رام الله - خاص قدس الإخبارية: تدخل الضفة المحتلة عاماً جديداً لا تختلف أحداث الساعات الأولى منه عن ما فارقت عليه العام الماضي، عمليات عدوانية إسرائيلية مستمرة، اغتيالات، واعتقالات، واقتحامات، ومستقبل مكلل بالقلق في ظل مخططات الاحتلال التي تسير دون عرقلة من العالم أو الدول العربية أو السلطة الفلسطينية نحو ضم الضفة وتعزيز الاستيطان وتهجير الفلسطينيين، والصدام الحاصل في جنين بعد عملية أجهزة أمن السلطة ضد مجموعات المقاومة وتصميم قيادتها على المضي فيها رغم تحذيرات من أطياف متنوعة في الشعب الفلسطيني من خطورة هذا المشروع.
2024 سجل مرحلة جديدة في تصعيد الاحتلال حربه على الفلسطينيين، في الضفة المحتلة، بالتزامن مع حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، المستمرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، استخدم فيه أسلحة لأول مرة وبعضها لم يستخدم منذ انتفاضة الأقصى، كما في عمليات الاغتيال من الجو.
لم تمنع الحرب القاسية التي تعرض لها الفلسطينيون، في الضفة المحتلة، خاصة في شمالها لم تمنع مجموعات المقاومة من الاستمرار في المواجهة وتنفيذ عمليات نوعية ألحقت خسائر في جيش الاحتلال والمستوطنين، وتطوير أدوات مختلفة مثل العبوات الناسفة.
العدوان على الضفة: حرب الوعي
منذ الساعات الأولى للحرب العدوانية على قطاع غزة التي تكاد تجمع الهيئات الحقوقية في العالم على أنها "إبادة جماعية"، أطلق جيش الاحتلال حملة عسكرية واسعة، في الضفة المحتلة، تنوعت أساليبها بين الاغتيالات للمطاردين والمقاومين، والاعتقالات الواسعة، والتعذيب للمعتقلين، وتدمير البنية التحتية وغيرها.
خلال حرب الإبادة الجماعية قتل جيش الاحتلال 835 فلسطينياً، في الضفة المحتلة، بينهم 171 طفلاً، وهو العدد الأكبر للشهداء في الضفة، خلال فترة زمنية مشابهة، لم يتكرر حتى خلال انتفاضة الأقصى. استخدم الاحتلال القوات الخاصة والطائرات المسيَرة والطيران الحربي، في عمليات الاغتيال للمطاردين وقادة المقاومة، واستشهد فيها عدد من الأطفال والمدنيين كما في قصف مقهى في مخيم طولكرم، في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
كثف جيش الاحتلال، في الشهور الماضية، من الاقتحامات للمدن والمخيمات، خاصة في شمال الضفة المحتلة، ووصلت بعض العمليات العدوانية أكثر من أسبوع متواصل، دمر فيها جيش الاحتلال البنية التحتية المدنية والخدماتية، وعشرات المنازل، واعتدى على الطواقم الطبية، واقتحم المستشفيات والعيادات، وكان لجنين وطولكرم ومخيماتهما وطوباس ومخيم الفارعة ومخيم بلاطة الصدارة في تلقي الإجرام الإسرائيلي، وقدرت مؤسسات رسمية أن الخسائر التي حلَت في هذه المناطق تقدر بملايين الدولارات.
قالت مؤسسات الأسرى، في تقريرها السنوي، إن حملات الاعتقالات التي نفذها جيش الاحتلال، في الضفة والقدس المحتلتين، خلال 2024 طالت أكثر من 8800 فلسطيني، وبلغ عدد المعتقلين في حرب الإبادة 14 ألف و300 معتقل.
تقوم حملات الاعتقالات التي ينفذها جيش الاحتلال، في مدن ومخيمات وبلدات الضفة المحتلة، على آلية قريبة مما عاشه الشعب الفلسطيني، خلال انتفاضة 1987، وهي اقتحام المناطق بقوات كبيرة ومداهمة عشرات المنازل، والاعتداء على ساكنيها، واعتقال الشبان وخاصة الأسرى المحررين، وتحويل منازل إلى ثكنة عسكرية بعد اقتحامها من قبل ضابط "الشاباك" المسؤول عن المنطقة، والتحقيق في داخلها مع المعتقلين والتنكيل بهم والاعتداء عليهم بوحشية.
