خاص - شبكة قدس الإخبارية: بعد تجاوز العملية العسكرية الموسعة على شمالي قطاع غزة، وفي القلب منه مخيم جباليا، على مدار ثمانين يومًا من العدوان الذي شمل استخدام أبشع أدوات القتل والتدمير والتهجير، إضافة إلى الإبادة الشاملة لكل أوجه الحياة والحرمان من أبسط مقومات البقاء، بما في ذلك تدمير شامل للمنظومة الصحية ومنع طواقم الإسعاف والدفاع المدني من العمل، والقصف المباشر على المستشفيات، لم تتوقف المقاومة الفلسطينية ولو ليوم واحد عن مواصلة المواجهة والاستهداف لقوات الاحتلال الغازية في أزقة مخيم جباليا ومشروع بيت لاهيا ومدينة بيت لاهيا.
منذ بداية العدوان، استمرت المقاومة بتنفيذ ضربات متتالية كبدت الاحتلال خسائر فادحة، إذ اعترف الاحتلال بخسارة أكثر من 35 ضابطًا وجنديًّا، فيما وثَّقت المقاومة قتلَ أكثر من 60 ضابطًا وجنديًّا. وكان لافتًا في إعلانات المقاومة الأخيرة لجوؤها إلى استخدام أدوات وأساليب جديدة في استهداف جنود الاحتلال وضباطه داخل مخيم جباليا. من أبرز هذه العمليات الإعلان عن عمليتَي طعن استهدفت جنود الاحتلال والاستيلاء على أسلحتهم، بالإضافة إلى عملية فدائية نوعية قام في خلالها أحد مقاتلي كتائب القسام بتفجير نفسه داخل مكان تحصن لقوات الاحتلال.
تحمل هذه العمليات في جوهرها العديد من الرسائل الميدانية المهمة، فهي تؤكد حجم العزيمة والإرادة التي يتمتع بها مقاتلو المخيم على الرغم من الظروف القاسية والاستنزاف الأقصى لموارد المقاومة. كما بعثت برسالة واضحة بأن الاحتلال، على الرغم من كل أدواته وإمكاناته، لن يستطيع تحقيق الأمن الذي يسعى إليه على أرض قطاع غزة، في ظل استمرار روح المقاومة وتصميمها على المواجهة.
قتال ملحمي
من المعروف أن مخيم جباليا من أكثر المناطق التي تتمتع فيها المقاومة في قطاع غزة ببنية قوية ومتينة، مترافقة مع إرث تاريخي وافر وواسع من المقاومة والمواجهة مع الاحتلال. طوال تاريخه، تحولت كل محاولات اجتياح مخيم جباليا إلى ملامح بطولية يُسطر فيها مقاتلو المخيم وحاضنتهم الشعبية أكثر الملامح بطولة وتضحية وصلابة. تصلَّب هذا الإرث الممتد منذ انطلاق الكفاح المسلح في الأراضي الفلسطينية وتصاعَد على مدار العقود السابقة، ليجعل المخيم أحد أكثر المناطق صعوبة في خطط كل قادة الاحتلال وأركان جيشه.
يقاتِل مقاومو مخيم جباليا، ومعهم مقاومو شمالي قطاع غزة، بعزيمة تجاوزت كل شكل من أشكال قتال المغاوير وحرب المدن، وتنافي في قدرتها على الصمود والمواجهة حسابات العقل والمنطق، لتجعل المتابع عاجزًا عن تفكيك طبيعة القدرة القتالية التي ما تزال تعمل وفقًا لمنهجية منظمة وأسس واضحة قائمة على قاعدة الاستنزاف الأقصى لجيش الاحتلال المقتحم لشمالي قطاع غزة. في الوقت الذي يستهدف الاحتلال إبادة مخيم جباليا والقضاء عليه بوصفه كتلة ديمغرافية وبنية عمرانية، وتبديد هويته بوصفه مخيمًا وشاهدًا على النكبة وبوصفه مركز قيادة رئيسي للمقاومة الفلسطينية.
يقاتِل المقاومون في مخيم جباليا من زقاق إلى آخر، ليس وفق مبدأ دفاعي يتضمن خطوطًا دفاعية تمنع جيش الاحتلال من التقدم، بل بدفاع مرن يتعامل وفق متطلبات الميدان، ويُحدِّد أهدافه وفق دراسة عسكرية ترتكز إلى حجم الجدوى والاستخدام الأمثل للذخيرة والموارد المحدودة، بهدف إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر.
