فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: مثلت عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من سلاسل من المعارك العسكرية والسياسية في مختلف المستويات، الانفجار الأكبر في العلاقات بين المستويات الأمنية في دولة الاحتلال وقيادات جيش الاحتلال مع المستوى السياسي، الذي يجلس فيه وزراء من خلفيات "الصهيونية الدينية" الطامحة إلى إجراء تغيير عميق في السلوك الأمني على مستوى استراتيجي بعيد المدى.
صباح اليوم، انفجر الخلاف مجدداً بعد الإفراج عن مدير مجمع الشفاء الطبي محمد أبو سلمية إلى غزة، وانطلقت التصريحات المضادة بين أقطاب حكومة الاحتلال مع الأجهزة الأمنية والعسكرية المختلفة (الشاباك، إدارة السجون، الجيش)، حول المسؤول عن القرار وأسبابه.
وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال، إيتمار بن غفير، الذي يسعى منذ صعوده في الحياة السياسية الإسرائيلية إلى الهيمنة على الأجهزة الأمنية المختلفة التي تضمن له تحقيق برنامجه وخدمة تياره في "الصهيونية الدينية"، كما في حالة جهاز الشرطة وإدارة السجون، وجه انتقادات قاسية لرئيس جهاز مخابرات الاحتلال "الشاباك"، رونين بار، بسبب الإفراج عن أبو سلمية وطالب بإقالته.
في أوقات سابقة من الحرب استغل بن غفير كل فرصة ممكنة مع حليفه في "الصهيونية الدينية"، بتسلئيل سموتريتش، لتوجيه انتقادات وهجمات على قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية في دولة الاحتلال، كما في قضية الإفراج عن أسرى فلسطينيين اعتقلوا في بداية الحرب على بند "الاعتقال الإداري" وفي حماية بنيامين نتنياهو بسبب "تهديدات" مزعومة وصلت من معارضين له، بالإضافة للملف الأكبر وهو الفشل في منع أو مواجهة هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الذي نفذته كتائب القسام وفصائل المقاومة من قطاع غزة.
ترى تيارات "الصهيونية الدينية" في رئيس جهاز "الشاباك" صاحب توجهات أمنية واستراتيجية تخالف برنامجها في بعض مفاصله، كما في حالة الهجمات التي شنتها ميلشيات المستوطنين على قرى وبلدات في الضفة المحتلة، الصيف الماضي، وكشفت حينها وسائل إعلام إسرائيلية عن مشادات بين بن غفير ورونين بار حول التعامل مع هجمات المستوطنين.
بن غفير اعتبر أن جهاز "الشاباك" يحارب ميلشيات المستوطنين مثل "فتيان التلال" التي تشن هجمات إرهابية ضد القرى الفلسطينية، بينما "لم يتحرك حينها لقمع احتجاجات أهالي الجولان السوري المحتل ضد مشروع المراوح الهوائية"، حسب زعمه.
ورغم أن جهاز "الشاباك" من أبرز الأدوات الاستعمارية التي يستخدمها الاحتلال في ترسيخ مشروعه الاستيطاني، في القدس والضفة المحتلتين، من خلال ملاحقة نشطاء الحركة الوطنية والإسلامية في المجتمع الفلسطيني وتعريضهم للاغتيالات والاعتقالات الدائمة، إلا أن "الصهيونية الدينية" بما تحمله من تفكير أمني وعسكري مغاير لما رسخت عليه المؤسسات في دولة الاحتلال، طوال عقود الصراع، ترى أن ميلشيات المستوطنين مثل "فتيان التلال" التي ترتكب جرائم إرهابية بحق التجمعات الفلسطينية يجب أن تحظى بدعم مباشر من الحكومة.
في ذاكرة "الصهيونية الدينية" التي ترى في نفسها تمرداً على المؤسسة العسكرية والسياسية والأمنية التقليدية، في دولة الاحتلال، خاصة بعد الانسحاب من غزة ومستوطنات في شمال الضفة المحتلة، في 2005، مشاهد للاعتقالات التي نفذها جهاز "الشاباك" بحق أنصارها ونشطائها خاصة في فترة التسعينات، وبينهم بن غفير وسموتريتش اللذين يمسكان الآن بملفات حساسة في الأمن والمال وغيرها، بسبب نشاطهما ضد الحكومة والتحريض على وزراء وشخصيات في المستويات العليا الإسرائيلية، بسبب معارضتهم للتوجهات الاستراتيجية فيما يخص الصراع مع الفلسطينيين.
