رام الله - خاص قدس الإخبارية: "اليوم التالي سيكون حافلاً بالحديث مع الضيفة والترتيب لمكان مُناسب في رام الله، وتنسيق الحركة مع المُصوّر، وحزم العدّة، أمور كثيرة عليّ استدراكها ومُتابعتها. سأكلّمك لاحقاً، سلام.. نعم نؤجّل طلعتنا أفضل، أجل.. أجل.. سلام، سلام".
"لماذا قد نرفضُ النّجاةَ من مركبٍ يغرق؟" (Enter). الآن صار بالإمكان منح "الكيبورد" هُدنة من النقر فوق أزراره، صار العنوان جاهزاً، والأسئلة كذلك، كُلّ شيء؛ الأسئلة.. الضيفة.. "المداخلات الذكيّة".. الإسقاطات التي تُعالج قضية انتماء النّاس للأحزاب حتى لو ضيّع هذا الحزب أو ذاك الغاية التي خُلق من أجلها، كُلّ شيء جاهز، حتّى عيوني الذابلة صارت جاهزة للنوم.
في الوقت الذي كُنتُ أتساءل فيه "لماذا قد نرفضُ النّجاةَ من مركبٍ يغرق؟" وأثير هذا التساؤل أمام طلبتي خلال تجربة التدريس في الجامعة كتجربة اجتماعية، قبل أن أنقل هذا التساؤل إلى عنوان لحلقة بودكاست، اتضّح في صبيحة اليوم التالي من إعداد الأسئلة، أنّ ثمّة مَن كان يصنع سفينته طيلة الأعوام الأخيرة استعداداً لِـ "الطوفان" الهادر.
أذكر صبيحة ذلك اليوم وما تلاها من أيام، مزقتُ حينها ورقةَ الأسئلة بأسى وغضب، لأنّنا غرقنا، أدركت وقتها أنّنا لم نكن قد هيّأنا أنّفسنا لركوب السفينة، أو بالأحرى حُرمنا من ذلك في بقية المناطق، هكذا قُلت لنفسي، وهكذا ظللت أقول حتّى بعد مرور تلك الأيام التي تجاوزت الأربع مئة.
قُصِفَ مكتبُ "شبكة قدس الإخبارية" واستُشهد لنا زملاء إعلاميين في الأيام الأولى من الحرب على غزّة، ماذا عسانا أن نصنع؟ مرّ أوّل شهرين، "شو الي عمله فينا السابع من أكتوبر؟"، تواصلت مع الإدارة في الشبكة واقترحت العنوان كمحاولة لفهم أنفسنا وما طرأ علينا من صدمة وشلّ تفاعلنا في الضفة الغربية وفلسطين عموماً. "سلامات رفيق، كيفك؟ بدي أعمل حلقة هذه الأيام؟ شو رأيك؟"، لم يكن الأمر مُمكناً، نزح فريق العمل الذي أعمل معه، وصار عُمَر الذي تبلورت فكرة البودكاست بنقاشاتي معه يحمل خيمته وأسرته على ظهره وينتقل بها من مكان لآخر هرباً من القصف، و"الخيمة" تعبير مجازي، إذ في كثير من الأحيان لم تكن تتوفّر أصلاً.
ما جدوى ما نصنع؟
كان كُلّ ما جرى غداة الإعداد للحلقة الثانية من "بودكاست جديد" التابع لشبكة قدس، البودكاست الذي اتّفقنا أنّ مضمونه سيحمل شيئاً من عُنوانه المُبْتَدَع ليكون إشارياً مُبْهَماً، نبحث عن ضيوف غير مُستَهلَكين إعلامياً، أو نُثير قصّة وقضيّة (ثقافية، سياسية، تاريخية، فلسفية) من زاوية طرح جديدة.
