إعادة فصائل فلسطينية في غزة للعمليات الاستشهادية بعد مرور نحو 14 شهرًا على حرب غزة الأخيرة تعكس تحولًا استراتيجيًا وتكتيكيًا معقدًا في سياق المواجهة مع الاحتلال. هذه العودة للعمليات الاستشهادية ليست مجرد تصعيد عسكري عشوائي، بل هي جزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى تحقيق أهداف متعددة تتعلق بالتحرير، والضغط العسكري، والرسائل السياسية. لفهم هذا القرار، نحتاج إلى تحليل تاريخ العمليات الاستشهادية الفلسطينية في سياقها الأوسع.
التاريخ والاستراتيجية
العمليات الاستشهادية كانت جزءًا من المقاومة الفلسطينية منذ أواخر الثمانينات، وتحديدًا في فترة الانتفاضة الأولى (1987-1993)، حيث برزت بشكل كبير كأداة للمقاومة ضد الاحتلال. مع تشكيل حركة حماس في أواخر الثمانينات، أصبحت العمليات الاستشهادية أحد أساليبها الرئيسية، حيث كانت تهدف إلى تحقيق الردع ضد الاحتلال، والتأكيد على رفض الاحتلال بكل أشكاله. بعد اتفاقية أوسلو في التسعينات، تراجعت العمليات الاستشهادية نتيجة للضغط السياسي، إلا أن تصاعد القمع "الإسرائيلي" واحتلال الأراضي الفلسطينية واستمرار الانتهاكات الحقوقية دفع الفصائل الفلسطينية إلى العودة لهذا الأسلوب، خاصة في الانتفاضة الثانية (2000-2005).
لكن بعد هذه الانتفاضة، وتحديدًا بعد الحروب الثلاثة على غزة (2008-2009، 2012، 2014)، تبنت فصائل غزة أساليب أخرى مثل إطلاق الصواريخ والأنفاق لتقليل الخسائر في الأرواح في العمليات المباشرة. مع ذلك، فقد ظلت العمليات الاستشهادية جزءًا من مخزون التكتيك العسكري للفصائل الفلسطينية، خصوصًا في ظل تدهور الوضع السياسي والإنساني.
إعادة العمليات الاستشهادية بعد نحو 14 شهرًا من الحرب
فيما يتعلق بالعودة إلى العمليات الاستشهادية بعد مرور 14 شهرًا على الحرب الأخيرة في غزة (طوفان الأقصى 2023)، يمكن أن يُنظر إليها من عدة زوايا:
-تكتيك عسكري: العمليات الاستشهادية تعتبر أسلوبًا مباشرًا له تأثير نفسي عميق على العدو. عندما تعود فصائل غزة لاستخدام هذا التكتيك بعد فترة طويلة، فإنها تهدف إلى إرباك الاحتلال، خاصة في ظل التهديدات المتزايدة من فصائل فلسطينية أخرى. الأسلوب الاستشهادي يشكل صدمة نفسية للجنود العسكريين في جيش الاحتلال والمجتمع المدني "الإسرائيلي"، مما يزيد من التكاليف العسكرية والسياسية للاحتلال.
بعد "طوفان الأقصى"، أصبح من الواضح أن العمليات الاستشهادية لم تعد تقتصر على الأساليب التقليدية، بل تم تطويرها لتشمل تكتيكات مبتكرة، مثل التفجيرات المتزامنة والمفاجئة، والتي تعد أكثر تعقيدًا من حيث التخطيط والتنفيذ.
-مناورة سياسية: عودة العمليات الاستشهادية يمكن أن تكون محاولة لتغيير معادلة الصراع على الأرض. من خلال العودة لهذه الأساليب، تحاول فصائل المقاومة إرسال رسالة مفادها أن الاحتلال لا يستطيع فرض تهدئة دائمة أو مؤقتة، وأن المقاومة المسلحة، مهما كانت الضغوط السياسية أو العسكرية، ستظل مستمرة. الرسالة هنا هي أن الفلسطينيين لا يزالون قادرين على الدفاع عن أنفسهم بطرق متعددة.
