لا يكاد يمر شهر دون أن يبحث إيتمار بن غفير عن اقتحامٍ للأقصى، أو عن تصريحٍ بفرض الصلوات التوراتية فيه، واليوم ها هو يمضي خطوة أبعد بتصريحه لإذاعة جيش الاحتلال بأنه "ينوي إقامة كنيسٍ يهودي في المسجد الأقصى إن استطاع".
منذ أن تولى بن غفير منصبه وزيراً للأمن القومي الصهيوني في شهر كانون ثاني 2023 اقتحم المسجد الأقصى ست مرات، بينها ثلاث مرات منذ اندلاع الحرب التي كان العدوان على الأقصى شرارة انطلاقها في مواجهته، وقد أكد علناً على سياسة السماح لليهود بأداء الطقوس التوراتية في الأقصى أربع مراتٍ حتى الآن.
ما يدفع بن غفير إلى تبني هذا الخط هو انتماؤه إلى تيار الصهيونية الدينية، وهو تيار يسعى إلى إعادة إنتاج الصهيونية كحركة قومية ودينية في نفس الوقت، لا تكتفي بالنظر إلى اليهود كشعب تريد أن تؤسس لهم كياناً سياسياً على أنقاض فلسطين، بل إن هذا الشعب هو في الوقت عينه أمة مختارة لهذه الأرض، لها تكليف إلهي بأن لا تسمح لهوية أخرى أن تتواجد فيها، وتكليف إلهي بأن تؤسس الهيكل ليكون محل سكن روح الرب، فتصبح "مملكة إسرائيل" التي يحل فيها الرب ويباركها، ولا تكتفي بالاستناد إلى التوراة كأسطورة مؤسسة لهذا المشروع الإلغائي، بل تسعى إلى تطبيق المقولات التوراتية وإلى استجلاب النبوءات، فيتحقق بذلك وعد الرب لها بأن يرسل المخلص، وأن "يكبِت كل أعدائها"، وأن "يُخضع لها رقاب الأمم".
باختصار، تحويل الأقصى إلى هيكل هو جوهر مركزي مفقود لهذا الكيان السياسي بنظر الصهيونية الدينية، لا بد من تحقيقه لثلاثة أسباب: أولاً حتى تحل روح الرب فيه وتباركه فيكون "مملكة إسرائيل" الموعودة، والثاني إعمالاً للتوراة واستعادة للعبادة الأسطورية القربانية الموصوفة فيها، والتي لا تكتمل إلا بوجود الهيكل في مركزها، والثالثة والأهم باعتبار ذلك كله بوابة إلى تحقيق الرب لوعده بأن يرسل المخلص، وأن يُخضع به أعناق الأمم لشعبه المختار، بأن يتحول التاريخ من مجراه الإنساني إلى مجرىً إلهي تتجلى فيه المعجزة؛ وكلما ازداد شعور هذا التيار بأنه محاط بالأعداء وأنه عاجز عن كسرهم، سيصبح أكثر تطلعاً إلى تلك النبوءة وأكثر إلحاحاً على استجلابها وبالتالي أكثر إصراراً على العدوان على المسجد الأقصى.
وانطلاقاً من هذه المقدمات، يمكن أن يُقرأ الآتي من تصريحات بن غفير اليوم:
أولاً: هذا التصريح تعبير عن برنامج عملي ممارَس وهو ليس بالون اختبار ولا مجرد فرقعة سياسية رغم الأسلوب الاستعراضي المعتاد الذي يصبغ أداء بن جفير السياسي؛ فالبرنامج السياسي المركزي الذي أوصل بن جفير إلى هذا الموقع هو تهويد المسجد الأقصى وتبديل هويته من مسجد إسلامي إلى هيكل يهودي، وقد تلقى عند توليه منصبه وثيقة مطالب من ائتلاف منظمات الهيكل المتطرفة حددت 11 بنداً تضمنت السماح بالاقتحام الحر وتعزيز الحماية للمقتحمين وزيادة أعدادهم، وتمكينهم من أداء الطقوس التوراتية ومن إدخال أدوات الصلاة التوراتية، وبناء كنيس في الأقصى كان المطلب الخامس في هذه الوثيقة.
ثانياً: عملياً يجري التعامل مع الساحة الشرقية للمسجد الأقصى باعتبارها "كنيساً غير معلن"، حيث يؤدي فيها المقتحمون الصهاينة طقوسهم خلال فترات الاقتحام فيما يمنع المصلون والمرابطون وحراس الأقصى وموظفو الأوقاف من دخولها أو حتى من الاقتراب منها بمسافة تسمح بالتصوير خلال الاقتحامات، وبالتالي فإن بن جفير يحاول تكريس واقعٍ جرى التمهيد له، ضمن مخطط تدريجي يتطلع للإحلال الكامل وتحويل المسجد الأقصى المبارك بكامل مساحته إلى هيكل، ولا بد من التعامل معه بجدية ومجابهته بكل الطرق الممكنة وأولها كسر الاستفراد عن الساحة الشرقية للأقصى.
ثالثاً: يقوم بن غفير ونتنياهو بلعبة تبادل أدوار واعية، بحيث يفرض بن جفير تغييرات محددة باعتباره المسؤول المباشر عن شرطة الاحتلال، ثم يصرح نتنياهو أو مكتبه بأنه يتمسك بـ: "الوضع القائم" بعدها دون أن يلغيها أو يغيرها، وهو يقصد بذلك أن يكرس أنه يتمسك بالوضع القائم بما يشمل هذه التغييرات، ويستخدم الوضع القائم باعتباره مصطلحاً مطاطياً دائم التغير، بخلاف تعريفه الثابت في القانون الدولي باعتباره بقاء الأقصى على ما كان عليه قبل اندلاع حرب 1967؛ وبالتالي فإن تصريح بن جفير اليوم مقصود حتى يستجلب تعقيب نتنياهو ويحصل على المظلة السياسية لفرض الطقوس التوراتية في الأقصى.
رابعاً: من الناحية العملية، فمنذ يوم 13 آب/أغسطس 2024 وطقس الانبطاح "السجود الملحمي" يؤدى بشكل جماعي في كل اقتحام للأقصى تقريباً، وهو تطور يحصل في الأقصى لأول مرة منذ احتلاله، ويبني على اعتداءات تدريجية سابقة على طريق طمس هويته الإسلامية وفرض هوية يهودية في مكانها ضمن توظيف للطقوس كأداة استعمار وهيمنة.
خامساً: تأتي هذه التصريحات في الشهر الحادي عشر من الحرب لتحاول التأكيد أن هذه الحرب وسابقتها لم توقف مشروع الإحلال الديني في الأقصى، وأن تبديل هويته ماضية إلى الأمام رغم ما فرضته تلك الحروب والهبات التي سبقتها من تراجعات واهتزاز للثقة للمشروع الصهيوني، وهي تجدد التأكيد على مسار آخذ بالتصاعد منذ معركة سيف القدس 2021 بالنظر إلى العدوان على الأقصى بوصفه مؤشراً لثقة اليمين الصهيوني بذاته، وبإمكانات الكيان الصهيوني وقدرته، فما دام يمضي في العدوان على الأقصى فهو حي وقادر على المضي إلى الأمام، وهذا ما يزيد من وقع معركة الأقصى في الوعي الصهيوني، ومن وقع أي تراجعات تفرض فيها مستقبلاً.