خاص شبكة قُدس الإخبارية: عادت قضية أموال المقاصة إلى الواجهة بعد قرارٍ من حكومة الاحتلال الإسرائيلي بالإفراج عنها، وذلك بعد عملية احتجاز دامت لشهور، وسط ضائقة مالية كبيرة عانت منها السلطة الفلسطينية طوال الفترة الماضي، كادت أن توصلها إلى الانهيار كما قالت التحذيرات.
غير أن الفارق في قرار حكومة الاحتلال هذه المرة، أنه جاء في وسط رغبةٍ عارمة لدى اليمين المتطرف المشارك بالحكومة، بانهيار السلطة وفرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية، ولم تكن هذه الرغبة سراً، بل علناً يجاهر بها وزير مالية الاحتلال "بتسلئيل سموتريتش" في أكثر من تصريحٍ وموقف فما الذي تغير؟
وبعد تحذيراتٍ دولية مكثفة من خطورة انهيار السلطة، وافق المجلس الوزاري المصغر للاحتلال "الكابينيت" الإفراج عن أموال المقاصة، دون حصة قطاع غزة ومع اقتطاع رواتب الأسرى وعائلات الشهداء.
وتتزامن موافقة الإخراج عن المقاصة مع موافقة "الكابينت" على تشريع 5 بؤر استيطانية وتحويلها إلى مستوطنات قانونية على امتداد مناطق الضفة الغربية، وسحب امتيازات وتصاريح من شخصيات في السلطة، إضافةً إلى التضييق على حركة الفلسطينيين في مناطق ج، فهل كان قرار تحويل أموال المقاصة إلى السلطة صفقة سياسية، أم إنقاذ سريع للسلطة من الإنهيار؟
وحول موافقة حكومة الاحتلال على تحويل أموال المقاصة إلى السلطة يقول المحلل السياسي سليمان بشارات أن هذه الموافقة تأتي في ظل الضغط الأمريكي على حكومة الاحتلال بقيادة "نتنياهو" وإظهار دور الولايات المتحدة الأمريكية في مجريات القضية الفلسطينية، إضافةً إلى تحذيرات المؤسسة الأمنية لدى الاحتلال من خطورة استمرار احتجاز الأموال وانفجار الوضع الأمني في الضفة الغربية ما سيُشكل ضغطاً إضافية على جيش الاحتلال.
أما عن التحول في قرار وزير مالية الاحتلال "سموتريتش" فيضيف بشارات أن هدف "سموتريتش" من هذا التغيير في القرار هو إظهار نفسه كمُتحكم في بقاء السلطة أو إنهيارها، ومصير الدولة الفلسطينية، إضافة على إظهار قدرته لدى المستوطنين بقدرته على تحقيق مكاسب في الضفة الغربية من خلال الربط بين قضية أموال المقاصة وتشريع البؤر الاستيطانية في الضفة المحتلة.
وبحسب المحلل بشارات فإن خطوات رئيس جكومة الاحتلال "بنيامين نتنياهو" فيما يتعلق بالمقاصة يأتي في إطار سعيه المتواصل لتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها السياسي، بمعنى تحويل الشق الاقتصادي لدى الفلسطينيين إلى اقتصاد مرتبط بالحاجة الإنسانية لدى الفلسطينيين، وعزله عن الحقوق السياسية الفلسطينية، مع إظهار تحدي للدول التي تعترف في فلسطين، إضافةً إلى رغبة سموتريتش بتثبيت نفسه كجزء أساسي في أي حكومة إسرائيلية قادمة، وحصوله على نقاطٍ سياسي على حساب ما يلحقه بالفلسطينيين من تضييق وحرمان.
وتجري هذه القرارات بالسياق مع توغلٍ استيطاني في الضفة الغربية واتساع عمليات هدم منازل الفلسطينيين تحت ذريعة "البناء دون ترخيص"، وزيادة إنشاء البؤر الاستيطانية على الأراضي الفلسطينية في الضفة المحتلة، إضافةً إلى تصاعد اعتداءات ميليشيات المستوطنين على المنازل والممتلكات الفلسطينية، وأبرز هذه التجليات التوسع الاستيطاني في محافظة أريحا والأغوار، والتضييق الشديد على التجمعات البدوية الفلسطينية في أريحا وجنوب مدينة الخليل.
ويرى المحلل السياسي محمد القيق أن حكومة الاحتلال تستخدم ملف المقاصة في الضغط السياسي على السلطة، بل عملية ابتزاز سياسي مالي للسلطة، مع استخدام ملف المقاصة للمقايضة السياسية داخل حكومة الاحتلال لا مع السلطة؛ لأن الاحتلال لا يرى السلطة سوى شركة أمنية ومدنية تدير شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية، ودلالة ذلك قيام الاحتلال عند موافقته بتحويل أموال المقاصة بتقليص صلاحيات السلطة الفلسطينية في العديد من المناطق.
وأضاف القيق أن هناك ترتيبات إقليمية جديدة تضم السلطة الفلسطينية، مع إعراب بعض الدول العربية عن قدرتها بالدخول في إدارة جديدة لقطاع غزة تشارك فيها السلطة، وخاصة بعد زيارة وزير حرب الاحتلال "غالانت" إلى واشنطن وتصريحاته الأخيرة التي قال فيها عن بداية تشكيل إدارة مدنية تدير الشؤون المدنية في قطاع غزة بإشراف الإدارة الأمريكية بعد انتهاء الحرب، بالتزامن مع تصريح نتنياهو الذي رفع فيه المنع من دخول السلطة إلى قطاع غزة، وعليه يربط الاحتلال بين الإفراج عن أموال المقاصة وبين الترتيبات الإسرائيلية في السيطرة على الضفة الغربية وتشكيل إدارةٍ مدنية في قطاع غزة.
ويرى القيق أن ربط الجانب الفلسطيني التحرري بالمقاصة هو مجرد إهانة إسرائيلية، وابتزاز أمريكي في الساحة الفلسطينية، ويقول القيق: "يجب أن يكون للسلطة الفلسطينية موقفاً وتحديداً لحركة فتح كونها تشكل العامود الفقري للسلطة، ويجب أن يكون هناك مشروع فلسطيني تحريري لا مشروع إدارة مدنية، في ظل القرارات الإسرائيلية والأمريكية الواضحة والتي تسعى ألا يكون هناك سيادة حقيقية للفلسطينيين".
وحسب آخر تقاريرٍ فلسطينية فقد نفذت قوات الاحتلال خلال أيار الماضي وحزيران الجاري،38 منزلاً فلسطينياً، إضافة إلى هدم نحو 26 منشأة تجارية في الضفة الغربية والقدس، من بينها حظائر أغنام وغرف زراعية ومنشآت تجارية أخرى في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، كما قامت قوات الاحتلال باقتلاع نحو 515 شجرة في بيت لحم وجنين.
ونصت قرارات "سموتريتش" الأخيرة على تعزيز النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية كخطة لمحاربة اعترافات دول العالم بدولة فلسطين، إضافة إلى اتخاذ إجراءات ضد السلطة الفلسطينية، ومن ضمنها إلغاء تصاريح وامتيازات مسؤولين فيها، وتقييد حركتهم، ومنع سفرهم، وإبعاد مسؤولين آخرين، ومنعهم من ممارسة صلاحياتهم، مع تصريح إضافي من قبل "سموتريتش" أنه سيتم انشاء بؤر استيطانية في الضفة الغربية يتم تسمية كل واحدةٍ منها باسم دولة اعترفت في فلسطين بالأمم المتحدة.
بهذا تتقاطع المصالح الإسرائيلية والأمريكية بضرورة إبقاء السلطة قائمة في حالتها الضعيفة وصرف أموال المقاصة لها لإنعاشها، مع ثمنٍ باهض يتمثل بسرقة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وإشراك السلطة في مخططاتٍ تعاونية مع الاحتلال والدول العربية في إدارة قطاع غزة بعد الحرب، بهذا يكون قرار الإفراج عن المقاصة في سياقين اثنين هما: منع انهيار السلطة والحفاظ على الاستقرار النسبي في الضفة الغربية، أما السياق الثاني فإن تحويل أموال المقاصة للسلطة هو صفقة سياسية ليست على صعيدٍ محلي فحسب، بل على صعيدٍ إقليمي.