ولدت قضية فلسطين من وسط تغييرات عالمية، في أوج الهجمة الاستعمارية على المنطقة، ومع نهايات الدولة العثمانية التي انهارت في الحرب العالمية الأولى، وتقاسمت الدول الاستعمارية المناطق التي كانت تمتد في إطار ولايتها، ومع ظهور المشروع الصهيوني الذي عرف الحياة في رعاية الدول الغربية الطامعة إلى إدامة السيطرة على الدول العربية والإسلامية.
قضية فلسطين… ولادة في صراع عالمي
حملت القضية الفلسطينية منذ بدايات القرن الماضي، مع صعود المطامع الصهيونية التي حظيت بعد سنوات بالرعاية البريطانية، صفة العالمية باشتباكها هذا في منطقة تطمح القوى الاستعمارية بالسيطرة عليها، ونهب مواردها، ومنع تكوين مسار سياسي استقلالي فيها، هذا والحركة الصهيونية التي بنت مشروعها النهائي على احتلال فلسطين وإحلال مستوطنين مكان أهلها، هي بنت القوى العظمى في ذلك الزمان، وجاءت تحمل مشروعا استراتيجياً لتقسيم المنطقة العربية والإسلامية، وفي الوقت ذاته كانت المأساة الفلسطينية متزامنة مع مرحلة من الاستعمار العسكري القاسي الذي فرضته القوى الغربية على كثير من دول آسيا وإفريقيا والعالم، مع صعود في فكر التحرر والاستقلال وحركات التحرير الوطنية، بالإضافة لموقعها الجغرافي والديني التاريخي المهم.
لم تكن الحركة الصهيونية وحيدة في مشروعها لاحتلال فلسطين، ونمت وأقامت مؤسسات ومشاريع سياسية واقتصادية وامتلكت السلاح وأحضرت المستوطنين، برعاية سلطات الاحتلال البريطاني، وفي حرب النكبة كان يحتل فلسطين نحو 90 ألف جندي بريطاني قبل أن ينسحبوا ويمنحوا المناطق التي كانوا يحتلونها للقوات الصهيونية، وفي المقابل كانت القضية الفلسطينية في صدارة الهموم للشعوب العربية والإسلامية، خلال فترة النضال للتحرر من الاستعمار الغربي، وكانت الثورات العربية في فلسطين شاهدة على مشاركة عربية وإسلامية في عمليات تهريب السلاح والتدريب والقتال المباشر، وفي الوقت ذاته كان ضياع فلسطين جزء من الانهيار العربي والإسلامي واستحكام حالة سياسية تابعة للدول الاستعمارية لم تقدم على مشروع يمنع تهجير وتدمير الشعب الفلسطيني وإقامة دولة "إسرائيل".
قرار قيام دولة "إسرائيل" على أنقاض الشعب الفلسطيني كان في الواقع من المنظومة الدولية التي ما زالت تسيطر على العالم، حتى اليوم، بعد الحرب العالمية الثانية، وهي من أشرفت على قيام النظام الدولي الحالي، وبعد بريطانيا أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الرسمي للمشروع الصهيوني، وصار بقاء "إسرائيل" جزء استراتيجياً من منظومة الأمن القومي الأمريكي، حتى وصلنا إلى مراحل تدير فيها الإدارة الأمريكية حرب الإبادة الجماعية في غزة ولبنان، كما استمرت فلسطين قضية عربية ضمن موجة التغييرات التي أصابت المنطقة، في الخمسينات والستينات، مع الانقلابات العسكرية وصعود الحركات القومية واليسارية، والتقلبات الأيدلوجية التي كانت كلها تدور حول شعار الاستقلال والتحرر وتتلمس طريقاً لإنهاء النكبة العربية التي قادت إلى ضياع فلسطين، وبين أفكار هل تتحرر فلسطين بعد وحدة عربية أم أن تحريرها يقود إلى هدف الوحدة، كانت القضية مركزية في الحراك العربي والإسلامي الهائل الذي كانت الأزمة التي برز ضياع فلسطين التجلي الأكبر لها محركاً كبيراً له.
فلسطين في زمن الثورة العالمية
صعود حركة التحرر الوطني الفلسطينية، في مرحلة الستينات، خاصة عقب هزيمة 1967 الكارثة التي كانت فيها فرصة لصعود فصائل الثورة الفلسطينية التي سيطرت لاحقاً على منظمة التحرير، تزامن مع مرحلة كانت الحركات الثورية المحسوبة على أيدلوجيات معادية للاستعمار والإمبريالية والولايات المتحدة الأمريكية تكتسب حضوراً واسعاً في العالم، حتى في أوروبا، وهذا منح القوى الفلسطينية مساحة من الحركة العالمية والتنسيق مع هذه القوى لتنفيذ ضربات لأهداف ومصالح إسرائيلية وأمريكية وغربية في العالم.
