شبكة قدس الإخبارية

حرب غزّة: صراع بين الوطن والأيديولوجيا

a7a8e300-2286-11ef-a248-13d66dddaaef.png
علاء أبو عامر

كتب الروائي الفلسطيني الراحل، ابن دالية الكرمل، سلمان ناطور، يوماً، "فلسطين وطن وإسرائيل دولة"، وهذا يعني أنّ فلسطين الوَطَنَ مكانُ إقامةِ الإِنسان الفلسطيني ومَقرّه وإليه انتماؤه، وُلد به أَو لم يولد. بينما دولة الصهاينة تجمّع مُنظّم، أوجدته القوى الدولية في أرض فلسطين، ومنحته القوّة وفق شروط إقامة الدول، ولو بطريقة مُصطنعة من خلال حكومة الانتداب بريطانيا ووعدها المشؤوم، وقرار في الجمعية العامة للأمم المتّحدة، صدر بالضغط والإكراه من الدول القليلة عند التأسيس؛ أعضاء المُنظّمة الدولية المنبثقة عن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وطُبّق جزئياً. وتُعرّف الدَّوْلَةُ على أنّها جمع كبير من الأفراد، يَقْطن بصِفة دائمة، إقليماً معيَّناً، ويتمتّع بالشخصية المعنوية وبنظام حكومي وبالاستقلال السياسي. والفارق هائل بين المُصطلحَين، إذ يمكن أن يكون هناك وطن ولكن بلا دولة، بوصفها نظاماً سياسياً.

وربما فهم بشرٌ كثيرون في كوكبنا المعنى العميق لهذا القول في أثناء الحرب الحالية (2023 - 2024) على قطاع غزّة، التي لم تنتهِ بعد، حيث الفلسطينيون في القطاع، ومثلهم في الضفّة الغربية، رغم كل المآسي والقتل والإجرام وتدمير بيوتهم من الصهاينة، ظلّوا مُتعلّقين بأرضهم وبركام بيوتهم، وبالبقع التي نشؤوا فيها، ينزحون منها ويعودون إليها، رغم كلّ الظروف، مُعرّضِين أنفسَهم للقتل أو الإصابة، مرّات ومرّات. في المقابل، ازدادت طلبات المهاجرين من اليهود الصهاينة في فلسطين المُحتلّة على الجنسية الأصلية لبلدانهم الأمّ، التي قدموا منها للاستيطان في فلسطين المُحتلّة، بل إنّ إحدى السيدات الأوكرانيات من محافظة خاركيف الأوكرانية عادت إلى بلدها هاربة مع عائلتها في أثناء هذه الحرب، وقالت: ما أجمل الوطن! ومن هؤلاء مئات آلاف اليهود الألمان والروس، وغيرهم، بحسب ما نشرت صحف صهيونية ذاتها، وشهدت دولة الصهاينة هجرة معاكسة بأعداد كبيرة جداً.

لكن ما كشفته يوميات العدوان الصهيوأميركي على قطاع غزّة لم يُثبت أنّ "فلسطين وطن وإسرائيل دولة" فقط، بل الأدهى من ذلك أنّها أُثبت بالمطلق أنّ "فلسطين وطن وشعب، بينما إسرائيل أيديولوجيا"، وليست أيّ أيديولوجيا، بل أيديولوجيا عابرة للقارّات والحدود، وليست أيديولوجيا دولة محصورة في جغرافيا المكان. وهذا ليس اكتشافاً منّا بل تاريخ، فالدولة التي أطلقَ عليها الصهاينة "إسرائيل"، تيمّناً بنبي الله يعقوب عليه السلام، هي نتاج الأيديولوجيا التي صاغها الكاهن الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر، في كتابه "المسيح ولد يهودياً"، وتبنّاها أبو الصهيونية اليهودية "تيودور هرتزل" بعد لقائه، في أحد بارات مدينة فيينا النمساوية، القنصل البريطاني البروتستانتيّ في نهاية القرن التاسع عشر، المُكلّف من الحكومة البريطانية الصهيونية ذات العقيدة اللوثرية الساعية، وفق قادتها، منذ القرن التاسع عشر إلى إنشاء دولة بهودية، تحقيقاً لحلم العودة الثانية للمسيح، وفق التصورات الغيبية اللوثرية.

