كشفت الضربات المتتالية التي وجهها الاحتلال ضد المقاومة اللبنانية عن خطة معدة مسبقاً قائمة على اختراق عميق وبحثٍ عن عناصر المفاجأة التكتيكية أمام غياب إمكانية المفاجأة الاستراتيجية في ظل الحرب التي فتحتها المقاومة أصلاً من جبهة لبنان منذ الثامن من أكتوبر 2023، وهذا يدفع بالضرورة لمحاولة فهم الهدف الصهيوني والأمريكي من هذا التصعيد، ويمكن هنا أن يقرأ هدفان أساسيان وهدف ثانوي:
الهدف الأول: وهو هدف الحد الأدنى، هو إجبار المقاومة على الخروج من الحرب وترك غزة والضفة الغربية لوحدهما في المشهد، بما يسمح بالتخلص من حالة الاستنزاف التي تشكلها والتفرغ للحسم على جبهتي الضفة الغربية وغزة، وهذا الهدف عبر عنه الصهاينة علناً بعد ضربة البيجر الأولى، ونقله الأمريكان للأطراف اللبنانية صراحة، وهو ما يرجح أنه ليس الهدف الحقيقي للتحرك العسكري الحالي، فمختلف الأطراف تدرك أن حرب المقاومة قائمة على منع الطرف الآخر من تحقيق أهدافه، وهو ما يجعل إعلان هذه الأهداف كفيلاً بإفشالها، وهو ما تم بالفعل في خطاب أمين عام حزب الله بإعلان قطعي بعد هذه الضربات بأن جبهة الإسناد اللبنانية لن تخرج من الحرب قبل الوصول لوقف العدوان على غزة.
الهدف الثاني: الذهاب نحو حرب يتحكم الاحتلال فيها بسلم التصعيد، بما يفقد المقاومة المبادرة، ويجرها إلى توسيع الحرب في ظل حالة من الضغط وفقدان المباغتة التكتيكية وفي ظل خرق الأمني لم يغلق أبوابه ولم تعالج آثاره، وبالتالي يجعل الاحتلال هو المتحكم بوقائع الحرب بشكلٍ يذهب بها إلى الحرب الشاملة السريعة، وهو ما سيضطر المقاومة اللبنانية في المحصلة للخروج من الجبهة بناء على وقائع حربها وبعيداً عن ما يحصل على جبهة قطاع غزة.
الهدف الثالث: هو تحقيق صورة النصر التي لم يتمكن الاحتلال من تحقيقها في غزة، وقد حصل عليها خمس مراتٍ حتى الآن في اغتيال الشهداء إسماعيل هنية وفؤاد شكر ثم في عملية البيجر واللاسلكي وأخيراً بعملية اغتيال قيادة فرقة الرضوان، غير أن هذا الهدف حتى يتحقق يتطلب القدرة على استدامته على جميع الجبهات باعتباره مشهد النهاية، ومع غياب هذه الإمكانية فإن هذا الهدف لا يغدو عن كونه تحقيق إنجازات معنوية مؤقتة، ويجعل الهدفين الأول والثاني هما المتعلقان بمصير الحرب.
انطلاقاً من ذلك يمكن القول بأن هدف العمليات الصهيونية المتتالية هو أن تجبر المقاومة اللبنانية على الخروج من المعركة إما بالردع أو بالحسم، وبما أنها قد يئست من إمكانية إخراجها من المعركة بالردع فقد اتخذته هدفاً تضليلياً معلناً لكنها في الغالب ذاهبة نحو محاولة إخراجه من المعركة بالحسم، أي بتصعيد كبير في الحرب يجبر جبهة لبنان على أن تنتهي بحساباتها لا بحسابات جبهة غزة.
في مقابل ذلك يواجه حزب الله ومن حوله من قوى المـ.ـقـ.ـاومة في لبنان تحدياً ثلاثياً: أولاُ في إدارة المعركة بما يحافظ على وحدة الساحات ويمنع إخراجها من المعركة إلا بوقف تام للعدوان الصهيوني على جبهة غزة باعتبارها قلب هذه الحرب، والثاني هو في التقدير الحقيقي لحجم الاختراق الأمني الصهيوني وتداعياته والعمل الحازم والمتأني على إغلاق بابه ومعالجة تداعياته لأنه مكن الصهاينة حتى الآن من اغتيال نخبة الصف الأول من القيادة وجزءاً من القيادات الصف الثالث الميدانية وصلاً إلى 400 عنصر تقريباً، علاوة عن محاولة هز الثقة وفرض انهيار إدراكي على المـ.ـقـ.ـاومة بضربات مباغتة كبيرة ومتتالية، والتحدي الثالث يكمن في توجيه ضربات تستعيد المبادرة والتوازن لكنها لا تسمح بنقل زمام المبادرة للاحتلال بما يجعله متحكماً في سلم التصعيد.
