غزة - خاص قدس الإخبارية: في مقابلة مع صحيفة "هآرتس"، في أوج انتفاضة الأقصى، قال رئيس حكومة الاحتلال السابق أرئيل شارون إن الطريقة المفضلة لديه لوقف عمليات إطلاق النار التي كانت تستنزف مستوطنة "جيلو" بين القدس المحتلة وبيت لحم، هي بهدم منازل بيت جالا، ورداً على سؤال المحاور حول جدوى هذه الخطوة، قال: "أنا أعرف العرب جيداً إنهم لا يأبهون كثيراً بالأباتشي أو الصواريخ ما يهمهم حقاً هو منازلهم".
يعبر أرئيل شارون أحد أكثر الجنرالات والسياسيين في تاريخ دولة الاحتلال الذين خاضوا حروباً ومواجهات مع العرب والفلسطينيين، عن عقلية استعمارية ترى في تدمير الوجود المادي والرمزي للفلسطينيين وسيلة في الضغط لسلبهم الحرية والاستقرار وإدخالهم في استنزاف دائم يسهل تنفيذ مشاريع التهجير والقضم العمراني والأرضي الذي هو جوهر المشروع الاستعماري الصهيوني الذي يرى في الحرب هي حرب على الأرض في البنية الأولية.
بعد أكثر من عام على حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، عاد الاحتلال بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر الحالي إلى شن عملية عدوانية على بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا ومخيم جباليا وجباليا النزلة ومناطق مختلفة من الشمال، هدفها هو تدمير هذه المناطق بما يدفع الصامدين فيها الذين بقوا تحت القصف وبين المجازر والركام ورغم حرب التجويع، إلى النزوح عنها نحو مناطق جنوب غزة. اختلفت التقديرات والتحليلات حول هل يطبق الاحتلال خطة "الجنرالات" التي أطلقها أساساً الجنرال غيورا آيلاند الذي لا يخفي أمام العالم أن الإجرام هو وسيلة سياسية مشروعة، أو هو عملية أخرى في سياق الحرب التي لا يبدو لها نهاية حتى الآن. لكن هذا الاختلاف لا يغير من حقيقة أن الاحتلال لا يترك فرصة لتدمير الحياة الفلسطينية.
استخدم الاحتلال في هذه العملية العدوانية وسائل مختلفة لتدمير ما تبقى من مبان ومنازل، فجرها عن طريق البراميل، و"الروبوتات" المفخخة، والقصف المدفعي ومن الجو والبحر، ومسح في أيام مساحات واسعة من شمال غزة، وبالتوازي هاجم مراكز الإيواء التي هي مدارس تابعة لوكالة "الأونروا"، وقتل وأصاب مئات الأطفال والنساء والمدنيين، للضغط عليهم من أجل الرحيل عن هذه المناطق.
وهو حال لم يختلف عن باقي مناطق قطاع غزة التي تعرضت لزحف تدميري طال الجامعات، والمدارس، والمساجد، ومراكز الإيواء، والمنازل، والمنشآت الحكومية، والبنية التحتية، وتشير تقديرات جهاز الإحصاء الفلسطيني التي أصدرها في 6 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي إلى أن الاحتلال دمر نحو 297,000 وحدة سكنية منذ بداية حرب الإبادة الجماعية.
تتجاوز قيمة المنزل في حياة الناس عامة والفلسطيني والعربي أو الشرقي خاصة، المكان الذي يعيش فيه ويأكل ويشرب وينام ويمارس مختلف طقوس الحياة، بل تتلبسه أبعاد اجتماعية ونفسية وشعورية متداخلة، تجعل من تدمير البيت يماثل أحياناً قتل حياة كاملة فيها الذكريات والأحلام وشقاء العمر في مجتمعات تعيش ضنك العيش بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
يمثل بناء بيت في الضفة المحتلة وقطاع غزة وفلسطين عامة استنزافاً اقتصادياً لمعظم العائلات، خاصة تلك التي تعيش في الطبقة الوسطى والفقيرة، قد يكلف بناء منزل عادي بمساحة متوسطة أكثر من 200 ألف شاقل، وشراء بيت في بعض المناطق قد يحتاج إلى أكثر من هذا المبلغ، وبالنظر إلى معدل الرواتب العام المنخفض خاصة للموظفين وأبناء الطبقة الوسطى بشكل عام، فإن إقامة بيت أو شرائه يحتاج إلى سنوات طويلة من الالتزامات التي قد تؤثر على بقية مستلزمات الحياة، هذا وامتلاك قطعة أرض صعب على فئات مختلفة من الفلسطينيين نظراً إلى غلاء أسعارها ومصادرة الاحتلال مساحات واسعة منها، بالإضافة إلى أن نسبة منهم تعيش في مخيمات اللاجئين التي لا أفق لبناء بيت مستقل فيها أو يملك خصائص الرفاهية فيه مثل أرض حوله أو مكان للعب الأطفال.
