خاص - شبكة قدس الإخبارية: شهدت الأراضي السورية ليلة أمس عدواناً إسرائيلياً واسعاً، تمثل بغاراتٍ جوية استهدفت محافظات دمشق وحمص وحماه وطرطوس، فيما استكمل العدوان بسلسة غارتٍ ثانية طالت ذات المناطق، فيما أعلنت وسائل إعلام سورية، استهداف مركز البحوث العلمية في مصياف ريف مدينة حماة، فيما أكد الإعلام الرسمي السوري ارتقاء شهداء ووقوع جرحى جراء الغارات.
يأتي هذا العدوان في إطار التصعيد المستمر التي تشهده المنطقة منذ أكثر من 11 شهراً مع بداية معركة طوفان الأقصى، غير أنه لم يكن العدوان الأول الذي يستهدف سوريا، فمنذ عام 2007 يشن الاحتلال الإسرائيلي هجمات محددة داخل الأراضي السورية.
تُنفذ هذه الهجمات ضمن استراتيجية استخباراتية – عسكرية تبناها جيش الاحتلال مسبقاً، أُطلق عليها اسم "المعركة بين الحروب"، فما خلفية هذه الاستراتيجية وهل ما زالت قائمة إلى يومنا هذا؟
استراتيجية جديدة في أعقاب الهزيمة
في أعقاب حرب تموز عام 2006 والتي دارات بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي، شرع جيش الاحتلال إلى تغير أساليب المواجهة في المنطقة دون الاندفاع إلى حربٍ شاملة تكبده الخسائر على غرار ما تعرض له في مواجهته مع حزب الله.
آنذاك وفي مطلع عام 2007 تولى الجنرال "جابي أشكنازي" منصب قائد أركان جيش الاحتلال وقاد خطة التغيرات والتعديلات على الجيش بعد حصوله على الموافقة من الحكومة، وشرع بإجراء تعديلاته وخاصة في القوات البرية ومنظومة مضادات الصواريخ، فيما تبنى أشكنازي نظرية عسكرية مفادها "الجيش إما أن يكون في حالة الحرب أو في حالة الاستعداد لها".
غير أن قادة الاحتلال قد أركوا أن تلك الاستراتيجية غير كافية لتأمين الرد المناسب لنوع محدد من التهديدات المحدقة بكيان الاحتلال، وهو بناء قوة الخصوم وتعظامها في فترة ما بين الحروب، وهو ما تم إسقاطه على تجربة حزب الله والتواجد الإيراني داخل سوريا، وما زاد تأكيد هذه الرؤية هي نتائج الحرب (حرب تموز) الذي خرج منها الاحتلال حديثاً آنذاك.
داخل المؤسسة العسكرية الاسرائيلية تبلورت نظرية قتالية متناسقة ومتكاملة على المستويين العسكري والقومي تركز بالدرجة الأولى على فترات ما بين الحروب، وترى في هذه الفترات ساحة معركة متواصلة بكل معنى الكلمة، في إطار إحباط أي خطرٍ عسكري قبل أن يتطور ويتعاظم، وتعني هذه النظرية أنها عبارة مسار عملياتي متحرك يتم فيه تطوير واستخدام وسائل من مجالات مختلفة عسكرية وسياسية وحتى دبلوماسية، بهدف زعزعة قوة الخصم وتشتيتها والحفاظ على على معادلة الردع وتعزيز شرعية الاحتلال وعملياته المحدودة كتمهيد لاحتمال نشوب حرب في المستقبل.
فيما تُقسم استراتيجية المعركة بين الحروب إلى ثلاث مراحل رئيسية وهي: مرحلة منع تعاظم قدرات الخصم، ومرحلة التشويش على أنشطة الخصم المقابل لإرباك تخطيطه لشن عمليات ضد الاحتلال، وأخيراً مرحلة الردع التي من شأنها أن تعزز حضور القوة والتهديد الإسرائيلي في حسابات الخصوم ووعيهم.
التطبيق لأول مرة
في عام 2022 أصدر جيش الاحتلال بياناً، كشف به عن استهدافه للمفاعل النووي السوري بتاريخ 6 أيلول/سبتمبر 2007، استنداً على وثيقة استخباراتية حصل عليها عام 2002 أشارت الوثيقة إلى تقديرات بوجود مجهود سوري لإنشاء مشروع عسكري في منطقة دير الزور يُحتمل أن يكون النواة لمشروع نووي في المنطقة.
قُبيل ذلك خلال عام 2018 أعلن جيش الاحتلال أنه استهدف بنية لمشروع نووي في سوريا عام 2007، في حين زعم جيش الاحتلال أن المفاعل كان قيد الإنشاء وعلى وشك التشغيل بمساعدة كوريا الشمالية، في حين انطوت الغارة تحت إطار استراتيجية المعركة بين الحروب، وتوجيه إنذار ساخن لإيران بمنعها من امتداد مشروعها النووي في المنطقة، فكان هذا التطبيق الأولي للاستراتيجية المذكورة.
بلوغ ذروة التطبيق
مع تصاعد الأزمة السورية عام 2013 ودخول عدة أطراف إلى الساحة السورية بشكلٍ مباشر من ضمنها إيران، تنبه الاحتلال إلى إمكانية وصول سلاح كاسر لمعادلة التوازن العسكري إلى حزب الله، فيما اعتمد الاحتلال بشكل كلي وعلني لاستراتيجته بشن معركة بين الحروب من أجل الحد من تعاظم قوة حزب الله في لبنان خاصّة في ما يتعلّق بـ "المشروع الدقيق" وهو منظومة الصواريخ الدقيقة، ويعني بالعبرية "مبام".