لقد صنعت الأيديولوجيا الصهيونية البروتستانتيّة المُستعمَرة الصهيونية في فلسطين، وأطلقت عليها تسمية "إسرائيل" كي تكون بديلاً من فلسطين. وحتّى تثبّتها في الوعي الجمعي للمجتمعات الغربية، بل العالمية، قامت بإسكات التاريخ الفلسطيني ما قبل الإسلام، وجيّرت الصهيونيتَين المسيحية واليهودية، الجامعات والمعاهد الغربية لمحوه واستبداله بزائف مفبرك ومصطنع اسمه تاريخ إسرائيل القديم، بهذه المصطلحات زُرعت الأيديولوجيا المُؤسّسة للمُقدّس الغربي، أي الصهيونية، في عقول الناس في الغرب، وفُبرك معها مصطلح "تراث إسرائيل"، و"ملوك إسرائيل"، و"حكم إسرائيل"، و"اللغة العبرية" قديمة وحديثة، و"الشعوب الساميّة"، وغيرها من الفبركات التي غزت العالم وثُبّتت في الثقافة العالمية حقائقَ من دون أيّ إثباتات علمية أو تاريخية، وهذه كلّها تدخل في صياغة الأيديولوجيا، التي يُعرّفها قاموس علم الاجتماع باعتبارها "نسقاً من المعتقدات والمفاهيم (واقعية ومعيارية) تسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منطق يوجه ويبسط الاختيارات السياسية أو الاجتماعية للأفراد والجماعات وهي من منظار آخر نظام الأفكار المتداخلة كالمعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية وتبررها في الوقت نفسه".

لا يمكن فهم وجود "دولة إسرائيل" إلّا وفق هذا المنظور الأيديولوجي، فعندما يخاطب عضوُ أحدِ لجان الكونغرس الأميركي من الحزب الجمهوري، ريك ألين، رئيسة جامعة كولمبيا نعمت شفيق، بشأن نصّ من التوراة، وتحديداً؛ الإصحاح الثاني عشر، ويسألها: "هل قرأت كيف أنّ الرب قطع عهداً مع النبي إبراهيم، أنّكَ إن باركتَ إسرائيل فسأباركُك"، ومع أنّ الربّ لم يقل ذلك في النصّ المشار إليه، والإصحاح، طبعاً، لم يذكر كلمة إسرائيل، نبيّ ولا دولة ولا قبيلة ولا شعبٌ، ولجهل نعمت شفيق المسلمة بما ورد في الإصحاح لم تجبه، لكن، لأنّ هذه أيدولوجية بروتستانتيّة مُعلّبة، ردّدها عضو الكونغرس، كما يردّدها غيره من سياسيي الغرب ورجال دينهم من الكهنة، مُقدّساً أيديولوجياً غير قابل للدحض أو التشكيك، وقد عاد رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون لترديد العبارة نفسها، لكن، بطريقة أكثر أيديولوجية بقوله، في ذكرى إنشاء الكيان الصهيوني، "الليلة نحتفل بأكثر من 76 عاماً من الإنجازات؛ نحتفل بتحقيق الوعود التي قُطعت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قبل آلاف السنين. نحتفل بوعود أسقطت الخلافة الإسلامية والإبادة النازية. الحلم الصهيوني أصبح حقيقة".

ولا يمكننا فهم التلاقي التامّ في التصريحات، بين كلّ من الجمهوري، عضو الكونغرس ليندسي غراهام، وعضو حكومة العدو، عميحاي إلياهو، بمطالبتهما قصف قطاع غزّة بالأسلحة النووية، ومحوه من الوجود، ولا يمكن فهم كيف تدعم الإدارات الأميركية المتعاقبة دولة الاحتلال بمبالغ سنوية تفوق سبعة مليارات ونصف مليار دولار سنوياً، تُجمع من جيوب الشعب الأميركي في شكل ضرائب، رغماً عن إرادتهم. ويبدو أنّ ذلك هو ما يحصل في معظم دول أوروبا الغربية، خصوصاً البروتستانتيّة منها، كبريطانيا وألمانيا، وكذلك، هناك حصّة ما من أرباح عديد من الشركات العابرة للقارّات، ذات العلامات التجارية البارزة مثل "ماكدونالدز " و"KFC" و"ستاربكس" و"ZARA"، وعشرات الشركات الأوروبية والأميركية والأسترالية وغيرها، بل إنّ تبنّي رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون ديرلاين السردية الصهيونية بشأن الوضع في فلسطين "أنّها كانت أرضاً بلا شعب وصحراء عمّرها اليهود الصهاينة" دليل آخر على أنّنا نتحدّث عن أيديولوجيا دينية غيبية، مُتعدّدة الطبقات، يبدو فيها أنّ اليهود المُنتمين، على عكس الشائع، أقلّيّة، بينما الصهاينة المسيحيون من البروتستانت هم الأكثرية العظمى، وعليه، نحن نتحدّث عن عشرات الملايين من المسيحيين الصهاينة في دول مثل الولايات المتّحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا والدنمارك وألمانيا وهولندا، وغيرها، بينما الأمر لا يتجاوز عشرة ملايين يهودي في كل أنحاء العالم، على أبعد التقديرات. بل هناك مُؤشّرات على أنّ الأيديولوجيا الصهيونية تجاوزت العالم المسيحي البروتستانتيّ التقليدي، واخترقت مجتمعات أخرى، من خلال حركات دينية مثل "شهود يهوه"، التي تنشط في البلدان المسيحية الشرقية، والدول الإسلامية ومنها العربية، وتنشر الأيديولوجيا الصهيونية.

