شبكة قدس الإخبارية

قرار مدعي عام الجنائية الدولية.. عن عدالة مختلّة في عالم فاسد

قرار مدعي عام الجنائية الدولية.. عن عدالة مختلّة في عالم فاسد
ساري عرابي

يمكن القول الآن: أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي، لكنّ المجيء المتأخر جدّا للمؤسسات العدلية الدولية؛ كان ثمنه الإبادة الجماعية التي لا تزال جارية على الفلسطينيين في قطاع غزّة. إنّ الثمن الذي اضطر كريم خان، مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، للتحرك، كان أكبر من أن يوصف بالباهظ وأشدّ من أن يوصف بالفادح، إذ مجموع الجرائم الإسرائيلية في غزّة، فوق أن توصف بالإبادة، واللغة متخلّفة جدّا عن اللحاق بهذا المستوى من السحق الممنهج والشامل لكل ما يقع في حدود قطاع غزّة.

إلا أنّ هذا المجيء اتسم بالعرج، وافتقد الاستواء المطلوب، وظلّ مختلا وإن بدرجة أقل من قبل. وقبل بيان بعض أوجه القصور في قرار كريم خان، وما يدلّ عليه هذا القصور من اختلال عالميّ فاضح، وغلبة للفساد المهيمن على العالم؛ فينبغي إجرائيّا التأكيد على أنّ النقد الموجه لبعض مضامين قرار كريم خان، لا يعني الغفلة عن التحوّل المهمّ نحو ملاحقة "إسرائيل" التي بات حماتها ورعاتها غير قادرين على إنكار اقترافها جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وأنّ هذا التحول تاريخيّ، مهما اعترى مقدماته من قصور وخلل، مما يعني أن "إسرائيل" باتت في موضع مختلف عمّا كانت عليه طوال تاريخها منذ اصطناعها وحتى اللحظة.

وبعد القفز عن كون كريم خان قد جعل حماس في دائرة الاتهام نفسها، مع "إسرائيل" مطالبا باعتقال ثلاثة من قادتها، مما يعني أنّ القانون الدولي نفسه مختلّ، وسدنته جزء من هذا الاختلال، لأنّه لا يراعي خصوصية القضية الفلسطينية، وكونها قضية تحرر، وكون "إسرائيل" بالكامل مستوطنة معسكرة، وأنّه لا يجوز في الأحوال كلها ببداهة النظر والأخلاق المساواة بين الدولة المعتدية المتفوقة تقنيّا فالقادرة على ضبط فعلها الحربي بدقة والمقاومة المشروعة محدودة الإمكان، كما لا يجوز المساواة بين فعلين مختلفين في السياق والحجم، ولا شرعنة فعل الدولة المعتدية تحت عنوان "حقها في الدفاع عن نفسها" في إطار نقد طرق هذا الحق وأشكاله مع الطمس الكامل لحق الشعب الخاضع للاحتلال في مقاومته.

فلنتجاوز عن ذلك، بما في ذلك اتهامه لحماس "بأخذ رهائن بما يعد جريمة حرب" دونى أدنى ذكر للانتهاكات الإسرائيلية الفادحة بحقّ أسرى قطاع غزّة بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ولنضع ذلك كلّه في السياق المفهوم للكيفيات التي تنظر فيها المحكمة، بوصفها واحدة من أدوات النظام الدولي، للقضية الفلسطينية ومقاومة الشعب الفلسطيني وحركة حماس على وجه الخصوص، ولنتحدث عن بعض الصيغ المختلّة بنحو واضح في قرار كريم خان، مما يؤكد المواءمة المسيسة لمحكمة لم تجد بدّا من التحرك النسبيّ ضد "إسرائيل" لحماية مشروعيتها (أيّ مشروعية المحكمة وما تمثّله من نظام دولي) ومبرّر وجودها، فاصطنعت حيادا زائفا بين المعتدي والمعتدى عليه، والمحتلّ والمقاوم. والحياد بمجرّده في هذه الحالة انحياز، فكيف والحال على ما سوف يأتي تفصيله من صيغ منحازة بوضوح لـ"إسرائيل".

أولا- اتهمت المحكمة حماس باقتراف ما أسمته "Extermination"، والذي يعني بحسب قاموس كامبريدج: " The act of killing all the animals or people in a particular place or of a particular type"، فالـ"Extermination" تعني القتل الواسع لنوع معين من المخلوقات أو فئة معينة من البشر في مكان معيّن، ولذلك فالمحكمة نفسها حين ترجمتها القرار إلى العربية، ترجمت "Extermination" إلى إبادة، دون أن تعني بذلك "Genocide" (الإبادة الجماعية) بالمفهوم القانوني، فالمحكمة الجنائية الدولية تنظر في جرائم الأفراد ولا تنظر في قضايا الإبادة الجماعية التي يُعبّر عنها بـ"Genocide"، على الأقل في حدود فهمي، بينما الذي ينظر في قضايا الإبادة الجماعية محكمة العدل الدولية كون الدول هي التي تقدر على ممارسة الإبادة الجماعية لا الأفراد.