منحت الظروف العالمية في تلك السنوات الثورة الفلسطينية فرصة استراتيجية لإقامة علاقات مع قوى ودول متعددة، في العالم، من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا ودول أوروبا الشرقية وفي آسيا، في ظل انتشار قوى اليسار العالمي، ووجود الاتحاد السوفياتي الذي كان يمثل قطباً عالمياً كبيراً في وجه الولايات المتحدة الأمريكية، وانتظام كثير من الأيدلوجيات في العالم حينها حول فكرة التحرر والاستقلال الوطني من الاستعمار وبناء عالم العدالة الذي يقوم في الأساس منه على فك هيمنة القوى الاستعمارية عن شعوب "العالم الثالث" أو دول الجنوب العالمي، وحضرت فلسطين بقوة في هذه الأفكار التي تعاطت مع الكفاح ضد الحركة الصهيونية في سياق النضال العالمي، ووسط هذا الحراك الثوري العالمي الذي كانت الثورة الفلسطينية مكوناً أساسياً منه، كانت دولة الاحتلال تمد أيديها عالمياً أيضاً، مع رعاتها في الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية، وفي مساعي فتح علاقات مع دول في إفريقيا وآسيا والمنطقة، وتقديم الدعم الأمني والاستخباراتي والعسكري لقوى مختلفة كانت ترى أنها قد تساعدها في ضرب الدول العربية والإسلامية وإدامة حالة الانقسام فيها ومنع تشكل وحدة قد تشكل تهديداً استراتيجياً عليها، هذا مع الانتشار الأمني والتجسسي لأجهزتها في العالم التي كانت تلاحق القوى الفلسطينية والعربية التي تعمل ضدها في الخارج.
وأقامت فصائل الثورة الفلسطينية علاقات عميقة ومتشابكة مع قوى ثورية في العالم، كانت تؤمن بما يسمى "العنف الثوري"، كما في تجربة الشهيد وديع حداد الذي أمسك بملف العمل الخارجي في الجبهة الشعبية، وكان لحركة فتح وتنظيم "أيلول الأسود" وبقية الفصائل الفلسطينية تجاربها هي الأخرى في اجتذاب كوادر وعناصر عالمية تؤمن بالثورة وفلسطين، للعمل معها في سياق نشاطها في ملاحقة المصالح الإسرائيلية في العالم، وفي إطار توفير الدعم والسلاح والتجارب وإقامة الممثليات السياسية.
هذا وكانت الثورة الفلسطينية مركزاً لجذب المعارضين والنشطاء الثوريين من العالم، وكان لكثير من المناضلين من دول مختلفة تجارب مباشرة في الفصائل الفلسطينية، وكان لكوادر وقيادات رئيسية في ثورات عالمية علاقات مع الفصائل الفلسطينية، وتلقى عدد منهم تدريبات في معسكراتها، كما في حالة الثورة الإيرانية التي تدرب عديد من قياداتها والكوادر الرئيسية في أجهزة الدولة بعد إسقاط الشاه مع الفلسطينيين وأقاموا علاقات مع قيادات فلسطينية مثل الشهيد خليل الوزير أبو جهاد.
محاولة قطع الطريق على فلسطين في العالم
مرحلة التسعينات عرفت انقلاباً عالمياً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية المطلقة على النظام الدولي، واتجاه النظام العربي نحو فتح باب التسوية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي مشرعاً على إطلاقه، بعد سنوات من خروج مصر القوة الرئيسية في المنطقة العربية من الصراع، واندفاع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نحو فتح مفاوضات مع "إسرائيل".
تراجعت حركة التضامن والدعم العالمية للقضية الفلسطينية مع هذه التطورات، وتحول الخطاب الرسمي الفلسطيني من كفاح تحرري لتحقيق إزالة المشروع الاستعماري الصهيوني، وإقامة كيان تحرري على كامل تراب فلسطين، إلى مشروع إقامة "دولة" واقتصاد سياسي هندسته الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية التي رعت مشروع "حل دولتين"، يضمن بقاء الفلسطينيين في حلبة الصراع على لقمة العيش دون الاهتمام السياسي.