في مخيلتنا جميعاً ويومياتنا مشهد الأم أو الجدة وهي تمشي أمام البيت أو حوله، في جولة زراعة أو اطمئنان على مزروعاتها اللواتي يحظين بدلال الأبناء أو الأحفاد، وفي داخل منزلها حيث كل زاوية لها قصة أو سبب لشكل ترتيب قطعة الأثاث أو القماش المطرز، والمطبخ قصة لوحده أنواع البهارات مرتبة بتنظيم دقيق، الأدوات، الصحون، ذكريات تراكمت لسنين، كل شيء له قيمة حياة اجتماعية، يأتي الصاروخ أو الجرافة أو البرميل المتفجر بقرار من ضابط في لحظة أو دقيقة في أقصى تقدير ليحيله إلى ركام.
"البيت أكبر من جدران" تكررت هذه العبارة على لسان آلاف الفلسطينيين منذ بداية الحرب، وكأن اتفاقاً ما جرى على أنها قانون يعبر عن القهر الذي يعيشونه بعد تدمير الاحتلال لمنازلهم، وبعضهم أعلن ندمه الشديد أنه لم يصور كل تفصيلة فيه كي يعود إليها في ساعات أو ليالي الحنين حين يشتد بالقلب.
يعلم الاحتلال كل هذه القيم الاقتصادية والمادية والاجتماعية والنفسية للبيت في حياة الفلسطيني، ويعمل على الضغط عليه منها، مع ما للتدمير من أسباب سياسية تتعلق بالتهجير وتوسيع مساحة الاستيطان، وفي مشاهد استباحة البيوت التي ينفذها الضباط والجنود الذين يدخلون إليها ويجلسون مكان أصحابها وينتهكون كل تفصيلة فيها أسباب أخرى لقهر الفلسطيني.
وسياسة هدم البيوت الفلسطينية لم تبدأ مع الاحتلال الإسرائيلي، فهي كما بقية السياسات الاستعمارية ورثتها من الاحتلال البريطاني، الذي استخدم تفجير المنازل في سياق حربه على الثورة الفلسطينية، وواصلت "إسرائيل" على هذا المنوال تدمير بيوت الفدائيين الفلسطينيين والاسرى بهدف خلق ضغط واستنزاف للقاعدة الاجتماعية للمقاومة.
ومنذ بداية الحرب طبق الاحتلال سياسة تدمير البيوت على نطاق واسع، في مدن ومخيمات شمال الضفة المحتلة، بالإضافة للبنية التحتية والعمرانية، كما زاد من عمليات الهدم في بقية مناطق الضفة والقدس المحتلة والداخل.
وفي ذات السياق، دمر آلاف البيوت في القدس والضفة والداخل طوال عقود، باستخدام قوانين أصدرها من مختلف هيئاته التشريعية والقانونية، التي تحرم الفلسطيني من حق السكن أو امتلاك رخصة بناء بيت، وتدفعه إلى الرحيل عن المناطق المستهدفة بالاستيطان، إلى مناطق معزولة ومحاصرة، كما في تجربة بلدة كفر عقب شمال القدس المحتلة التي تحولت إلى أكثر المناطق عشوائية في فلسطين وربما في العالم، بعد أن اضطرت العائلات الفلسطينية في المدينة المحتلة إلى التوجه إليها للبناء بعد حرمانهم من امتلاك بيوت أو توسيع منازلهم أو إقامة مساكن في داخل المناطق التي أصبحت خلف الجدار.
ورغم الأثمان الباهظة التي يحملها الفلسطيني بعد تدمير منزله، إلا أن السياسة الاستعمارية لم تنجح في "كي الوعي"، ومنح الفلسطيني منزله للمطاردين والمقاومين، ودائماً ما كان "البيت فدا المقاومة والشهداء"، في الدلالة على أن قيمة البيت الكبيرة هي لا شيء أمام قيمة النضال الذي هو طريق للحرية التي هي تطهير للحياة من إجرام الاحتلال.