يحظى الإقدام الذي يقاتل فيه مقاتلو المخيم -وإن كان امتدادًا لقتال المقاومة على مدار أراضي قطاع غزة- بصفة إيجابية مرتبطة بإيلاء مقاومي المخيم أهمية قصوى لفكرة حرمة الأرض في شمال قطاع غزة على المحتل، وبالتالي السعي المستمر إلى تحويل كل يوم من استمرار وجوده على الأرض إلى يوم جديد من القتال الملحمي.
القيادة والسيطرة
بمتابعة مجريات العمليات العسكرية في شمالي قطاع غزة، يمكن قراءة العديد من المعطيات ارتكازًا على إعلانات المقاومة، ومقاربتها مع الواقع الطبوغرافي لطبيعة مناطق شمالي قطاع غزة، ومدة تمركز آليات جيش الاحتلال وجنوده فيها، مع الأخذ في الحسبان الحصار المُطبق على شمالي قطاع غزة منذ أكثر من ثمانين يومًا، وفرض حظر للتجول داخل شوارع وأزقة المخيم بالنيران والطائرات المُسيرة والقصف المستمر.
بدأت العملية العسكرية لجيش الاحتلال في شمالي قطاع غزة باقتحام استهدف القاطع الجنوبي لمخيم جباليا بهدف فصله تمامًا عن مناطق محافظة غزة، وبالتالي كانت عمليات التوغل الأولى تنطلق من محيط الإدارة المدنية شرق مخيم جباليا إلى مناطق رياض الصالحين وبلوك 2 وبلوك 1، وحي القصاصيب، وصولًا إلى منطقة الفالوجا. ومن غرب المخيم تقدمت الآليات عبر غرب بيت لاهيا وصولًا إلى حي التوام وعبره إلى دوار أبو شرخ وأحياء بئر النعجة والسلاطين وصولًا إلى الالتقاء مع الآليات في منطقة الفالوجا. ومن ثم بدأت الآليات بتقدم يتخلله عملية تدمير سجادي بالصواريخ والقذائف والأحزمة النارية لأحياء المخيم شمالًا وصولًا إلى مشروع بيت لاهيا، مرورًا ببلوكات المخيم المختلفة.
استهدف الاحتلال في خلال هذه العملية كل مظاهر الحياة، ونفذ العديد من المجازر التي أتبعها بإيقاف المنظومة الصحية عن العمل وإخراج الإسعاف والدفاع المدني عن العمل، بهدف تحييد كل تحرك لأي كائن حي ضمن مناطق التوغل.
على الرغم من السابق، فإن إعلانات المقاومة في الأيام الأولى ارتكزت إلى الاستهداف في مناطق التوغل، ومع توسع العمليات، بدأ تشغيل العُقد القتالية للمقاومة (نقاط التمركز لمجموعات المقاومة) وفقًا لمنهجية مختلفة، ترتكز بدرجة أساسية إلى جدوى وحجم وتأثير الضربات. بناءً عليه، بقيت العديد من هذه العُقد في حالة من السكون التكتيكي لأسابيع دون التحرك تجاه القوات المحيطة بأماكن التمركز، وفقًا للتوجيهات العملياتية من غرف القيادة والسيطرة للمقاومة شمال قطاع غزة.
على مدار الأيام السابقة، كانت المقاومة تُشغل عقدها القتالية وفقًا للحاجة العملياتية وحجم الأثر. وعلى سبيل المثال، في خلال اليومين الأخيرين، نفذت المقاومة عمليات في شارع أبو العيش الواقع شمال مخيم جباليا، وفي منطقة العلمي الواقع جنوب مخيم جباليا، ومنطقة مسجد الخلفاء الواقعة وسط المخيم. وسبقها في الأسبوع السابق مجموعة من الكمائن والعمليات في منطقة الفالوجا غرب المخيم، والتي سبقتها مجموعة من العمليات والكمائن في منطقة مشروع بيت لاهيا ومدينة بيت لاهيا.
هاجمت المقاومة في خلال فترة العمليات العسكرية في شمالي قطاع غزة خطوط إمداد العدو شرق وغرب مخيم جباليا، كما هاجمت غرف القيادة لجيش الاحتلال المُقامة ميدانيًّا في مخيم جباليا، واستهدفت أماكن الاجتماعات لقيادة جيش الاحتلال (استهدف أحد الكمائن مكان اجتماع رئيس أركان جيش الاحتلال مع قادة الجيش في مخيم جباليا).