ونشر الاحتلال حواجزه والبوابات الحديدية على مداخل عشرات التجمعات السكنية من قرى ومخيمات ومدن، ونكل بالأهالي واعتدى عليهم بالضرب الوحشي، خاصة الأسرى المحررين الذين احتجز المئات منهم لساعات طويلة، ونسبة منهم تعرضت للاعتقال لشهور، في ظروف قاسية ووحشية فرضتها إدارة سجون الاحتلال، وأصبح كل شيء مستباحاً حتى الهواتف المحمولة صارت هدفاً للجنود المنتشرين على الحواجز لبث الرعب في الناس، من حتى متابعة الأخبار، وقد تعرض عشرات الشبان للضرب الوحشي بسبب حسابات إخبارية يتابعونها وتنشر فيديوهات للمقاومة أو مجازر الاحتلال في قطاع غزة.
هذه العمليات العدوانية الإسرائيلية لا تفارق العملية النفسية التي تريد أن تقول للفلسطينيين: "إياكم والمقاومة… الدمار لكل من يرفع رأسه ضدنا"، وهي ما أسماها وزير جيش الاحتلال السابق موشيه يعالون "كي الوعي"، وقد طالت الحرب الإسرائيلية فئات مختلفة من المجتمع في إطار "العقاب الجماعي"، حتى تلك التي لم يعرف عنها انخراط مباشر في نشاط سياسي أو نضالي.
المقاومة: قتال الزمن الصعب
نهضت المقاومة الفلسطينية، في الضفة المحتلة، في السنوات السابقة على حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وعملية "طوفان الأقصى"، من ظروف شديدة التعقيد بعد حملة الاحتلال لتصفية محاولات تجديد الكفاح المسلح، بعد انتفاضة الأقصى، وحملات السلطة الفلسطينية خاصة ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وقد تظافرت عمليات اقتصادية لتطويع المجتمع، مع الأدوات العسكرية والأمنية.
بعد "طوفان الأقصى"، بدأت مجموعات المقاومة في شمال الضفة المحتلة عمليات إطلاق نار استهدفت تجمعات جيش الاحتلال، في المعسكرات والحواجز، خاصة في محيط جنين وطولكرم وطوباس ونابلس، وسجلت الشهور الماضية ارتفاعاً في استخدام سلاح العبوات الناسفة التي أصابت عدة آليات لجيش الاحتلال بصورة بالغة، وقتلت ضباطاً وجنوداً بينهم قائد لواء "منشة" المسؤول عن طولكرم وجنين، الشهر الماضي.
تشير إحصائيات مركز "مُعطى" إلى أن 48 جندياَ وضابطاً ومستوطناً قتلوا في عمليات المقاومة، في الضفة والداخل المحتل، خلال 2024، وأصيب 386، وتنوعت العمليات بين تفجير العبوات الناسفة، وإطلاق النار، والطعن، والدهس، واستهداف مركبات المستوطنين بالحجارة والزجاجات الحارقة.
وأخذت العمليات المنطلقة في الضفة ومنها إلى القدس والداخل المحتل، شكل الخلايا التابعة لتنظيم، كما في حالة خلايا القسام وسرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى وغيرها من تشكيلات المقاومة، التي نفذت عمليات إطلاق نار وتفجير عبوات ناسفة، أو فردية كما في عمليات الطعن والدهس. وسجل 2024 عودة أشكال من النضال غابت لسنوات طويلة مثل العملية الاستشهادية التي خططت لها ونفذتها خلية من الجهاد وحماس في نابلس.
في الانتشار الجغرافي، تركزت فعاليات المقاومة المسلحة في شمال الضفة المحتلة (جنين ومخيم جنين وطولكرم ومخيم طولكرم ومخيم نور شمس وطوباس وطمون ومخيم الفارعة ومخيم بلاطة ومخيم العين ونابلس)، وأخذت العمليات في بقية المناطق شكل "العمل النخبوي" أو "الخلايا الصغيرة"، كما في حالة مدينة الخليل، ورام الله، وبيت لحم، مع استمرار عمليات استهداف مركبات المستوطنين اليومية والمواجهات مع جيش الاحتلال في الأرياف ومحيط مخيمات الجنوب (العروب والفوار والدهيشة وعايدة).
ومن الظواهر الملاحظة في سياق المقاومة المسلحة، في الضفة المحتلة، في العام الماضي هي انخراط أسرى محررين أمضوا سنوات طويلة (أكثر من 15 عاماً)، في سجون الاحتلال، فيها كما في تجربة الشهداء علاء شريتح وعدنان سمارة ومحمد جابر عبدة، بالإضافة لانخراط عناصر سابقين في أجهزة السلطة في العمليات المسلحة، كما في عملية الشهيد مجاهد بركات كراجة الذين استطاع إدارة معركة لوحده مع قوات الاحتلال الخاصة، في جبال غرب رام الله، وقتل عنصر من وحدة "دودوفان" الخاصة، واستشهاد أسرى تحرروا في صفقة التبادل التي عقدتها المقاومة في قطاع غزة، خلال الحرب الحالية، كما في تجربة الشهيدين جبريل جبريل وطارق داود اللذين انطلقا في العمل العسكري ضد الاحتلال بعد فترة قصيرة من تحررهما.