إلا أنّ مصطلح "Extermination" يزيد على مفهوم القتل، فهو قتل واسع يقترب من معنى الإبادة الجماعية، فكيف اتهمت المحكمة الطرفين باقتراف الـ"Extermination"؟ هل استخدمته بنحو متوازن حتى في إطار اللاتوازن التأسيسيّ الذي تحدثنا عنه؟! أم بنحو مختلّ، هو بمجرد اختلاله انحياز للاحتلال؟!

أوّل تهمتين وجّهتهما المحكمة لحماس هما: "Extermination as a crime against humanity, contrary to article 7(1)(b) of the Rome Statute;

Murder as a crime against humanity, contrary to article 7(1)(a), and as a war crime, contrary to article 8(2)(c)(i)";

وترجمتهما العربية بحسب المحكمة نفسها: "الإبادة باعتبارها جريمة ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (ب) من نظام روما الأساسي؛

والقتل العمد باعتباره جريمة ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (أ)، وباعتباره جريمة حرب، بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1)؛"..

مع التأكيد على أن مفهوم الإبادة هنا، غير ذلك الذي يُعبّر عنه بـ "Genocide"، إلا أنّ المهمّ أن مدعي عام المحكمة جزم بأن حماس اقترفت فعلا كلا من: القتل الواسع بهدف القضاء على مجموعة بشرية معينة في مكان معين إلى جانب القتل العمد، لكنه لم يجزم بذلك حينما اتهم "إسرائيل" بالتهمة نفسها فعبّر عن ذلك بـ:

"Extermination and/or murder contrary to articles 7(1)(b) and 7(1)(a), including in the context of deaths caused by starvation, as a crime against humanity;".

وترجمتها العربية بحسب موقع المحكمة نفسها: "والإبادة و/أو القتل العمد بما يخالف المادتين 7 (1) (ب) و7 (1) (أ)، بما في ذلك في سياق الموت الناجم عن التجويع، باعتباره جريمة ضد الإنسانية؛".

ففي حين أنّه جزم بأن حماس اقترفت كلا من الـ"Extermination" و" Murder"، فإنّه تردّد وجعل الأمر محتملا وقابلا للنظر بالنسبة لـ"إسرائيل"، فاتهم هذه الأخيرة بأنها اقترفت "Extermination and/or murder"، أي أنها متهمة بالقتل الواسع بهدف القضاء على مجموعة معينة من البشر في مكان معين (و/ أو) القتل العمد، فمن المحتمل أنها اقترفت الأمرين، أو أحدهما، مما يعني أن المدعي العام للمحكمة لا يجزم في اتهامه لـ"إسرائيل" باقتراف الـ"Extermination"، كما جزم بذلك حين اتهام حماس، وهو ما يمنح "إسرائيل" احتمال البراءة من هذه التهمة، وثمة ما يمكن قوله من حيث تصنيف القتل العمد والاختلاف في صياغة التهمة نفسها بين حماس و"إسرائيل"، ولكن نكتفي بالوقوف عند التباين في مسألة الـ"Extermination".

وفي السياق نفسه، والحديث عن القتل الواسع؛ لا يمكن أن نفهم لماذا تغافل كريم خان عن المقابر الجماعية التي دفن فيها جيش الاحتلال الفلسطينيين في غزة، وهي أدلة تفوق حتى ما تفيده مفردة "Extermination"، كذلك لماذا أغفل تدمير المشافي والمرافق الصحية (وبعضها حوّلها الاحتلال إلى مقابر جماعية) وهي أيضا أدلة على تعمّد سحق الحياة البشرية في غزّة بنحو يفوق في قسوته القتل المباشر.

ثانيا- اتهمت حماس بـ"الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (ج)، وباعتباره أيضا جريمة حرب عملا بالمادة 8 (2) (ه) (6) في سياق الأَسر؛".. ولا يمكن بحال عدّ هذه التهمة بريئة، وهي لا تستند إلى أيّ دليل مادي، سواء في وقوع الاغتصاب، أو في مسؤولية القادة الثلاثة عنها في حال وقوعها (هنية، والسنوار، والضيف)، فقد تبين بنحو قاطع عجز "إسرائيل" عن إثبات هذا الادعاء، وكلّ ما قدمته ثبت كونه أدلة مصطنعة جرى تفنيدها وتكذيبها، فالعودة لإحياء هذه الكذبة في قرار كريم خان هو تكريس للسردية الإسرائيلية ومحاولة لنفخ الروح في المظلومية الإسرائيلية.