الصدام العميق بين أقطاب "الصهيونية الدينية" و"الشاباك" وبقية الأجهزة الأمنية في دولة الاحتلال يتعلق بالاستراتيجيات وتعريف المحددات للتعامل مع أعداء "إسرائيل"، فبينما راكمت أجهزة الاستخبارات والعسكر آليات معينة لقمع الفلسطينيين والعرب تقوم على "تحييد" فئات من المجتمع عن الصراع من خلال منحها ما تسميها بــ"الامتيازات" في مقابل تدمير من يمارس نشاطاً وطنياً ضد الاحتلال، بالإضافة للاستمرار في العلاقات مع السلطة الفلسطينية، يرى بن غفير وسموتريتش خلاف ذلك ويدعمان باستمرار نحو سياسة قمعية تدمر أي مشروع لإقامة كيان فلسطيني حتى لو على مساحة أقل من الحق التاريخي للشعب الفلسطيني.
جهاز "الشاباك" الذي بنى علاقات متينة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومختلف أجهزتها الاستخباراتية، طوال العقود الماضية، قدم في السنوات الأخيرة عدة تقديرات موقف مخالفة لتوجهات حكومة بنيامين نتنياهو الذي تحالف مع "الصهيونية الدينية"، بناء على نظرية أمنية ترى في القضايا رؤية مختلفة تقوم على "ضمان أمن إسرائيل" بما ترى أن لها خبرة واسعة في قمع الفلسطينيين والتعامل مع "أعداء إسرائيل"، حسب وصفها.
الصدام بين وزراء في حكومة نتنياهو مع قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية في دولة الاحتلال يشير أيضاً إلى طبيعة العلاقات بين المستوى السياسي والعسكري الإسرائيلي، وهي علاقة بقيت إشكالية منذ 1948، فبين المركزية التي يحتلها الجيش وأجهزة "الشاباك" و"الموساد" والاستخبارات في دولة قامت على الحرب والقتال والاغتيالات، والرؤية التي تحملها لنفسها كــ"خبير" في شؤون مواجهة الفلسطينيين والمحيط العربي والإسلامي، واستراتيجيات المستوى السياسي التي قد تختلف من حكومة إلى أخرى خاصة على صعيد طبيعة العلاقات مع الفلسطينيين أو العرب.
وعلى صعيد مختلف الملفات كان جيش الاحتلال وأجهزة الاستخبارات لهم حضورهم الطاغي في تفسير وتوجيه وبناء السلوكيات الاستراتيجية، حتى في العلاقات الخارجية التي كان جهاز "الموساد" يقيمها في غالب الأحيان ويرعاها ويشرف على تنفيذ البنود التي تحقق الأمن القومي والاستراتيجي لدولة الاحتلال.
ورغم طغيان الأمن والعسكر على الحياة السياسية والاستراتيجية في دولة الاحتلال إلا أن الخلافات بين المستوى الأمني والسياسي بقيت تظهر بين فترة وأخرى، كما في الشهور السابقة على عدوان 1967، حين اختار رئيس حكومة الاحتلال حينها ليفي أشكول التريث قبل شن هجوم على الجيوش العربية بينما ضغط عليه قادة الأركان نحو هذا الخيار، وفي حالة أخرى كان الصدام بين نتنياهو ورئيس جهاز "الموساد" السابق مائير داغان حول التعامل مع الملف النووي الإيراني.
وفي حالات كثيرة سعى قادة حكومة الاحتلال لعدم إشراك قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية في تقييم الخطوات الاستراتيجية التي تضع نصب عينها تحقيقها، كما في اتفاقيات التسوية وغيرها، وفي حالة اجتياح لبنان سيطر أرئيل شارون على التفكير الأمني والعسكري لصالح مشروعه رغم أن تقديرات بعض جهاز الاستخبارات الذين عملوا في ساحة لبنان كانت لا تفضل البقاء في هذا البلد.
الجديد في السنوات الماضية وخاصة بعد "طوفان الأقصى" هو الهجوم الشرس الذي أصبح علنياً أكثر من جانب وزراء وقادة في دولة الاحتلال على مسؤولي الأجهزة الأمنية والعسكرية، خاصة من جانب أقطاب "الصهيونية الدينية"، الذين وصلوا إلى إهانة قائد الأركان و"الشاباك" وغيرهم علناً وفي اجتماعات الحكومة.
الفشل الذريع في منع عملية "طوفان الأقصى" وما لحقها من أحداث من الأسباب الرئيسية في التغييرات التي تترسخ يوماً بعد الآخر في دولة الاحتلال في العلاقات بين المستويات المختلفة، ونظرة الأحزاب والمجتمع للجيش والأجهزة الأمنية والعسكرية، بعد عقود من محاولة الاحتلال ترسيخ أسطورة "جيش الشعب" و"البقرة المقدسة" التي يجب أن لا ينالها سوء أو انتقاد.
ورغم أن تاريخ دولة الاحتلال حمل معه أزمات وجهت فيها للجيش انتقادات إلا أن الهجوم من جانب "الصهيونية الدينية" خاصة يحمل معه مشاريع بقيت تنمو طوال سنوات للسيطرة على القرار الأمني والعسكري.