كُنّا في تلك الأيام، لا نزال نخطو البداية في الانتقال بصناعة البودكاست من الصوتي المَسموع إلى المُصَوَّر، بعد قناعة أتت عن ملاحظة بأنّ جمهورنا العربي وضمنه الفلسطيني ثقافته بصرية أكثر من أنّها سماعية، كُنت على مدار ثلاثة أعوام سابقة أعكف على حوالي خمسة أشكال من البرامج صناعةً وإخراجاً وإشرافاً، أُدير القسم بالشبكة وأُنتج برامجه في الوقت ذاته. أنتجنا أشكالاً عدّة: (دراما وثائقية، سرد واقعي، بودكاست إخباري، مزج، منولوج..)، وكُلّ تعب السنين تلك، المجبولة بالأعصاب والدموع، ضاع في الشهر الثاني من الحرب، بِحَظْرٍ دون إخطار مسبوق لقنواتنا على (ساوندكلاود، وآبل بودكاست، وجوجل بودكاست).
بعد نصف سنة على معركة الطوفان، تدبّر زملاؤنا أمرهم من جديد، وعُدنا نستأنف العمل، والعمل يسير كالتالي:
أنطلق أنا (المُقدّم، وفنّي الصوت) بعدّة التسجيل الصوتي الشخصية، رفقة خليل (يشغل مكان مصوّرين، ومهمّة الشوفير، وفنّي الأشياء الأخرى)، إلى مكان التصوير الذي يستغرق في الطريق والإيقاف على الحواجز بالحدّ المتوسّط خمس ساعات ذهاباً وإياباً (ركّز/ي أنّني قلت بالحدّ المتوسّط)، نوضّب المكان سوياً، أنا أُركّب عدّتي الصوتية، وهو ينصب كاميراته ويهيئ المكان، ونستغرق ساعةً أخرى. أجلس قُبالة الضيف الذي يصل المكان أيضاً مُنهَكاً، يُعطي خليل إشارة البدء، وأصطنع أنا الراحة أمام العدسة بأنفاس مُتقطّعة وذهنٍ مُثْخَن.
ما معنى أن تصنع بودكاست في فلسطين؟
تؤرّقني التفاصيل المهنية مثلما تفعل الأحداث وواقع الحياة اليومية المريرة بنا، لدي ملاحظات تطويرية، وأخرى تغيب عنّي وأنا منشغل في تطبيق أخرى، أغبط برامج بودكاست انطلقت من خارج فلسطين في اليوم الثاني من "الطوفان" واستثمرت حاجة النّاس للحديث وسماع كلام معمّق وجريء، في وقت يتحاشى عدد من ضيوفنا ويعتذر عن الخروج بسبب الوضع السياسي والأمني الراهن، وتؤرّقني المُقارنة المُستمرّة بالقول "إنّ البودكاست الفُلاني يُحلّق أمام أُفول بودكاستات أُخرى"، نعم، ثمّة برامج بودكاست ناجحة تُحلّق في الخارج، وثمّة مَن التبس عليهم الفهم في فلسطين بمواكبة هذه المهنة من باب التريند، وثمّة مَن لا يزال لا يُدرك الشعرة التي تفصل بين الثرثرة أمام المايك وبين حديث البودكاست، وأخرى.
بالأمس، وصلنا الحلقة العاشرة بعد مرور عامٍ كامل على انطلاق أوّل حلقة (أُهدر نصفه لظروف الحرب)، وقد وضعت خطّة لتكثيف وتيرة إنتاج الحلقات وتجاوزت جملة تحدّيات بالتعاون مع مراكز توفّر لنا أماكن للتصوير، أُرْسِل كالمعتاد لِـ عُمر، مدير الإنتاج، أسأله عن حال حلقتنا المتأخّرة، ليجيب: "فقدنا الاتصال بزميلنا أنس (المونتير)، فش إنترنت في الشمال (شمال غزّة)"، ويرّد عليّ بعد جوابه، بالسؤال كالمعتاد عن حال الحلقة القادمة، وأجيب:
"اعتذر الضيف، وأحضّر لموضوع آخر".