-تعزيز الهوية الوطنية: في سياق اجتماعي وسياسي شديد الصعوبة، لا سيما في قطاع غزة الذي يعاني من الحصار والبطالة والظروف الاقتصادية القاسية، فإن العمليات الاستشهادية تُعتبر وسيلة لإظهار المقاومة على المستوى الشعبي. هي بمثابة تأكيد على استمرار النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، وحافز للأجيال الجديدة لإثبات أن هناك دائمًا وسائل للمقاومة حتى في ظل القمع الشديد.
أهداف المقاومة من العودة للعمليات الاستشهادية
الضغط على الاحتلال
الهدف الأساسي للمقاومة الفلسطينية في العودة لهذا التكتيك هو الضغط على الاحتلال. من خلال تنفيذ العمليات الاستشهادية، تحاول الفصائل إلحاق خسائر كبيرة في صفوف الجيش "الإسرائيلي" وجهاز الأمن، بالإضافة إلى ضرب قدرة الاحتلال على فرض حالة من الأمن الداخلي. العمليات الاستشهادية قد تؤدي إلى تعطيل الجهود العسكرية "الإسرائيلية" وتحدي فرضها لسلطتها على الأراضي المحتلة.
رفع معنويات المقاومة الفلسطينية
إعادة استخدام هذا التكتيك يهدف أيضًا إلى رفع معنويات المقاومين في غزة والضفة الغربية. فالتفجيرات الاستشهادية تذكر الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي أن المقاومة لم تنتهِ وأن الخيارات الكفاحية الأخرى قد تم تفعيلها مجددًا. هذا يعزز من تأثير الفصائل المسلحة في الساحة الفلسطينية ويؤكد على استمرار المعركة ضد الاحتلال.
التأكيد على النضال الوطني الفلسطيني
من خلال العمليات الاستشهادية، تؤكد الفصائل الفلسطينية على أن القضية الفلسطينية ليست قضية سياسية فقط، بل هي قضية تحرر وطني. بهذه العمليات، تحاول الفصائل التأكيد على الهوية الفلسطينية ووحدتها ضد الاحتلال. في وقت تعاني فيه القضية الفلسطينية من تشرذم سياسي داخلي وخارجي، تبقى العمليات الاستشهادية بمثابة أداة تعبير عن وحدة المقاومة في وجه المحتل.
الرسالة الاستراتيجية: العمليات الاستشهادية تعتبر جزءًا من استراتيجية المقاومة الفلسطينية التي تهدف إلى إبراز عدم قدرة الاحتلال على تحقيق الأمن الداخلي، خاصة مع تزايد الهجمات على المستوطنات والمرافق "الإسرائيلية" في الضفة الغربية. هي رسالة مفادها أن الاحتلال لن يحقق استقرارًا طويل المدى على حساب حقوق الفلسطينيين.
التصعيد العسكري: إذا استمرت العمليات الاستشهادية مع تصاعد الهجمات "الإسرائيلية" على القطاع، فمن المرجح أن نرى تصعيدًا جديدًا في الصراع، قد يتوسع ليشمل مناطق أخرى من فلسطين.
تأثير على الجهود الدولية: ستظل العمليات الاستشهادية ساحة اختبار للجهود الدولية في الضغط على الاحتلال الإسرائيلي. من جهة أخرى، قد تساهم هذه العمليات في تعزيز مواقف بعض الدول العربية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية، خصوصًا في محيط المنطقة.
إعادة فصائل غزة للعمليات الاستشهادية بعد 14 شهرًا من الحرب هي جزء من تكتيك عسكري قديم محدث، يستهدف زيادة الضغط على الاحتلال، تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية، وإرسال رسائل سياسية متعددة. هذه العمليات تهدف إلى إبقاء المقاومة حية في الأذهان الفلسطينية والعالمية.