وودعت المقاومة الفلسطينية في العام الماضي عدداً من قياداتها المؤسسين للحالة الراهنة التي أخذت شكل مجموعات كبيرة، كما في شمال الضفة المحتلة، في عمليات اغتيال إسرائيلية، مثل مؤسس كتيبة طولكرم محمد جابر (أبو شجاع)، والقيادات والكوادر في كتائب القسام وسرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى وكتائب أبو علي مصطفى وغيرها من مجموعات المقاومة، مثل طارق غانم زيدان، وإسلام عودة، ومحمد إبراهيم عابد، ورأفت محمد دواسي، وأشرف عيد نافع، وياسين أحمد محمود العريدي، وهمام أسعد حشاش، وقصي هزوز، وفؤاد الأشقر، وأحمد باسم العموري، وعبد السلام نبيه أبو الرب، ومنتصر غالب أبو نعيم، وعبد الله محمود إرشيد، ووائل أحمد أبو إدريس، ومحمد رسلان عبدة، ووسيم بسام أبو عادي، ورشدي عطايا، ومحمد رسول عمر دراغمة، وفتحي عبيد، ومهيمن الأخرس، وخليل المصري، وعدي دراغمة، ومحمود مأمون أبو الرب، ومحمد إياد محمد عبد الله، وعوض جميل صقر عمر، وحسام الملاح، ومحمد أبو الطلال حربوش، ووسام أيمن خازم، وقسام محمد جبارين، وأحمد مؤيد الصوص، ومحمد نضال أبو زميرو، وأحمد وليد أبو عرة، ونضال العامر، وحارث الحشاش، وهاني بني عودة، وعارف محمد بني عودة، وعبد الحكيم شاهين، ووائل مشة، وطارق الدش، ودوسم العوفي، ومحمد العوفي، ومحمد رحايمة، وعصام الصلاج، وعبد الحليم ناصر، وسليم أبو سعدة، ونعيم عبد الهادي، وميسرة المشارقة، ووليد رضوان، وقصي عدوان، وإياد شبيطة، ومحمد رضوان وغيرهم.
"اليمين الصهيوني": 2025 عام ضم الضفة
أعلن وزير المالية في حكومة الاحتلال، بتسلئيل سموترتيش، في تصريحات صحفية قبل أسابيع أن هدف حكومته التي يتولى فيها أيضاً مسؤولية الجانب المتعلق بالاستيطان والحكم العسكري الاستعماري، في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، في 2025 هو ضم الضفة المحتلة إلى ما يسميه "السيادة الإسرائيلية".
عمل سموتريتش منذ تشكيل الحكومة الحالية في دولة الاحتلال على حزمة مشاريع لتطبيق برنامجه، لتدمير الوجود الفلسطيني في الضفة المحتلة، والسيطرة عليها، ومنع قيام "كيان سياسي فلسطيني"، من خلال منح تمويل واسع للاستيطان، ودعم ميلشيات المستوطنين التي يلتقي معها أيدلوجياً، وتحويل صلاحيات من ضباط ما تعرف بـ"الإدارة المدنية" إلى مستوطنين من محيطه، وزيادة عمليات الهدم وتوسيعها نحو المناطق المصنفة "ب"، وزيادة أزمة الاقتصاد الفلسطيني عبر سرقة الأموال الخاصة بالضرائب بهدف دفع الأوضاع إلى الانهيار.
تشير إحصائيات فلسطينية إلى أن الاحتلال استولى خلال الشهور الماضية على 52 ألف دونم، في الضفة المحتلة، وأقام 12 منطقة عازلة حول المستوطنات، وأقرت حكومته 182 مخططاً استيطانياً بهدف بناء 23 ألفاً و267 وحدة استيطانية، كما توسعت البؤر الاستيطانية حول القرى الفلسطينية، ومنها تنطلق ميلشيات المستوطنين في الهجمات على المزارعين والأهالي.
وشن الاحتلال حرباً أخرى على التجمعات البدوية الفلسطينية المنتشرة، في مواقع يعتبرها استراتيجية له، وهجر وفقاً لإحصائيات منظمة البيدر نحو 67 تجمعاً، خلال شهور الحرب، وواصل سياسات الاعتقالات، والمداهمات، وتدمير المنازل، وسرقة المواشي، وتخريب المدارس والمرافق العامة في هذه التجمعات لدفع الأهالي للهجرة منها.
وصعد الاحتلال من عمليات هدم المنازل والمنشآت ووصلت إلى قرى وبلدات كانت لسنوات بعيدة عنها، وطالت مصالح تجارية ومنشآت زراعية، بهدف زيادة انهيار الوضع الاقتصادي للفلسطينيين ودفعهم نحو الهجرة لتحقيق مشروع السيطرة التامة على الضفة والقدس.
وينتظر اليمين الصهيوني المسيطر على حكومة الاحتلال وصول ترامب إلى البيت الأبيض، للحصول على موافقة مباشرة لضم الضفة المحتلة لـ"السيطرة الإسرائيلية"، وتسهيل مزيد من المشاريع التي تعني تدمير ما تبقى من ما يسمى "حل الدولتين"، وحشر الفلسطينيين في تجمعات ضيقة تحكمها سلطات محلية، ويمنع عليها المطالبة بأي حل أو حقوق سياسية.
ماذا يقول الواقع وماذا يحمل المستقبل؟
- تباينت مستويات الانخراط في المقاومة المسلحة أو الشعبية بين منطقة وأخرى وتركزت حتى اليوم في مناطق شمال الضفة المحتلة.
- كانت ردة الفعل على جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الاحتلال في قطاع غزة أقل من المتوقع خاصة من الشعب الفلسطيني في قطاع وإن تباينت بين منطقة وأخرى.
- الضربات التي تلقتها التنظيمات الفلسطينية منذ نهاية انتفاضة الأقصى وحتى حرب الإبادة الجماعية لها دور في غياب عمل تنظيمي شعبي واسع يجند الغضب الشعبي على مجازر الإبادة في مواجهة الاحتلال.
- غياب المؤسسات الاجتماعية والشعبية مثل النقابات له دور هام في تأخر بلورة حالة شعبية واسعة كما في حالة انتفاضة الحجارة أو انتفاضة الأقصى.
- الاغتيالات وحملات الاعتقالات الواسعة حرمت الشعب الفلسطيني في الضفة القدس من عديد من أصحاب الخبرات السياسية والعسكرية والميدانية.
- أداء السلطة الفلسطينية وخيارها في عدم الانخراط في مواجهة الاحتلال حتى على المستوى الشعبي وغياب منظمة التحرير الفلسطينية عن تصدر العمل النضالي السياسي في العالم لتحقيق مكاسب فلسطينية في الاستقلال وتقرير المصير له دور في تعقد الحالة الفلسطينية في الضفة.
- انخراط السلطة الفلسطينية في عمل عسكري ضد مجموعات المقاومة في مخيم جنين يعرض الحالة في الضفة لتعقيدات إضافية قد تصل إلى الاقتتال الداخلي وفي الوقت ذاته يزيد من تراجع شعبيتها وحاضنتها كما تؤكد استطلاعات رأي مختلفة.
- الأوضاع الاقتصادية الصعبة في الضفة جراء منع مئات آلاف العمال من الدخول إلى الداخل المحتل وفي ظل أزمة الرواتب قد يكون عاملاً لانفجار الأوضاع في المستقبل.
- عمليات المقاومة على المستوى التنظيمي أو الفردي تقول الوقائع إنها مستمرة في المستقبل على وتيرة مختلفة بين الارتفاع والانخفاض.
- الحراك العسكري ضد الاحتلال في المستقبل قد يكون أيضاً شبيهاً بالمرحلة الحالية من حيث المجموعات المسلحة كبيرة العدد نسبياً، في الشمال، بالإضافة لانتشار خلايا تنظيمية، وربما على نطاق أوسع جغرافياً واجتماعيا، مع حراك شعبي.
- مشروع "ضم الضفة" وتوسيع الاستيطان هو أحد المخاطر الوجودية الأكبر على الفلسطينيين في المرحلة المقبلة.
- تحمل المرحلة الحالية للفلسطينيين عامة مخاطر وفرص في آن واحد وطبيعة الاستجابة للتحديات هي من تحدد عناصر الاستفادة أو الخسارة.
- المستقبل في فلسطين يحمل عادة جانباً من "اللامتوقع" فعادة تندلع الأحداث الكبيرة في حين أن التقديرات تكون على العكس من ذلك، عندما خرجت منظمة التحرير من لبنان في 1982 وكانت الآراء شبه مجمعة أن القضية الفلسطينية انتهت، بعد سنوات قليلة اندلعت انتفاضة الحجارة.