يظهر بوضوح من هذه الإعلانات والتفاصيل المذكورة أن منظومة القيادة والسيطرة للمقاومة متماسكة وتعمل وفق خطة ممنهجة تُشغل وفقها الكمائن والعُقد القتالية وفقًا للتقييم العلمياتي والمعلومات الاستخباراتية الواردة من الميدان حول طبيعة الأهداف المتوفرة ومدى جدوى استهدافها وتوفر الأسلحة المناسبة لتنفيذها باحترافية، ومن ثم الحصول على التغذية الراجعة حول نتائج العمليات على الأرض واستخلاص المقاطع المصورة والإعلان عن العلمية واتباعها بالمقاطع المصورة، ضمن سلسلة اتصال وتواصل بين القاعدة والقيادة متماسكة ومستمرة على الرغم من كل العدوان الضخم المُسلط على المخيم والأحياء المحاذية له.
تكتيكات وأدوات مختلفة تحمل دلالات ورسائل
كان لافتًا للجميع إعلان كتائب القسام عن تنفيذ مقاتليها عمليات طعن، والاستيلاء على سلاح الجنود، ثم مهاجمتهم مرة أخرى، إضافةً إلى إعلان تنفيذ أحد المقاومين عملية استشهادية فجر نفسه في خلالها بقوة إسرائيلية في مكان تحصنها. حملت هذه العمليات والإعلان عنها مجموعة من الرسائل من الميدان، التي أرادت المقاومة أن تصل بوضوح، إضافةً إلى دلالات متعددة حملها هذا الشكل من العمليات.
استنزاف القدرات التسليحية: تعكس هذه العمليات أن القدرات التسليحية للمقاومة، أو بالمعنى الأدق لبعض العُقد القتالية للمقاومة واضطرار المقاتلين إلى استحداث أدوات قتال أخرى وفقًا للإمكانيات المتاحة، تتضمن العمليات أيضًا الاستيلاء على سلاح الجنود، لتحويله إلى شكل من أشكال الإمداد البديل للمقاومين.
القتال وجهًا لوجه: تعكس هذه العمليات أن مستوى الالتحام بين قوات الاحتلال والمقاومين قد وصل في العديد من المناطق إلى القتال وجهًا لوجه دون أية مسافات فاصلة، وهو ما أكده أحد ضباط جيش الاحتلال في مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرونوت" حول كون المواجهة عبر الأزقة مواجهة وجهًا لوجه مع مقاتلين لا يعرفون الخوف ولا المهابة ولا يخشون الموت ويرفضون أن يتعرضوا للاعتقال.
نموذج عن أدوات الالتحام الشعبي في حالة بقاء الاحتلال على الأرض: تُعطي المقاومة نموذجًا مصغرًا حول طبيعة الوضع في حال قررت قيادة الاحتلال فرض الحكم العسكري على قطاع غزة وتوسيع تواجد جيش الاحتلال على الأرض، وهي رسالة من الميدان بأن الحصار المُطبق على المناطق ونزول الجيش على الأرض والتعامل المباشر مع السكان وتنفيذه أنشطة ذات طبيعة مدنية، بما يشمل ما تضغط حكومة الاحتلال على الجيش لتنفيذه مثل توزيع المساعدات، سيعني أن عمليات الطعن القاتلة للجنود، والعمليات الفدائية والاستشهادية، والأحزمة الناسفة ستكون في انتظار حركة الجنود في كل شارع وزقاق. وأن نماذج وأدوات القتال الشعبي الواسع جاهزة، والمقاتلون مستعدون للانتقال لأنماط عمل جديدة تلائم كل مرحلة.
رفع كلفة البقاء في المخيم: يعمل المقاومون بكل الوسائل لرفع كلفة بقاء جيش الاحتلال على الأرض في مخيم جباليا، وعبره كنموذج عن بقية أراضي قطاع غزة، إذ إن مصير استمرار هذا البقاء سيكون المزيد من الجنود القتلى العائدين في أكفان إلى عائلاتهم من المستوطنين، لتُعطي إشارات واضحة حول كلفة كل خطوة إسرائيلية مستقبلية.
فشل أدوات الضغط العسكري الأقصى: توضح العمليات وأدواتها، أن الضغط العسكري الأقصى لن يفلح في دفع المقاومين إلى الاستسلام أو محاولة الانسحاب أو تسليم أنفسهم، بل إن استمرار وزيادة الضغط العسكري سيُجابَه باستحداث أدوات مواجهة جديدة والمزيد من العمليات التي تستهدف جنود الاحتلال.