ثالثا- لا يمكن أن تفهم لماذا لم يضمّن كريم خان قراره المطالبة باعتقال رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي إلى جانب نتنياهو رئيس وزراء "إسرائيل" وغالنت وزير حربها، وذلك في حين أنّه طالب باعتقال ثلاثة من قادة حماس سبق ذكرهم، ومع أنّه يستحيل جعل هنية بوصفه قائدا سياسيّا لحماس على قدم المساواة مع نتنياهو الذي لا يمكن الشكّ في مسؤوليته التنفيذية العليا عن قرارات جيش الاحتلال بخلاف حركات المقاومة، وهو ما يعني أن هنية وضع اسمه بلا أدنى مبرر، إلا أن يكون لأغراض التوازن مع "إسرائيل" في مقابل نتنياهو، فلماذا لم يوضع هاليفي في مقابل محمد الضيف، وهو المسؤول المباشر عن جيش الاحتلال؟!

نحن هنا نتحدث عن القرار الأوّلي، ولا يمكن التأوّل لكريم خان في هذه الحالة، أو الدفاع عنه، فلا تفسير لتجنيب هاليفي الملاحقة، إلا بالرغبة في تجنيب مؤسسة الجيش الإسرائيلي وصمة اقتراف جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية.

كلّ ما سبق لا يلغي أهمية أن تصبح "إسرائيل" ملاحقة، وأنّ هذا تحوّل بالفعل، لكن ذلك أيضا بدوره لا يلغي أنّ القرار نفسه يكشف عن كون الحياد الذي فيه مسيس ومصطنع ويخلو من التوازن حتى في إطار الحياد المصطنع، وهو ما يفرض علينا النظر إلى المحاكم الدولية بوصفها من أدوات الهيمنة الغربية على العالم، وأنها منحازة ميكانيكيّا بالفطرة والغريزة للعالم الغربي ضد العالم خارج المجال الغربي. ولا نقصد بوصفها أداة هيمنة ذلك المعنى التسطيحي المؤامراتي، ولكن بالمعنى المفاهيمي والسياقي، فالقانون الدولي ومؤسساته أبناء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وقد جرى تكريسهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وفهمهم للحريات وحقوق الإنسان هو الفهم الليبرالي الغربي، وفهمهم للصراعات الدولية منبثق عن النظام الدولي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة.

وينبغي أن نكون في غنى إزاء قضية بدهية كهذه عن عقد المقارنات بخصوص سلوك كل من المحكتين العدل الدولية والجنائية الدولية مع كل من الحالة الأوكرانية والحالة الفلسطينية، وفي غنى عن التذكير بزيارة كريم خان لكيبوتسات "بئيري" و"كفر عزة"، وهو ما ذكره في تقريره، ولا نعلم أنّه زار أيّ مكان فلسطيني بغزّة، وقد ذكر هو نفسه أنّ طاقم مكتبه زار ستة مواقع إسرائيلية ولا نعلم أنّ الأمر نفسه حصل مع أيّ موقع فلسطيني بغزّة، وذلك بالإضافة لاعتماده، في جملة ما اعتمد عليه، على التحقيقات الإسرائيلية التي انتزعت اعترافات تحت التعذيب من أسرى فلسطينيين، ولغته العاطفية عن الآلام الإسرائيلية يوم السابع من أكتوبر، كقوله على لسان من استمع إليهم من "ناجين إسرائيليين": "كيف أن الحب بين أفراد الأسرة، وأعمق الأواصر التي تجمع بين الآباء والأبناء، شوّهتِ بغية إلحاق الألم بالناس بقسوة مدروسة وغلظة مفرطة بشكل لا سبيل لاستيعابه"، لكننا لم نسمع منه مثل هذه العاطفة على لسان ناجين فلسطينيين بالرغم من أنّ مكتبه (لا هو) استمع لناجين فلسطينيين.

على ذكر الناجين؛ ذكر كريم خان الناجين الإسرائيليين أربع مرات، والناجين الفلسطينيين مرّة واحدة، وشكر شجاعة الناجين الإسرائيليين لإدلائهم بشهاداتهم ولم يشكر الناجين الفلسطينيين! حتى في اللغة العاطفية كان عاجزا عن التوازن! فالعاطفة أصدق تعبيرات الإنسان والتوازن فيها مستحيل بين طرفين تتجه العاطفة لكلّ منهما بنحو مناقض للآخر!

إنّ فهم أدوات الهيمنة، وبيان أوجه الخلل والقصور في العدالة المدفوع ثمنها من الآلام المتعالية على الوصف أو التصور لأهالي قطاع غزة الملاحقين بالإبادة والتجويع وتدمير كل ما عرفوه من معالم الوجود والحياة؛ لا يعني الكفّ عن محاولة الاستثمار في كلّ ما أمكن تخليصه من فساد هذا العالم ولو كان مشوبا بالفساد، فالأمر ليس ثنائيات متقابلة من الخير الخالص والشر الخالص، وإنما هو موقف مركب نبحث فيه عن الخير ونفضح فيه الفساد والمخادعة والتغطي بادعاءات بالخير المغشوش!