رام الله – خاص قدس الإخبارية: منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يشن الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة جماعية على قطاع غزة بدعم أميركي، خلفت أكثر من 133 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى أكثر من 10 آلاف مفقود.
ورغم قراري مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني في غزة، يواصل الاحتلال عدوانه على قطاع غزة متجاهلًا بذلك القرارات الدولية.
علاوة على ذلك، تقدم المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية كريم خان بطلب استصدار مذكرة اعتقال من المحكمة بحق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير حربه يوآف غالانت، في مايو\أيار 2024، وذلك على خلفية احتمال وقوع جرائم حرب وجرائم ضد البشرية تحت طائلة مسؤوليتهما.
ومع مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لأول مرة ملفات مفتوحة ضده في المحاكم الدولية، بدا أن حكومة الاحتلال وجيشه، قررا الالتفاف على هذه الملفات من جهة، وإعادة تجديد تأييد دولي بدءا يفقدانه بفعل المظاهرات العالمية الشعبية الداعمة لفلسطين والضاغطة على حكومات حلفاء الاحتلال في إبادته الجماعية ضد الفلسطينيين، من خلال تشكيل لجان تحقيق في جرائم ارتكبها جيش الاحتلال.
لجان تحقيق خلال الإبادة
في 2 إبريل\نيسان 2024، قال جيش الاحتلال إنه يحقق في مقتل 5 من موظفي منظمة المطبخ المركزي العالمي في منظمة إغاثة دولية في استهداف مركبتهم بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة.
وفي 27 مايو\أيار 2024، قالت المدعية العامة العسكرية الإسرائيلية، يفعات تومر يروشالمي، إن جيش الاحتلال يحقق في حوالي 70 قضية تتعلق بانتهاكات لقوانين الحرب في غزة.
وخلال كلمة لها في المؤتمر السنوي لنقابة المحامين الإسرائيليين، قالت يروشالمي إن تحقيقات الجيش تركز على ظروف الاحتجاز في سجن سدي تيمان في جنوب الأراضي المحتلة، واستشهاد أسرى فلسطينيين الذين كان جيش الاحتلال يحتجزهم، والحوادث التي قتل فيها مدنيون، على يد قوات الاحتلال، وحوادث عنف أخرى تشمل جرائم الممتلكات والنهب التي ارتكبها بعض الجنود.
ووصفت يروشالمي، الغارة الجوية على رفح، ومجزرة "الخيام" بأنها "جسيمة جدا" وقالت إن تحقيقات قوات الاحتلال في الأمر مستمرة.
أما في 22 يونيو\حزيران 2024، مع اقتحام الاحتلال الإسرائيلي مدينة جنين، وتقييده جريحًا فلسطينيًا على مقدمة آلية عسكرية، واستخدامه كدرع بشري، علق جيش الاحتلال حينها أن "التصرف الذي يظهر في الفيديو لا يتناسب مع تعليمات الجيش الإسرائيلي وأخلاقيات جنوده، ويتم التحقيق بالحادث وسيتم التعامل معه بالصورة المناسبة".
لاحقًا، في 24 يونيو\حزيران 2024، أمرت المحكمة العليا في دولة الاحتلال السلطات بتوضيح ظروف اعتقال أسرى قطاع غزة في معتقل سدي تيمان، وذلك ردا على الالتماس الذي قدمته منظمات حقوق إنسان للمطالبة بإغلاق السجن.
وبحسب صحيفة "هآرتس" العبرية وقتها، فإن قرار المحكمة يتضمن توضيح نوعية الطعام الذي يقدم للأسرى والعلاج ووسائل العقاب المتبعة وشروط تقييدهم، كما ونقلت الصحيفة عن محامية إسرائيلية، تأكيدها أن احتجاز الأسرى الفلسطينيين في معتقل سدي تيمان من شأنه أن يرقى إلى جريمة حرب، مضيفة أن احتجاز الأسرى فيه "لا يمكن أن يستمر لدقيقة أخرى".
ومع استشهاد الموظف في الجمارك بالسلطة الفلسطينية، الشهيد عبد الناصر سرحان من مخيم بلاطة في 25 يوليو\ تموز 2024، أعلن جيش الاحتلال، أنه يحقق في ملابسات مقتل موظف في سلطة الجمارك الفلسطينية، خلال عملية عسكرية بالضفة الغربية المحتلة.
وعند استشهاد الشاب رشيد سدة في قرية جيت شرق قلقيلية في أغسطس\آب 2024، أدان جيش الاحتلال اعتداء المستوطنين على القرية، ووصفه بأنه "حادثة إرهابي خطير"، وقال إنه يجري التحقيق في إطلاق النار من قبل الشرطة وجهاز الأمن العام في دولة الاحتلال.
لماذا يشكل الاحتلال لجان تحقيق؟
تقول مقررة الأمم المتحدة بالأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيزي، إن قيادة حكومة الاحتلال وجنودها يحرفون مبادئ القانون الدولي لتشريع العنف، وأشارت ألبانيزي إلى أن القادة الإسرائيليين يتلاعبون بالألفاظ ويستخدمون مصطلحات مثل "دروع بشرية" و"مناطق آمنة" لتبرير انتهاكاتهم لحقوق الإنسان والقانون الدولي.
وفي حديثه لـ "شبكة قدس"، يجيب مدير منظمة القانون من أجل فلسطين إحسان عادل أن الاحتلال يحاول من خلال تشكيله لجان تحقيق، تقديم صورة بأنه يلتزم بالمعايير الدولية، ويحقق في حال ارتكبت مخالفات للقانون الدولي ويحاسب عليها.
ويستدرك عادل: "لكن هذه المحاولة كما وصفتها ألبانيزي بأنها (تشويه إسرائيل للقانون الدولي)، والمقصود فيه هو أن الاحتلال يستعمل أو يرتكب أو يمارس كثيرًا من الأفعال تحت نطاق وستار يبدو قانوني، ولكنه غير قانوني، ومن خلاله يشوه معنى القانون الدولي، وكأن القانون يقف إلى صف الاحتلال وهو ليس كذلك، من خلال مثلا استخدامها لمسائل مثل الدفاع عن النفس وتشكيل لجان التحقيق."
هل ينجح الاحتلال بالتحايل من خلال تشكيل لجان التحقيق؟
"سياسيًا، لا تحتاج الدول الداعمة للاحتلال دومًا أن تقدم لها حكومة الاحتلال ممارسة تفيد بأنها تلتزم بالقانون الدولي، على العكس فهذه الدول تشوه القانون الدولي أيضًا، وتستغل تشكيل الاحتلال لجان تحقيق لتعزيز دعمها وادعائها بأن "إسرائيل دولة ديموقراطية"، يقول مدير منظمة القانون من أجل فلسطين.
ووفق عادل، فإن تشكيل لجان تحقيق لا تعد مفيدة من الناحية القانونية، فلا يأخذ بالقانون الدولي بالأمور الظاهرة، فإذا لم تفض لجان التحقيق إلى محاكمات ومحاسبات حقيقية داخل دولة الاحتلال، تبقى مسألة شكلية.
ويشير المختص في القانون الدولي إلى أن الأمم المتحدة توثق في تقاريرها أن ما يتعلق بتشكيل الاحتلال لجان تحقيق، أو ممارسة أنشطة قضائية، لا تتعدى من كونها ظاهرة شكية غير فعلية، لا ترقى إلى إجراءات حقيقية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم.
ومع نية محكمة الجنايات الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ويؤاف غالانت، تزايد الحديث داخليًا في دولة الاحتلال عن نيتها فتح تحقيق بجرائم الإبادة، لكنه، ومن الناحية العملية لن يمنع تشكيل لجان المحكمة من إصدار مذكرات اعتقال، إلا في حالة واحدة، وهي أن يشمل التحقيق الأشخاص الذي نصت عليهم مذكرة الاعتقال (نتنياهو وغالانت)، والتحقيق في الجرائم التي ذكرتها مذكرة المحكمة الدولية والتي استدعت إصدار قرار الاعتقال لأجل ارتكابها، وفق ما يوضحه إحسان عادل.
ويستبعد عادل حدوث ذلك، بالقول: "لا أتصور أن يقرر الاحتلال فتح تحقيق مع نتنياهو وغالانت شخصيًا بجرائم تشمل التجويع والتعذيب، وما إلى ذلك من جرائم ذكرتها مذكرة الاعتقال الصادرة عن المدعي العام للمحكمة".
ماذا لو حققت دولة الاحتلال حقًا مع رأسي الإبادة نتنياهو وغالانت؟ حينها، يجيب الخبير في الشأن الدولي، من الممكن أن تتمهل المحكمة في إصدار مذكرات اعتقال حتى ترى نتيجة التحقيق الإسرائيلي.
سوابق في لجان التحقيق
عند الحديث عن لجان التحقيق التي شكلها الاحتلال، لا بدّ من ذكر لجنة شمغار، وهي لجنة تحقيق رسمية شكلتها حكومة الاحتلال للتحقيق في المجزرة التي ارتكبت داخل الحرم الإبراهيمي في الخليل يوم 25 فبراير/شباط 1994، المستوطن اليهودي باروخ غولدشتاين خلف أحد أعمدة المسجد الإبراهيمي، وأطلق النار من سلاحه الرشاش على المصلين وهم سجود، مما أدى إلى استشهاد 29 مصليا وإصابة 15 آخرين بجروح.
وترأس لجنة التحقيق رئيس المحكمة العليا مئير شمغار، واستمر عملها أربعة أشهر، عقدت خلالها 31 جلسة استمعت فيها إلى 106 شهود، وقالت اللجنة في تقريرها النهائي إن غولدشتاين نفذ جريمته لوحده دون تنسيق مع أي جهة حتى إن زوجته لم تكن تعرف نيته، وإن جيش الاحتلال لم يتأخر في نقل المصابين إلى المشافي.
ومما جاء في التقرير "لا نعتقد أنه يمكن لوم أحد لأنه لم يتوقع حقيقة أن يهوديا سيخطط وينفذ مذبحة للمسلمين في الحرم الإبراهيمي"، وعزت اللجنة السبب في عملية القتل إلى الاحتكاك المتزايد بين الفلسطينيين واليهود في الحرم، لذلك أوصت بتشكيل شرطة خاصة لحراسته، ومنع من يحمل السلاح من الدخول إليه، وتقسيم الحرم بين المسلمين واليهود لتجنب الاحتكاكات والاستفزازات المتبادلة.
وعملا بتوصيات اللجنة، وضع الاحتلال على مداخل الحرم بوابات إلكترونية، وأعطت اليهود الحق في السيادة على حوالي 60% بهدف تهويده. وأغلق الاحتلال معظم الطرق المؤدية إليه في وجه المسلمين، باستثناء بوابة واحدة عليها إجراءات أمنية مشددة.