وشهد العالم أيضاً تراجع في الخطاب الثوري والسياسي الذي ينشد العدالة العالمية، إلى حراكات مطلبية تسعى إلى تحقيق أهداف تتعلق بالاقتصاد أو الحقوق الفردية والخطابات الليبرالية، ورغم هذه التراجعات فقد بنت حركات المقاومة الإسلامية التي تصدرت حركة النضال الفلسطيني بعد دخول التيار المسيطر على منظمة التحرير في مسار التسوية مع الاحتلال، خطاباً يخاطب الأمة العربية والإسلامية حول فلسطين التي تمثل جوهر الصراع في المنطقة من أجل التحرر والاستقلال والتخلص من الأزمة التاريخية المستحكمة التي تعيق التنمية العربية، كما في فكر الشهيد فتحي الشقاقي، وبقيت فلسطين مؤثرة في حاضر العرب والمسلمين حتى في أفكار الحركات الجهادية التي صعدت منذ التسعينات، وهذا عبَر عنه منظرو هذا التيار مثل الشيخ أسامة بن لادن وغيره، بالإضافة في الحركات الاجتماعية والسياسية في دول مختلفة في المنطقة، كما في حالة مصر، التي تناغم الحراك السياسي المعارض فيها وتصاعد خلال فترة انتفاضة الأقصى، وتقرأ عدة دراسات حركة الثورات العربية انطلاقاً من 2011 بتأثير من الانتفاضة الفلسطينية والغضب الكامن على تسليم الأنظمة العربية بقتل الشعب الفلسطيني واستمرار العدوان الإسرائيلي والتعاون الخفي والعلني مع دولة الاحتلال.
طوفان الأقصى… الفرصة الاستراتيجية
حضرت معركة "طوفان الأقصى" كتعبير استراتيجي عن إرادة المقاومة الفلسطينية لتحطيم كل المشاريع الإسرائيلية، لعزل القضية الفلسطينية وتثبيت وجود "إسرائيل" في المنطقة العربية والإسلامية حاكمة عليها، بعد السيطرة على كامل فلسطين من البحر والنهر، في الوقت الذي حطمت حكومة الاحتلال مشروع "حل الدولتين" من الواقع نهائياً، وكان في العقل العسكري والسياسي الذي أدار المعركة رؤية لمواجهة شاملة في الإقليم والعالم مع المشروع الاستعماري الصهيوني يعيد قضية فلسطين في قلب الاهتمام العالمي.
في السنوات الماضية، استغلت القوى المعادية للمقاومة الفلسطينية الظروف التي خلقتها الثورات العربية لإشاعة خطاب حول عزل فلسطين عن الاهتمام العربي والإسلامي للمجتمعات التي حافظت في الغالب على أن تضع القضية الفلسطينية إلى جانب قضاياها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحارقة، وربطت بين أي تقدم وتحرر لدولها من الفقر والاستعمار والديكتاتورية مع تحرر فلسطين، كما أن دولة الاحتلال والإدارة الأمريكية نجحت في إقامة مشاريع تطبيعية مع أنظمة عربية، لكنها فشلت في الوقت ذاته في اختراق داخل المجتمعات والشعوب.
وتزامنت المعركة مع فشل دبلوماسي فلسطيني رسمي، في العالم، تزامناً مع تصدر قوى غير رسمية أو حكومية حملة التعريف بالقضية الفلسطينية والدعوة لمقاطعة دولة الاحتلال، وفجَرت جرائم الاحتلال التي وصلت إلى حد الإبادة الجماعية باعتراف منظمات دولية وحقوقية مختلفة، حراكاً عالمياً كان في قلب الدول التي ترعى حرب الإبادة الإسرائيلية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ومختلف دول أوروبا، في الوقت الذي كانت كثير من المجتمعات العربية والإسلامية غير قادرة على التحرك لنصرة فلسطين، بعد أن جرفت الأنظمة الحركات السياسية والشعبية فيها، وقمعت أي حراك قد يقود إلى سياسات تؤثر على المعركة في غزة.
انطلق الحراك في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا من جامعات تمثل النخبة السياسية والفكرية، في هذه المجتمعات، ورغم الاختلافات بين أيدلوجيات المنخرطين في التظاهرات الداعية لقطع العلاقات الأكاديمية والاقتصادية مع دولة الاحتلال، إلا أن شعار "فلسطين من البحر إلى النهر" كان حاضراً فيها مع رموز المقاومة الفلسطينية.