سلامة خطوط الاتصال والقيادة: تُشكل إعلانات المقاومة عن العمليات المذكورة وكل العمليات بشكل تفصيلي بالمكان والزمان، وبسرعة قياسية، دليلًا على أن هذه العمليات ليست اجتهادًا ميدانيًّا بمعزل عن القيادة، ولا خيارات يائسة من المقاومين، بل هي ضمن قرارات صادرة عن منظومة القيادة، وتؤكد على سلامة خطوط الاتصال وشبكة المقاومة الداخلية التي عمل الاحتلال جاهدًا لقطعها وتفكيكها على مدار أيام الحرب العدوانية على القطاع.
التفاوض من الميدان
لا يمكن فصل طبيعة وشكل العمليات ووتيرتها عن وتيرة المفاوضات الجارية في القاهرة والدوحة من أجل الوصول إلى اتفاق يقضي بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. تعكس عمليات المقاومة بوضوح إصرارها على تأكيد أن الضغط العسكري الكبير على قطاع غزة وإطالة أمد العمليات لن يفلح في إيصالها إلى نقطة الانهيار أو إيقاف زخم مواجهتها لجيش الاحتلال على الأرض. وبالتالي، فإن الضغوط السياسية داخل حكومة الاحتلال لإفشال مساعي التهدئة الحالية، والضغط نحو استمرار التواجد العسكري في قطاع غزة وفرض حكم عسكري عليه، وحتى إعادة الاستيطان، لن يكون بثمن مجاني، بل بثمن مضاعف وكبير جدًا من دماء الجنود والمستوطنين. وما دفع الاحتلال للانسحاب من قطاع غزة عام 2005، سيكون أضعافه مع تطور قدرة المقاومة العملياتية والتكتيكية، والعدد الكبير للمقاتلين في القطاع.
تدفع المقاومة بوضوح قادة الاحتلال لقراءة معطيات الميدان وتقييم النتائج. الاحتلال الذي أراد تحويل شمال قطاع غزة إلى المحطة الأولى التي ينجح فيها بـ"تطهيرها" والقضاء على المقاومة، سيواجه معطيات معاكسة تمامًا لما أراده. إذ تشير المعطيات الميدانية بوضوح إلى أن كل أشكال القتل والتدمير والإبادة، وحتى القضاء على مظاهر الحياة، لن تنجح في دفع المقاومة إلى التراجع، أو القضاء على ممكنات المواجهة، ولن تمنح الاحتلال نموذجه الذي يريد.
توجه المقاومة من الميدان دفة المفاوضات بحسم العديد من الرهانات على الأرض. وبالتالي، فإنها تفشل خطط الاحتلال بكل قتيل وعملية واستهداف، وتؤكد أن جيش الاحتلال سيبقى يدور في دوائر مفرغة عنوانها الاستنزاف الأقصى، دون أن يحصد نتائج تمنحه "النصر المطلق" والاحتلال المجاني لقطاع غزة.
بقدر ما يُشكل الاستهداف المستمر لمحور نيتساريم نموذجًا مهمًّا عن مستقبل التمركز المستمر في قطاع غزة، يُشكل القتال الملحمي في شمالي القطاع، وفي مخيم جباليا تحديدًا، نموذجًا واضحًا عن الوتيرة التي ستكون على الأرض في حال استمرار تواجد جيش الاحتلال داخل المناطق المأهولة.
تعزز هذه المعطيات بوضوح الاتجاه داخل حكومة الاحتلال الذي بات أكثر مرونة من ذي قبل للوصول إلى تهدئة، وحتى الانسحاب من داخل قطاع غزة. وهو ما كان يرفضه رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، حتى شهر مضى، لكنه الآن يعمل على تسويقه وتجهيز الأغلبية اللازمة لتمريره ضمن اتفاق تهدئة مع المقاومة وتبادل للأسرى.
يسجل مخيم جباليا، بمقاوميه وأهله، سطور التاريخ بقتالهم الملحمي على أرض شمالي قطاع غزة، هذه الأرض التي تحولت إلى المقبرة الأولى لأهداف الحرب الإسرائيلية منذ الأشهر الأولى لحرب الإبادة على القطاع، أفشلت مخطط التهجير، والآن تفشل مخطط السيطرة العسكرية على القطاع.