لا شك أن التحدي الثاني المتعلق بالاختراق الأمني هو التحدي المفاجئ والأكثر خطراً وإلحاحاً لمعالجته في المرحلة الحالية، لكن التحدي النهائي للحرب هو الأول: أن لا تخرج جبهات الإسناد من الحرب إلا بوقف شامل للعدوان عن غزة وعلى مبدأ وحدة الساحات، وهو المحك الفعلي لإحباط الإرادة الصهيونية والأمريكية ولتكريس معادلة استراتيجية جديدة في المنطقة. انطلاقاً من ذلك، يمكن تصور الاحتمالات التالية أمام المقاومة اللبنانية:
الاحتمال الأول: الذهاب نحو الحرب الشاملة وهو خيار إن وقع الآن فإنه يأتي في أسوأ الظروف منذ بداية الحرب، إذ أنه يأتي بعد تفرغ الاحتلال النسبي من جبهة غزة، وبعد ضربات كبيرة متتالية من الاحتلال وفي ظل اختراق أمني لم يجري تقدير حجمه ومعالجته بما يسمح عملياً بالاستفادة القصوى من تبعاته، ورغم أن هذا الخيار ربما يكون الأجدى في ظروفٍ أخرى، فإن منطق الحرب يفرض استبعاده في هذه المرحلة مهما كان حجم الضغوط الصهيونية والأمريكية للذهاب إليه.
الاحتمال الثاني: المحافظة على الوتيرة السابقة لجبهة الإسناد: أي بعمق متوسطه 15 كم يتجاوز إلى 20 كم أحياناً مع التركيز على المواقع العسكرية والتجهيزات التجسسية لتحقيق عمىً نسبي لدى الجيش الصهيوني مع الحفاظ على حجم التهجير الحالي الذي يعترف الاحتلال أنه في حدود 60 ألف مستوطن مهجر مع أن التقديرات الصحفية أن عدد المستوطنين المهجرين يصل إلى 100 ألفاً، وهذا الخيار قد يكون أسلم أمنياً لكنه سيعبر عن ضعف ويغري الاحتلال بالتصعيد كما أنه سيزيد من إحباط حاضنة المـ.ـقـ.ـاومة ومن التشكيك في جدوى جبهة الإسناد اللبنانية وهو تشكيك قائم أصلاً، بعضه ينطلق من نقاشٍ موضوعي ومعظمه يندفع من ثأر داخلي أو من أجندة دول التطبيع العربي.
الاحتمال الثالث: التصعيد النسبي بتوسيع نطاق النار والتهجير لكن بما يحافظ على طبيعة جبهة الإسناد ويمنع الانجرار للحرب الشاملة قبل إغلاق مصادر الاختراق ومعالجة آثار الاختراق على كل المستويات، وهو الخيار الأكثر ملاءمة مع طبيعة التحديات المركبة التي تواجهها المقاومة اللبنانية.
الاحتمال الرابع: البحث عن أبواب ردود نوعية مؤلمة، وهنا أمام المقاومة احتمالات متعددة لتحقيق فكرة الضربات النوعية، بدءاً من ضرب الأهداف العسكرية العاملة بما يخرجها من الخدمة ويضعف قدرة الصهاينة على توظيفها في العدوان الشامل على لبنان، والذي يبدو أن قرار الاحتلال به قد اتخذ لكن ظروف الجبهة تؤجله حتى الآن، وبالذات بالمس بالقواعد الجوية وإمكانات الأسطول البحري الصهيوني، أو بضربات أمنية ضد شخصيات كبرى وهي عمليات تحقق أهدافاً نفسية لكن إمكانيتها قد تكون متعذرة، أو بالذهاب لضرب الأهداف شبه العسكرية مثل منشآت التصنيع العسكري الصهيونية.
في الخلاصة، أمام هذه القراءة فإن الخيار الأجدى للمقاومة في لبنان ربما يكون مزيجاً بين الاحتمالين الثالث والرابع: بتوسيع جبهة الإسناد بما يزيد دائرة التأثير والتهجير ويتجنب الانجرار للحرب الشاملة في الظرف الحالي، مع عمل دؤوبٍ ومتأنٍّ على إغلاق الخرق الأمني ومعالجة آثاره على كل المستويات، والمبادرة إلى ردودٍ نوعية تحقق التكافؤ وتستعيد المبادرة وتمس على المدى البعيد بقدرة الجيش الصهيوني على شن عدوان شامل على لبنان باتت سحبه تتراكم.