هذا وقد شهدت المعركة تطوراً كبيراً هو دخول جبهات مختلفة فيها آن واحد، بعد أن انخرط حزب الله والمقاومة اللبنانية في القتال بعد يوم من عملية "طوفان الأقصى"، ثم انضمام اليمن والمقاومة الإسلامية في العراق، ثم انخراط إيران بشكل أكبر رداً على الاعتداءات الإسرائيلية عليها، تزامناً مع تظاهرات في دول عربية وإسلامية، كما في حالة الأردن الذي سجل عمليات فدائية انطلقت من أراضيه، والمغرب وغيرها.
تقول ليلة المواجهات في أمستردام التي اندلعت في مواجهة مستوطنين قدموا مع فريق "مكابي تل أبيب" مزقوا الأعلام الفلسطينية وأطلقوا أناشيد الإبادة الجماعية ضد العرب، أن الحراك العالمي الذي فجرته معركة "طوفان الأقصى"، أعاد لفلسطين أهميتها الدولية والعالمية، وأحيا الفعل المادي المباشر في مواجهة المنظومات الاستعمارية.
ورغم أن فلسطين لم تتوقف عن كونها قضية متشابكة بالظروف الدولية والعالمية، إذ أن مشاريع التسوية والتصفية كانت برعاية أمريكية وغربية، والهجوم على المقاومة الفلسطينية اشتركت فيه دول عربية مطبعة، وحتى الحرب الاستخباراتية على المقاومة اللبنانية وحزب الله كانت بالاشتراك مع عديد الدول العربية والغربية وأهمها استخبارات الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن تراجع الاهتمام الشعبي كان ظاهراً خلال سنوات ماضية، وفي شهور معركة "طوفان الأقصى" استشهد عدد من الفدائيين القادمين من كندا والعراق واليمن ولبنان وتركيا وغيرها في مختلف جبهات القتال من أجل فلسطين.
هذا ومما يجب التأكيد عليه أن هذا الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية قد يتراجع، في مراحل مقبلة، وإن كانت جرائم الاحتلال في فلسطين قد بنت عميقاً في نفوس كثير من المجتمعات، إلا أن التجربة الفلسطينية التاريخية تقول إن العواطف لا تبقى طويلاً في ميدان الحراك الجماهيري، إذا لم يبنى عليها تنظيمياً ومؤسساتياً في سياق عمل طويل الأمد لاستثمار الحراك العالمي لصالح القضية الفلسطينية، وهذا يلقي واجباً كبيراً على الحركات الشعبية والاجتماعية والسياسية الداعمة للشعب الفلسطيني، والجاليات العربية والإسلامية، والقوى الفلسطينية المختلفة.
تواجه حركة المقاومة الفلسطينية التي تقود النضال الفلسطيني، بعد تراجع منظمة التحرير، ظروفاً قاسية ومعقدة أكثر من الزمن الذي كانت الحركة الفلسطينية في الستينات والسبعينات والثمانينات تنشط فيه، إذ أن العالم حالياً تسيطر عليه في الغالب الولايات المتحدة الأمريكية، والحركات التقدمية والثورية لا تحكم دولاً ومجتمعات كاملة كما في تلك العقود، لكن في الوقت ذاته فإن فرصاً تاريخياً انفتحت أمامها خاصة مع وجود قوى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وشخصيات حتى داخل المؤسسات الدولية، تؤمن بأن دولة الاحتلال تمارس إبادة جماعية بحق الفلسطينيين وتدعو إلى تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
تكتسب الحرب اليوم أبعاداً معقدة لا تتوقف عند العمل العسكري المباشر، وجزء منها في ضمان دعم العالم، وهذا ما تعمل عليه دولة الاحتلال من خلال أجهزتها المختلفة، وبينها الدعائي والسياسي والدبلوماسي، وتستخدم خطابات مختلفة بينها "معاداة السامية" لقمع الحراكات المؤيدة للفلسطينيين، ولكن اتساع وسائل الإعلام خاصة في زمن وسائل التواصل الاجتماعي المتحررة من قيود الأنظمة الموالية لـ"إسرائيل"، منح الفلسطيني قدرة على إيصال صوته، وهذا يضع مسؤولية أخرى على القوى المؤيدة له لتنظيم أدوات مواجهة متعددة تأخذ في الاعتبار مواجهة الرواية الإسرائيلية، ومنع الاحتلال من كسب ما يسميها "الشرعية الدولية" لاستمرار حرب الإبادة الجماعية وارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين.