خاص - شبكة قُدس: تقفُ على نافذة منزلها المطلة على حي مدمر، يتجسد أمامها قول شاعر العربية أبي الطيب المتنبي وهي تتشبث بمنزلها: "لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ"، فكل ركن فيه يمثل نبضة حياة لها ولأولادها الذين ظلهم تحت سقفه، وأوى أحلامهم، واختبأت خلف جدرانه مخاوفهم وارتعادهم من القصف، رافضة فكرة مغادرة "وطنها الصغير".
في قسمات وجهها تحمل وجع التهجير وفي صوتها وإطلالتها الإعلامية آلام النكبة، فيها صبر وصمود وتحد، تحترقُ من الداخل لكنها تأبى أن يرى عدوها دموعها تنزلُ، لا تريد إعطاءه فرصة الشعور بالانتصار، وهذا ما دوت به الصحافية الشهيدة إيمان الشنطي صرختها "حنضل صابرين صامدين".
في غزة، يجب عليكَ أن تكون مستعدًا لفقد كل عزيز، بأي وقت، وبأي لحظة، أن تكون مستعدًا لتلقي مكالمة هاتفية لا تعرف إن كانت ستحمل خبرًا سارًا أم صادمًا؟، وما أكثر الصدمات في حربٍ تقتلع أمامها كل شيءٍ، أن تتصفح هاتفك وتجد صورة صديقك المقرب يُنعى دون أن تدري، أو تودع شقيقك دون نظرة وداع، فالجنازات متلاحقة، والصلاة على الشهداء سريعة، صديقك الذي رافقك لجنازة قد يصبح شهيد الغد، وهذا ما حدث مع الصحافية آية أبو طاقية في وداع رفيقة دربها وزميلتها إيمان الشنطي.
نظرة وداع
ارتج هاتف آية، وكان المتصل صديقتها، تحاول التأكد عبر الهاتف، "إيمان!" لم تستطع البوح إلا بالاسم فقط، فتساءلت آية التي أدركت بوجود أمر تخفيه المتصلة فبادرت بالسؤال المليئ بالخوف، "مالها!؟" وهي تضع يدها على قلبها الذي مرت عليه قائمة طويلة من فقد أحباب وأقارب وبدأت الهواجس تطرح اسم صديقتها المقربة، وفي مقدمة تلك القائمة رفيق حياتها وروحها زوجها "أسامة" الذي استشهد قبل ثلاثة أعوام، بصوت تخنقه الدموع أجابت المتصلة التي تاهت عباراتها في غياهب الحزن وقالت بلا مقدمات "استشهدت".
هزت الكلمة قلب "آية"، الذي رفض التصديق، أنكرت عليها سؤالها: "لا يختي، مالك أنت؟، كيف يعني؟ للتو كانت تتحدث معنا في المجموعة"، ولم تمر دقائق حتى وجدت صورة "إيمان" تملأ المواقع الإخبارية.
كانت آية أول الواصلين للمستشفى، لتجد إيمان وحدها تصطحب معها عائلتها فقط يتمدد جثمانها بساحة المستشفى وبجوارها جثامين طفليها وزوجها، لم ينجُ من المجزرة سوى طفلة صديقتها، كشفت "آية" عن وجوههم واحدًا واحدًا، لمست وجه إيمان تمعنت في ملامحها التي "لا يليق بها أن يشوهها صاروخ إسرائيلي" وهي تحدث ذاتها، صدقت عن قرب إنها فعلا هي، تقف أمام فاجعة نال فيها الاحتلال من أسرة كاملة.
استشهدت إيمان الشنطي وزوجها حلمي عابد، وأطفالهم الشهداء ألمى وعمر وبلال، ونجت طفلتهم بنان، لم يشأ القدر أن تغادر السجل المدني مع عائلتها، لتعيش وحيدة في هذه الحياة، بعدما كانت تنعم بدفئهم وحبهم وحنانهم، كتب عليها أن تعيش الخوف بعيدا عن حضن والديها، تتجرع مرارة اليتم، بغياب السند والأم، والأخوة، تواجه قسوة الحرب وحياة أظلمت أنوارها، تحمل إرث أمها وصفاتها وملامحها، لتخبر العالم بقسوة ما فعله الاحتلال بأطفال غزة، أمام حرب إبادة تخطف كل شيء.
"إيمان صديقة دراسة منذ الطفولة، لم تفرقنا الأيام رغم بعدنا فترات وانشغالنا، جمعنا فصل دراسي وحب، وذكريات، ودوائر عمل وتقارب شديد في الحرب، تزاورنا وخرجنا كثيرا في الحرب، شعرنا بأننا ثوابت في حياة بعضنا البعض سيما في الأيام الأخيرة " تسرد آية لـ " شبكة قدس" ملامح تلك الصداقة، عائدة بالزمن لسنوات ماضية.
بقلب ألم الفراق، تقول: "قبل أسابيع ذهبنا معا لنواسي صدقيتنا باستشهاد زوجها، كانت تخشى الخروج من بيتها الذي يقع بحي الشيخ رضوان بمدينة غزة، وحاليا تعد منطقة خطرة، كانت تخشى ترك أولادها وزوجها في البيت، لكنها ورغم ذلك كانت تواسي الجميع بطريقة لا يستطيعها أحد، أذكر يومها أني بكيت جدًا، ورغم تأخرها بعد خروجنا من العزاء لم تتركني لتعود لأطفالها، تكرر: "احكي يا آية، تكتميش بقلبك، الوجع كبير وبيتجدد، أحكي وابكي"، أوصلتني حتى باب البيت ثم عادت لبيتها".
كل عبارات الفخر والوجع تتزاحم في قلب صديقتها، تصفها بأنها "صديقة استثنائية تؤثرنا على نفسها، حتى في عز وجعها ووحدتها وتعبها"، مستذكرة، أنه قبل يومين من استشهاد إيمان تقابلت الصديقتان وسط مدينة غزة، في انتظار صديقات أخريات.
في غضون يومين عانقت "آية" صديقتها مرتين، وفي المرتين بكت بشدة، في واحد حملت إيمان بعينين متفتحتين بعضًا من دموع صديقتها وأوجاعها عندما ضمتها بحنان الأم والصديقة والرفيقة، وفي الثاني تساقطت دموع الفراق على جثمان إيمان وهي داخل الكفن بعينين مغلقتين، وهذه المرة تركت "آية" تحمل أوجاعها بنفسها، تبكي بحرقة.
بقلب يلسعه الفقد، تحكي عن اللقاء الأخير بينهن "احتضنتها، ثم سكتت، للمرة الأولى أجدها متعبة مرهقة، قالت بالحرف: "أنا تعبانة يا آية، مستوحشة، كتير تعبانة" بكت وحاولت تغيير مزاجها ببعض المزاح، أحضرت لها كوب قهوة وقطعة وشوكولاته، تحدثنا قليلا ثم افترقنا، لأرى إيمان في كفنها بعد يومين فقط".
الإعلامية المبدعة
لم تكن إيمان الشطني، إعلامية عادية، فتميزت ببرامجها المرئية والتي روت خلالها حكايات وأحداثا فلسطينية، واكبت صديقتها ذلك عن قرب "إيمان إنسانة مثقفة جدًا، ملمة بشيء عن كل شيء، وهذه شهادتي فيها منذ زمن، تتقن القراءة بشغف، تحفظ ما تقرؤه، تشاهد برامج وأفلام ووثائقيات، تختار ما تشاهده بعناية، بدأت عملها بإعداد البرامج، كانت تنتقي مواضيعها بإتقان واهتمام، نوعية وليست تقليدية".
