يولد الفلسطيني وجسده مهدد بديمومة من التهديدات الاستعمارية منذ اللحظة الأولى لتفتح عينيه على العالم، فقد يقتل رضيعاً بصاروخ أو رصاصة، أو حين يكبر وهو يلعب في الأزقة أو الملاعب، ويبقى في خضم القتل الداهم حتى حين يبلغ أشده وسن الشيخوخة.
لا تتوقف سياسات العدوان على الجسد الفلسطيني عند الانتهاء من اغتياله أو قتله، بل طور الاحتلال منظومة متكاملة نفسية وعسكرية وقانونية وسياسية لحرمانه من الحقوق الأساسية والحيوية، فقد يصير الدفن في قبر معروف وإقامة الطقوس الدينية على الشهيد حلماً أو مجالاً للنضال الطويل.
يمارس الاحتلال على جسد الفلسطيني مجموعة من السياسات القمعية/ التدميرية، فقد يحتجز في السجون لفترات تصل إلى عشرات السنوات، أو يتعرض للاغتيال الذي هو "قتل سياسي" إجرامي ترى فيه أجهزة الاستخبارات والسياسة الإسرائيلية تحييداً لجسد وعقل المستهدف عن البقاء في دائرة الصراع وحرمان المجتمع الفلسطيني من خبرة أو موهبة أو موقف أو قدرات قيادية تمنحه دافعاً في النضال المستمر.
هذا الاستهداف للنخب باغتيال أجسادها هو مسار لاغتيال الجماعة كاملة، لتحويلها إلى كيان غير سياسي لا يناضل من أجل التحرر، وإدخاله في مشاريع السلام الاقتصادي أو الهيمنة، وتكسير قدراته على انتاج وولادة مزيد من النماذج على المستوى القيادي في كل المسارات.
وهنا المجزرة هي أداة أخرى في تهشيم وعي الفلسطينيين من خلال تدمير أجسادهم، ومحاولة تحويل كل شهيد فيها إلى رقم في أرقام عامة، تثير الرعب في آخرين، وتضيع الأجساد في خضم القتل الجماعي الذي تتولاه أسلحة شديدة الفتك، قد تهرس جسد الضحية/ الشهيد وتبقي نزعة الوداع الأخيرة والنظرة الملية في نفس كل عائلة حسرة لا تدرك نهاية لها.
يقول الباحث الفلسطيني إسماعيل الناشف في كتابه "صور موت الفلسطيني": "فالموت بطريقة القتل ولادةٌ، مقارنةً بالقتل الّذي يؤدّي إلى الموت"، فجسد الشهيد يتجاوز معناه الحيوي الفيزيائي المعروف إلى صورة من صور الخلود، في الذاكرة الشعبية والوجدان القومي والوطني مع الأبعاد الدينية التي تكتسبها عملية الشهادة التي تمثل قمة الفداء للجماعة التي تناضل لحياة من العدالة، لذلك يوجه الاحتلال حزمة سياسة لقتل جسد الشهيد بعد اغتياله أو تنفيذه عملاً فدائياً.
جنازة جسد الشهيد هي فعالية وطنية وتعبوية ووجدانية وتاريخية، لحظات وداعه لها طقوسها الخاصة في المجتمع، واجتماع العائلات والطبقات الشعبية حوله تمثل تجسيداً لهوية وطنية سياسية، في مجموعة بشرية طورت مع سنوات الصراعات والاحتلالات التي مرت عليها طقوساً وتراثاً كاملاً يغازل الفدائي وهو يذهب إلى العملية ثم يعود منها جسداً مسجى بعد أن قدم الفداء المطلوب للقضية الأعلى، وحين يغيب أو لا يعود تصير العيون إلى السماء ترقب نجمه الذي لا يغيب، وعلى صور الشهداء المعلقة في كل مكان في الحيز العمراني والاجتماعي تتربى أجيال.
هذه الرمزية الهائلة التي يمثلها الشهيد في الوجدان الفلسطيني والعربي، كانت أحد أسباب العملية الإجرامية التي طورها الاحتلال للتنكيل بالجسد الفلسطيني الشهيد، بداية من التعذيب الذي تعرضت له كثير من أجساد الشهداء حتى بعد مفارقتهم الحياة، ثم الحرص على تعريتهم ووضعهم في أكياس بلاستيكية بطريقة لا إنسانية، واحتجاز جثامينهم، ودفنها في مقابر الأرقام أو الإبقاء عليها في الثلاجات لسنوات.
يعلم الاحتلال أن حرمان العائلة من طقوس الوداع، ودفن شهيدها في قبر معروف يمنحها فرصة زيارته، وإبقاء جسده معلقاً في مقبرة الأرقام أو الثلاجات الباردة يجعل المعاناة مضاعفة في مجتمع متقارب اجتماعياً تشكل قصص المعاناة شرياناً ينتقل بين أفراده، وبذلك يصبح الحق الإنساني عامل ردع في يد المنظومة الاستعمارية.
يحتفظ التاريخ الفلسطيني الاجتماعي بكثير من قصص أمهات الشهداء اللواتي لبسن الأسود لسنوات طويلة، بعد استشهاد أولادهن، وبقين ينتظرن أملاً بتحرير أجسادهم من سجن الاحتلال، حتى يحظين بفرصة دفنهم وزراعة وردة أو شتلة على قبورهم، وأن يسكبن على قبورهم دمعة الحنين في ساعات الشوق.