وعول جيش الاحتلال على هذه الاستراتيجية كأسلوب جديد في مواجهة إيران "وأذرعها" على حد مزاعمه، وبحسب مراقبين إسرائيليين فإنهم يعتبرون هذه المعركة أقلّ تكلفة مادية وعسكرية من خوض مواجهة شاملة على غرار عام 2006.
فيما تبنى رئيس أركان الاحتلال السابق غادي آيزنكوت هذه الاستراتيجية بعد توليه منصب رئاسة الأركان في الفترة الممتدة بين عامين 2015 و2019 فيما استهدف جيش الاحتلال في تلك الفترة عدداً من الشخصيات العسكرية لحزب الله وإيران في سوريا أبرزهم الشهيد والأسير المحرر سمير القنطار في دمشق، والشهيد جهاد مغنية بعد استهدافه برفقة الجنرال في الحرس الثوري الإيراني علي الله دادي بهضبة الجولان، وكان ذلك عام 2015.
إضافة لقصف إسرائيلي استهدف محيط الجسر السابع بالقرب من مطار دمشق الدولي عام 2017 في حين قالت مصادر سورية آنذاك إن ضربات صاروخية أصابت مستودع ذخيرة وقاعدة جوية قرب مطار دمشق، إضافة لعشرات الهجمات في عامي 2018 و2019.
المعركة بين الحروب ومحاولة التطبيق في غزة
كان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008-2009، إيذاناً بمرحلة جديدة من المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، إذ اتخذ الاحتلال من الحرب المدمرة وسيلة للقتال ضد المقاومة وانتهاء مرحلة التوغلات التي كانت سائدة في انتفاضة الأقصى وما بعدها بسنوات قليلة.
غير أن ذلك لم يمنع الاحتلال من السير وفق استراتيجية المعركة بين الحروب في مواجهة المقاومة، وخلال تلك الأعوام نفذ عمليات اغتيال خطافة لقيادات من المقاومة الفلسطينية كان منهم القائد البارز في كتائب القسام أحمد الجعبري عام 2012، والشهيد بهاء أبو العطا قائد سرايا القدس عام 2019، وغيرها من عمليات الاغتيال، إضافة لغارات استهدفت انفاق المقاومة ومواقع تدريبها في الفترة الممتدة بين 2015 إلى 2023، فيما كانت محاولة تسلل وحدة "سييرت متكال" الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2018 ضمن تلك الاستراتيجية، التي أُخرجت عن الخدمة مع اندلاع معركة طوفان الأقصى.
هل انتهت الاستراتيجية أم لا زالت مستمرة
في دراسة صدرت مطلع عام 2024 الجاري عن مركز جسور للدراسات، ذُكر فيها أن عام 2022 شهد 28 غارة إسرائيلية على سوريا فيما كان ذات العدد في عام 2021، بينما ارتفع عدد الغارات الإسرائيلي على سوريا خلال عام 2023 إلى 40 غارة.
وذكر المركز في تقريره أن الغارات الإسرائيلية تنوعت بين القصف الجوي والبحري والبري، وطالت بعضها أكثر من محافظة في وقت واحد، حيث شملت بمجموعها 95 موقعاً، ودمّرت ما يقارب 297 هدفاً داخل الأراضي السورية.
وأكد التقرير أن الاحتلال زاد من وتيرة غاراته في سوريا بعد اندلاع الحرب في حرب الإبادة في قطاع غزة في 7 تشرين أول/أكتوبر 2023، فيما أشار التقرير إلى أن الاحتلال تحرك عسكرياً في سوريا عام 2023 عبر أشكال مختلفة، حيث استمر بتنفيذ الغارات الجوية بوتيرة مرتفعة، وزعم إحباط هجمات صاروخية وطائرات مسيرة من الجولان خلال معركة طوفان الأقصى.
وأضاف التقرير أن الغارات العسكرية الإسرائيلية تركزت على أماكن انتشار القوات الإيرانية والفصائل الموالية لها في المحافظات السورية، وكانت أكثر المواقع المستهدفة في دمشق وريفها ثم حلب ثم تليها القنيطرة والسويداء ودرعا وحمص وأخيرا طرطوس ودير الزور وحماة.
وطالت الغارات الإسرائيلية أيضاً قادة حزب الله اللبناني الفصائل الفلسطينية ومستودعات الأسلحة ومراكز التصنيع والتجميع وطرق الإمداد والنقل البري والجوي التي تستخدمها القوات الإيرانية.
تعكس هذه الغارات خلال الشهور الأخيرة أن استراتيجية المعركة بين الحروب التي تبناها جيش الاحتلال منذ عام 2007 لا زالت قائمة، وإن كانت عدة تقارير ودراسات قد أكدت أنها بلغت ذروتها عام 2013، غير أنه من الملاحظ أن وتيرتها الحالية هي الأعلى والأكثف داخل الأراضي السورية في ظل ما يعتبره كيان الاحتلال بحربٍ وجودية يخوضها على عدة جبهات، تزداد ذروتها يوماً بعد يوم منذ 12 شهراً، وذلك ما يؤكد استمرار الاحتلال باستخدام استراتيجية المعركة بين الحروب، فهل تنتهي باندلاع حرب شاملة على غرار ما انتهت بقطاع غزة؟