشطب حق العودة لفلسطينيي الخارج، ومحاولة تجاوز مأساة فلسطين بـ "الاتفاقات الإبراهيمية". 

جاء طوفان الأقصى ليمنع التصفية، ويتجاوز ذلك بالانتقال إلى الهجوم ومحاولة فرض التراجع على الاحتلال، وليعيد مظلومية فلسطين وشعبها إلى الواجهة، وليعزل "إسرائيل" وداعميها. وإذ وقفت غزة في المقدمة لتخوض المعركة، يريد المحتل بإصراره على كل هذه العناوين أن يفرغ الطوفان من معناه، وفي مواجهة ذلك فإن الخيار الأجدى والأصح هو التمسك بالطوفان وتحقيق معناه وجدواه بالصمود في وجه موجة التشبث بالحسم، إلى أن تفشل وترتخي أيدي أصحابها أمام ثبات الحق وصلابته.

 

خطر الصهيونية العابر للقارات

أثبتت ملحمة طوفان الأقصى بما لا يدع مجالًا للشك أن الصهيونية أيديولوجية عنصرية إلغائية تؤمن بالتفوق العرقي والديني ممتزجين معًا، ما يجعلها واحدة من أسوأ نظريات التفوق الموهوم في التاريخ. ولقد أسست بذلك لشطب إنسانية كل من يعارضها واستباحة دمه باعتباره كائنًا أدنى بزعمها، وأباحت لنفسها استخدام كل أدوات القوة والرقابة وانتهاك الخصوصية والقمع والتنكيل وحجز الحرية، وباتت معملًا دوليًا يختبر ويصدر كل هذه الشرور ويحولها إلى تجارة، وهي خطر على الحرية الإنسانية كقيمة. 

الصهيونية من حيث تؤمن بشكل مطلق بتفوقها فإنها لا تقبل أي نقد، وتبيح لنفسها شيطنته وخنقه وإسكاته بكل الوسائل، ولقد تجلى بوضوح أنها قد باتت قيدًا على حرية الفكر البشري وعنوانًا لطمس الحقيقة وللإرهاب وترويع المخالفين عبر العالم، ولذلك فإن خطرها ممتد ومنتشر وعابر للحدود ولا ينحصر في فلسطين. ومن هنا، بات واجبًا على النخبة في مجالات الإعلام والثقافة وصناعة الوعي أن تحمل رسالة تجريم الصهيونية بذاتها كأيديولوجيا عنصرية إلغائية تشكل دافعًا للإجرام، وأن تتجاوز التجريم المجرد لـ "إسرائيل" وأفعال سياسييها وقادتها وجنودها.

إن مقولة تحميل المقاومة مسؤولية جرائم الاحتلال في غزة غسيلٌ للدم عن يد المجرم وتواطؤ معه بالتعامل مع جريمته وكأنها "حق طبيعي" له، وهي تزويرٌ يحمّل الضحية مسؤولية دمها وألمها لأن "واجبها" أن تجنب نفسها الجريمة حتى وإن كان هذا يعني التنازل عن الحق وعن العدالة والاستكانة لمنطق القوة. وهو انعكاس لانحطاط فكري وأخلاقي يجعل المادة فوق المبادئ والقيم، ويجعل القوة أصلًا والحق تابعًا؛ وغزة إذ ترفض هذا المنطق المختل الذي استفحل في العالم إنما تحرر البشرية بأسرها بدمها وصمودها.

أما المقولة الثانية التي لا بد من تفنيدها، فهي محاولة وصم المقاومة باعتبارها تنفذ "أجندة إقليمية" بعيدة عن مصالح الشعب الفلسطيني، ورغم أن من حق المقاومة الطبيعي أن تستعين بكل مكونات أمتها وهي تتصدى للخطر الوجودي الصهيوني، فإن التجربة أثبتت أنها كانت متقدمة على كل حلفائها وداعميها حين مضت إلى طوفان الأقصى، وأنها كانت الأعلى سقفًا والأكثر جدية في معركة فاصلة مع المحتل الجاثم على أرضها، فكانت رأس الحربة وكانت المتبوع لا التابع.

غزة وواجب الوقت

اليوم بعد أن قفزت غزة إلى الأمام وتقدمت الشعب الفلسطيني والأمة بأسرها في التصدي لمعركة الحسم ومحاولة نقل الصراع إلى مسار التحرير، وإذ دفعت ثمن تأخر الأمة عنها - وإن بتفاوُت في جدية المحاولة - فإن واجب الوقت واللحظة على كل فردٍ وجماعة هو اللحاق بها وليس نقدها على تقدمها. وإن كانت دفعت ثمنًا إنسانيًا باهظًا فإن الواجب التخفيف عنها ومداواة جروحها واستشعار المسؤولية تجاهها، إذ وقفت في الأمام وصاغت النموذج، وإذا ما عجزت شعوب العالم عن إحقاق الحق ومنع الإبادة التي تشاهدها يوميًا على مدار خمسة عشر شهرًا، فإن الواجب اليوم كسر الحصار ومنع تعفن الجراح ومد شرايين الحياة لغزة. 

حين اندفعت غزة إلى الطوفان، وتُركت في المقدمة لتدفع الثمن مضاعفًا، كانت تدفع عن كل فلسطين مصير التصفية، وعن كل عربي مصير الإلحاق والاستتباع، وعن كل مسلم مصير تهويد أقدس مقدساته وطمسها، وعن البشرية بأسرها معركة الحق والعدالة في وجه طغيان المادة والقوة، ومعركة المساواة الإنسانية في وجه آخر نظريات التفوق العرقي والديني وأقبحها؛ وأمام هذه الحقائق فإن العودة لمواصلة الحياة كما كانت قبل السابع من أكتوبر قد باتت في عداد المستحيل، فهناك واجبٌ لمّا يوفّى لغزة حين كانت في المقدمة تخوض حربها عن كل هؤلاء، حربٌ لن تُحسم ما لم تلتحق بغزة كتلة وازنة تسمح بترجيح الكفة، فتمنع التصفية وتؤسس للتحرير.

المصدر: متراس

#غزة #قطاع غزة #طوفان الأقصى