وجسد الفلسطيني أيضاً مجال اختبار لسياسات التدمير العسكرية التي طورها الاحتلال وحلفائه. وفي الحروب المتصلة التي شنتها دولة الاحتلال على الفلسطينيين والعرب جربت كل أسلحة الإرهاب التي صنعتها على أجسادهم، وقد جرب الجسد الفلسطيني - العربي القتل بالرصاص بمختلف أنواعه، وبالصواريخ من الطائرات، ثم من الطيران المسيَر، أو من قذائف المدفعية، أو الذخائر التي يقول العالم إنها محرمة "دولياً" مثل الفسفور الأبيض، لكنها على أجساد أبناء المنطقة تستخدم كما قنابل الغاز في دول أخرى، ولا تفعل التقارير الدولية شيئاً سوى توثيق الانتهاكات، بانتظار يوم عدالة للضحايا لا يعرف متى موعده!
تجارب القتل الجماعي والفردي التي تجريها دولة الاحتلال على أجساد الفلسطينيين، بالأسلحة والصواريخ التي طورتها شركات أسلحتها، حولتها إلى أكبر مختبر فتاك في العالم للدول التي تريد الشراء لكنها تطلب المعاينة أولاً، وجسد الفلسطيني والعربي هو العينة.
وفي حرب الإبادة الجماعية المستمرة على قطاع غزة، عاد جسد الفلسطيني أيضاً مختبراً للأسلحة الأمريكية التي حملتها قطارات الدعم الجوي لدولة الاحتلال، وجرب جيشها الصواريخ التي تخترق الحصون على أجساد أطفال بعضهم لم يدرك في الحياة أن يقول كلمة "ماما" أو "بابا"، وشاهد العالم الذي يحظى الآن بقدرات اتصالات فائقة السرعة في زمن التواصل الاجتماعي، أطفالاً ونساء وشيوخاً ومدنيين مقطعي الرؤوس أو الأطراف أو تبخرت أجسادهم أصلاً، لذلك أصبح الفلسطيني الجيد في زمن الإبادة ليس الميت أو الخاضع فقط بل الذي يتبخر من الوجود أصلاً، إذ أكدت الإحصائيات التي نشرتها مؤسسات دولية أن الأسلحة الفتاكة التي صبها جيش الاحتلال على أجساد الفلسطينيين تسببت بتبخر أعداد منهم.
وفي السجون يخضع الجسد الفلسطيني لسياسات أخرى، من العزل الانفرادي، أو التعذيب في مراكز التحقيق، أو الحرمان من العلاج، أو الحق الأساسي في الطعام، أو حتى رؤية الشمس والضوء، ويصبح سلوك عادي مثل فتح الباب والخروج منه حلماً غير قابل للتحقق منذ أكثر من 40 عاماً لعدد من الأسرى الفلسطينيين.
وفي كل لحظة يتعرض جسد الأسير للضرب من قوات خاصة تضم أفراداً مدربين على اقتحام قواعد عسكرية، وليس زنازين أسرى مجردين من كل سلاح أو وسيلة للدفاع، ويملك الاحتلال قدرة تغييب جسده عن ناظر عائلته بعد أن يحرمه الزيارة، أو حقه في الكتابة والقراءة والتعلم بعد أن يمنعه من القلم والورق والكتاب، وقد يفرض عليه حيزاً نفسياً تدميرياً آخر بعد أن يمنع الأسير من الاجتماع مع شقيقه الذي يحتجز معه أيضاً في السجون أو والده أو حتى نجله، وسياسة الحرمان الجسدية هذه متصلة، فالأسير الأب ممنوع لسنوات من مراقبة نمو أطفاله أو مرافقتهم في اليوم الأول إلى المدرسة أو اللعب معهم أو حملهم أو حتى لمس شعرهم.
وخارج السجن سجون أخرى كبيرة، بين كل قرية أو مدينة ومحافظة، فالفلسطيني عادة لا يعرف رحلة يومية عادية مكتملة دون وقوف على حواجز وثكنات عسكرية ومعابر تفتت جسد أرضه، وجسده معرض في هذه الرحلة للقتل أو الاعتقال أو الضرب أو الاحتجاز.
وجسد الفلسطيني محروم من الوصول إلى البحر أو الجبل أو إلى مكان لا يبعد عنه سوى دقائق في السيارة، فقد يعيش فلسطيني 70 عاماً دون أن يسير على الشاطئ أو تلامس قدميه مياه البحر، وقد يموت فلسطيني في قطاع غزة دون أن يرى القدس أو الضفة الغربية أو حتى جبلاً عالياً، وقد يعيش اللاجئ حياته في زقاق مخيم ضيق وقريته المهجرة مساحتها تمتد على آلاف الدونمات.
وأجساد المحبين في فلسطين معرضة للقتل العاطفي في معرض هذه السياسات، فالفلسطيني لا يملك رفاهية اختيار شريكته من كل أجزاء وطنه، عملية الإقدام على اختيار شريك من الضفة أو الداخل أو غزة والخ محكومة بكثير من تفاصيل العذاب، فالاحتلال قد يحرمك من ورقة صغيرة اسمها "تصريح" أو "لم شمل" يجمعك بشريكك أو شريكة حياتك.
وفي أوج سياسات العدوان على روحه وجسده حول الفلسطيني الجسد إلى سلاح في نضاله نحو التحرر والعدالة، فهو يحمل جسده نحو الشهادة لتحقيق الخلاص من التحكم الإسرائيلي، ويقدمه كي يخلق من الموت حياة أخرى ممتدة في عوالم المستقبل وما وراء الحياة التي تحتل مكاناً عميقاً في المعتقدات الدينية.
وفي السجن حفر بجسده بوسائل بدائية مسارات الانعتاق، وحققت الحركة الأسيرة عدة عمليات تحرر ناجحة من السجون، وتجاوز منظومات السيطرة الأمنية الإسرائيلية وهرب الرسائل، والكتب، وحتى "النطف" وولد من جسده الأسير حياة أخرى حطمت فكرة إبعاده عن العالم الآخر من الحياة.