وكشفت الحرب الصهيوأميركية على غزّة إبّان ثورة الجامعات الأميركية والأوروبية أنّ كلّ ما كان يشاع عن التكنولوجيا الإسرائيلية المُتطوّرة، مدنية وعسكرية، هو في الأساس غربي تُنتجه الجامعات والمعاهد الأميركية مثل جامعات كولمبيا ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا وجامعات كاليفورنيا ونيويورك، وعشرات غيرها، لإشاعة انطباع بالمعجزة اليهودية الصهيونية مقابل التخلّف العربي. ولأنّ إسرائيل أيديولوجيا لا دولة فقط، حوّلتها النُّخب الأميركية والأوروبية إلى بقرة مُقدّسة يُمنع مسّها وانتقادها أو معاقبتها، لذلك، يمكن للمرء أن ينتقد الرئيس الأميركي والكونغرس والكنائس، بل حتّى الاستهزاء بالسيد المسيح بن مريم عليه السلام، وأيّ شيء آخر في أميركا وأوروبا مهما علا شأنه، لكن، لا يمكن فعل ذلك في ما يتعلّق بإسرائيل، سياسياً، أو حتّى التشكيك فيما فُبرك لها من تاريخ وأساطير مُؤسّسة.

كشفت حرب غزّة أين تكمن مُعضلة النضال الفلسطيني التحرّري ومعيقاته خلال العقود الماضية، إذ برهنت الأحداث والمواقف أنّ الأيدولوجيا الصهيونية اليهومسيحية هي حائط الصدّ الصلب الذي يمنع الانتصار الفلسطيني حتّى في الحدّ الأدنى. من بركات "طوفان الأقصى" أنّه قسّم العالم إلى فسطاطَين؛ إنسانيين (أصحاب ضمير إنساني) وصهاينة (تجرّدوا من الشعور الإنساني، يباركون الإبادة الجماعية ويبررونها). الأميركي والأفريقي والأميركي اللاتيني والأوروبي لم ينتفضوا في الشوارع والجامعات للوقوف في جانب الفلسطيني لأنّه المظلوم، مع أنّ هذا دافعهم الأول، بل انتفضوا، أيضاً، بشكل غير مباشر، لشعورهم أنّه يتمّ استغلالهم واستخدام أموالهم وعلمهم وحياتهم في سبيل أيديولوجيا غير إنسانية مُجرمة تبيح استعباد البشر وسلب أوطانهم وتهجيرهم قسراً، واحتقارهم في سبيل غايات دينية لاهوتية غيبية تهدف إلى خاتمة تقود إلى حرب إبادة عالمية يُطلق عليها "هرمجدون".

في قراءة لتأثير حرب غزّة على الضمير الإنساني، وبحسب الإحصاءات في مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح أنصار فلسطين بالمليارات، بينهم يهود غير صهاينة أو بعد حرب الإبادة تخلوا عن صهيونيتهم، بينما أنصار الصهيونية؛ دولةً وأيديولوجيا لا يتعدّون بضعة ملايين. في الإجابة عن السؤال العنوان، نقول: إنّ فلسطين الوطن باقية، وستستمر في الوجود ما دامت الأرض هي الأرض والسماء هي السماء، لكنّ إسرائيل الأيديولوجيا والدولة باتت محلّ سؤال وتساؤل كبيرين، حتّى بين قياداتها المسيحية واليهودية، لكنّ نهايتها أو هزيمتها ما زالت في بداياتها، والمستقبل لن يكون في مصلحتها بعد أن عُرّيت تماماً.