تحاول حكومة الحرب الإسرائيليّة المراوغة في التعامل مع الاتفاق الإطاري، الذي أعلنت حركة المقاومة الإسلامية حماس، وبالنيابة عن قوى المقاومة، الموافقة عليه، ولعلّ السيطرةَ على معبر رفح الحدودي – والذي يعد صلة الوصل الوحيدة لقطاع غزة مع العالم الخارجي، والتلويح باجتياح مدينة رفح – جزءٌ من هذه المحاولة.
الاتفاق يتكون من 3 مراحل، حيث يفضي في مرحلته الأخيرة إلى وقف كامل للأعمال العدائية والعسكرية، أي وقف كامل لإطلاق النار ونهاية العدوان. وبما أن المرحلة الأولى من الاتفاق تنص على وقف مؤقت لإطلاق النار، وتبادل محدود للأسرى، فإن التساؤل حول فرص استمرار الاتفاق، والانتقال به إلى المراحل الأخرى، وصولًا لنهاية الحرب، يبدو منطقيًا للاعتبارات الآتية:
عدم إنجاز الاحتلال أهدافَه المعلنة للحرب، التي يمكن أن تسوق أمام الجمهور الإسرائيلي على أنها نصر مطلق، كما أطلق عليه بنيامين نتنياهو، رغم مرور أكثر من سبعة أشهر على اندلاعها. ما زال موقف غالبية الجمهور الإسرائيلي يؤيدون استمرار الحرب، ولا يبدو أن تحولًا جديًا حدث على موقفهم حتى اللحظة، إذا لم نشهد احتجاجات أو مسيرات مؤثرة تدعو إلى وقف الحرب. ما زال نتنياهو يتمتع بأغلبية برلمانية مستقرة داعمة لحكومته، 64 عضوًا في الكنيست من أصل 120، وهي كتلة متماسكة ومنسجمة سياسيًا وأيديولوجيًا. غياب الضغط الكافي، حتى اللحظة، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي الذي يجبر الاحتلال على وقف عدوانه.
من جانب آخر تتوافر العديد من العوامل الضاغطة التي تشير إلى إمكانية تطبيق كافة المراحل، وصولًا إلى وقف العدوان. وهي عوامل يعتدّ بها، ويرجّح أنها ستكون كافية للتأثير في سلوك الأطراف المختلفة، وسيكون تأثيرها أكثر فاعلية وأعمق أثرًا مما ذكر سابقًا، وستدفع باتجاه وقف هذه الحرب الدموية والعبثية على الشعب الفلسطيني ومن أبرزها:
الصمود الفلسطيني الذي يشكّل أولًا وأخيرًا حجر الزاوية ونقطة القوة الأساسية في المواجهة، وهو في ذات الوقت نقطة الضعف والتحدي المركزية لدى الاحتلال. فلا هجرةَ، ولا استسلامَ ولا ضغطَ على قيادة المقاومة، بل هناك استبسال وصمود وتحدٍّ منقطع النظير. التطور المستمر في البيئة الدولية، وبالذات الشعبية منها، التي لم تعد تحتمل كل هذا القدر من الجرائم والوحشية الصهيونية، التي كشفت الوجه الحقيقي للاحتلال، فلا هو امتداد مشرّف للحضارة الغربية، ولا دولة ديمقراطية تعتنق القيم الديمقراطية والإنسانية السامية، وإنما تسيطر عليه الرغبة الجامحة في القتل والتعذيب، والإبادة، ترجمها عمليًا بهذا الحجم من التوحّش والبربرية.
كما أن هذه الجماهير بدأت تعي وتتفهم أن لدى الفلسطيني قضيةً عادلة ومحقّة، وأن نضاله وصموده والقيم التي يعتنقها هي التي تتقاطع مع ما لديهم من قيم إنسانيّة كالحرية والعدالة والتحرر، ولعل من أبرز معالم التحول في هذه البيئة، انتفاضة طلاب الجامعات، والتحوّل في رأي الشباب، تحديدًا في الولايات المتحدة الأميركية؛ معقل رعاة الحرب.