حاولت إيمان العمل في مجالات إعلامية كثيرة، قدمت برامج مرئية من إعدادها، و"كانت من أنجح حلقات السوشيال ميديا، قدمت برامج إذاعية اجتماعية ناجحة جدا، تميزت بشبكة علاقات داخل وخارج فلسطين، أحبت الناس، وأحبت نجاحهم، تمنت الخير كل من تعرفه ولم تحمل في قلبها لأحد من زملائها ضغينة أو حسد" والكلام لصديقتها.
"معقول أنه لساتنا عايشين لحتى الآن، الله يرحم الشهداء" فصلت أقل من ساعة بين منشور إيمان، الذي حمل في طياته استغرابًا من نجاتها، رغم أن القصف والمجازر ترتكب في محيطها السكني، وبين استشهادها وكأن القلب أرسل استشعارات مخاوف بقرب الرحيل، لتلتحق مع زوجها وطفليها بقوافل الشهداء.
في ساحة المشفى وضعت إيمان في كفن أبيض امتزج بلون دمائها، التي واصلت قطرات من الدم النزيف من رأسها على الأرض، مكونة بقعة دماء، تروي الوطن من دمائها كما روته بانتمائها وحبها، تشبثت ببيتها الذي كان وطنها، رفضت الخروج منه وكلما نزحت لاقتراب الخطر منه، كانت تسارع للعودة إليه.
عانت إيمان من التشرد والتجويع وويلات الحرب، وهذا كله تقاسمته آية التي بقيت في غزة معها أيضًا، فتقول "آثرت إيمان أن تبقى في بيتها بشمال مدينة غزة، رغم أنها الوحيدة من عائلتها المتبقية هنا، فجزء منهم خارج القطاع، وجزء نزح لجنوب القطاع، كانت وحيدة من غيرهم، تعرضت للتجويع هي وأطفالها وهي المعروفة مسبقًا، بأطباقها الصحية وأصنافها الأنيقة والغريبة، كانت تتمنى أن تعاود تذوق الكثير من الأشياء التي حرمنا منها وكنا نتذكرها في جمعاتنا".
نزحت إيمان من بيتها عدة مرات، ثم عادت إليه ورغم خطورة المنطقة التي تسكنها، لم تخرج منه إلا شهيدة، بعدما رفضت الخروج منه ومن مدينة غزة مهما كان الثمن، تحملت الخوف وأصوات الرصاص والقصف والاشتباكات والدمار الذي افترش كل جزء من منطقتها، التي غادرها معظم سكانها حتى بقيت هي وعائلتها في عمارة شبه مهجرة، وكانت تقول: "خليهم كلهم يطلعوا، وراح أبقى أنا وأولادي نحمي البيت من الحرامية"، وكانت تعلق على فراغ الحي، بنبرة مزاح: "صارت حارة بنت الشنطي".
مما لا يفارق ذاكرة آية، لحظة استشهاد زوجها أسامة جنينه قبل ثلاث سنوات، كانت إيمان أول من واساها وأكثر صديقاتها اللواتي ألحوا عليها باستعادة العافية والقوة رغم الفقد الكبير، لا تنسى كيف كانت تحاول إدخال البهجة عليها بأي طريقة، يطل صوتها القادم من نوافذ الذاكرة: "اضحكي يا آية، مش لايق عليك الحزن" ترسل الرسائل النصية، تعلق على كل منشور أكتبه".
آية التي لم يجف قلمها في تجسيد حالة حزنها، والتعبير عن آهات ذوي الشهداء، عن قسوة الفقد، وعن جرم المحتل، كان كله محض ثناء وتشجيع كبير من إيمان على المواصلة والإبداع، تنفث الحزن عن جمرات الذاكرة يمر صوت صديقتها على حديثها: "كلما رأتني إيمان كانت تقول: "اكتبي يا آية، فش حد بيكتب زيك، احنا بنقوى فيك، وبكلامك".
"بعدما غابت إيمان فجأة لا أستطيع إخبارها، بأنني أكتب الآن، لكنها للمرة الأولى التي لا تقرأ، أكتب ليقرأ الناس عنها، ولا تقرأ هي" تبكي آية ولا تمسح صديقتها دموعها.