البيئة الإقليمية، أيضًا، لا تلعب لصالح الاحتلال، وتتطور باستمرار ولو بشكل محدود لصالح الفلسطينيين، فالتصعيد الكبير الذي حدث مع إيران وما أحدثه من آثار على مستويات عدة، والتصعيد المستمر في لبنان واليمن، يساهم ذلك في تقوية الموقف الفلسطيني.
يضاف إلى ذلك تنامي المواقف والجهود الدبلوماسية والسياسية المبذولة من دول عدة في الإقليم من أبرزها مصر وتركيا وقطر، تهدف إلى وضع حد للعدوان الإسرائيلي، ووقف الحرب بما يلبّي المطالب الفلسطينية.
التحوّل في بعض المواقف داخل الكيان، حتى وإن كانت حتى اللحظة غير كافية لتغيير موقف الحكومة، لكنّها ذات تأثير متزايد، ويحسب نتنياهو وحكومته حسابها جيدًا. فعائلات الأسرى لدى المقاومة يتحرّكون باستمرار، وقد زاد موقفهم قوة بعد موافقة المقاومة الفلسطينية على ورقة الاتفاق الإطاري لوقف الحرب.
وفي ذات الوقت ترتفع أصوات العديد من الخبراء وكبار المسؤولين السابقين – مثل إيهود باراك، وإيهود أولمرت – الذين يطالبون بوقف الحرب ويعلنون فشل الحكومة والجيش في تحقيق الأهداف، وضرورة الإقرار بذلك وتبنّي مقاربة جديدة للتعامل مع الأزمة تستند لرؤية سياسية.
يضاف لذلك ظهور تقييمات عسكرية تشير إلى عبثية الحرب، وعدم القدرة على إنجاز الأهداف بعد مرور كل هذا الوقت، وأن الزمن لا يلعب لصالح الجيش وخططه العسكرية، حتى لو أُعطي فرصًا إضافية.
ختامًا؛ تحاول الحكومة الإسرائيلية وضع العراقيل أمام هذا الاتفاق، وستحاول تغيير بعض بنوده، وبالذات تلك المتعلقة بالأسرى، والوقف الكامل لإطلاق النار، لكن الأرجح أن هذه المحاولات، وإن نجحت في تأخير تنفيذ الاتفاق، فإنها لن تنجح في وقفه وتعطيله. ذلك أن المفاعيل التي أفرزتها الموافقة الفلسطينية على الاتفاق، من خلال التفاوض مع الولايات المتحدة والوسطاء القطريين والمصريين، يصعب مواجهتها أو إيقافها.
كما أن هذا الاتفاق وما يرافقه من ديناميات، إن لم يتمكن من وقف الحرب في نهاية المطاف، فستكون المقاومة الفلسطينية، وعبر مرحلته الأولى على الأقل التي من المرجح أن تنفذ، قد قدمت ما عليها، وتعاملت بقدر عالٍ من المرونة والحكمة السياسية، إذ بدت متجاوبة مع رغبة الأصدقاء في الإقليم والعالم، وكذلك نزعت فتيل الضغط الأميركي وفوّتت الفرصة على نتنياهو، وكل من يرغب في إلقاء اللوم على المقاومة في استمرار الحرب.
كما أنَّها لم تخسر مما لديها من أوراقٍ، الكثيرَ، بل إنها قد تعزز من أوراقها السياسية والعسكرية، وسيبقى لديها عدد كبير من الأسرى من الضباط والجنود الإسرائيليين الذين لن يتجرأ أحد على المطالبة بالإفراج عنهم دون مقابل كبير، وستعطي هذه المرحلة للشعب الفلسطيني في غزة فرصة للالتقاط الأنفاس، وستشكل لمقاتلي المقاومة استراحة محارب تعينهم على الاستمرار في معركتهم الوطنية والإنسانية المشرّفة.