خاص قدس الإخبارية: قرابة الشهر من الجمود التفاوضي بعد تقديم المقاومة ردَّها الأخيرَ المؤرَّخَ في الثالث عشر من نيسان/أبريل الماضي، لم يَقبل فيه الاحتلال أن يناقِش الردَّ المُقدَّمَ، وأغلَق أبوابَ التفاوضِ مراهنًا على إمكانية حصوله على أوراق تَقلِب المشهدَ التفاوضيَّ لصالحه، وتسمح له بانتزاع تنازلات جوهرية من المقاومة.
نجحت المقاومة على مدار جولات التفاوض في نقل المُقدَّم لها من خطوطٍ عامة، هادفةٍ فقط لإنجاز عملية تبادل صيغت في باريس، إلى نقاش تفصيلي في اتفاق شامل تُثبِّت فيه المقاومةُ اللبناتِ الأولى لإنهاء حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، والأرضيةَ المناسبةَ للوصول إلى اتفاقٍ تَطمَح لأن يلبي طموحاتِ شعبها. وعلى الرغم من أن المقاومة قد أبدت مرونةً كافيةً في العديد من العناوين، شكَّل التمسكُ بمطلبَي عودة النازحين إلى شمالي قطاع، وانسحاب جيش الاحتلال من أراضي القطاع، مع تأكيد أن الاتفاق اتفاق على وقف شامل لإطلاق النار، أهمَّ العناوين التي تمترست المقاومة على الامتناع عن إبداء تنازلات فيها، في الوقت الذي خفَّضَت سقفَها بدرجة كبيرة جدًّا فيما يتعلق بعنوان التبادل، والمفاتيح الخاصة بالأعداد والنوعيات.
العرض الجديد المطروح الذي أُحيطَ بتغطية إعلامية واسعة هدفت إلى خلق ضغط كبير على المقاومة وتحويله إلى أمر واقع، والذي وُصِفَ بـ"السخي"، وإعلان الرئيس الأمريكي، "جون بايدن"، أن رد حركة "حماس" على العرض إيجابيًّا، وتأكيد وزير خارجيته، "أنتوني بلينكن"، بأنه يجب الموافقة على المُقدَّم، والعرض الذي قدَّم في خلاله الوسيطُ المصريُّ مقارباتٍ تَجسِر الهوةَ بين الاحتلال والمقاومة، حَملَ العديدَ من جوانب التقدم التي وافق عليها الاحتلال بعدما رفضها كثيرًا فيما سبق، إلا أنه يَحمل في طياته العديد من الملاحظات الجوهرية التي تحتاج للوقوف أمامها.
أبرز الملاحظات والثغرات في العرض المُقدَّم:
- ينص العنوان على أن الاتفاق يهدف إلى الوصول إلى "تبادل المُحتجَزين والأسرى بين الجانبين وعودة الهدوء المُستدام"، وتكررت عبارة "الهدوء المستدام" في الفقرة التالية متبَعة بجملة "بما في ذلك إجراء ما يلزم للتوصل إلى وقف إطلاق النار"، ما لا يَحمِل أية صيغة إلزامية لكون الاتفاق الحالي مسارًا جديًّا لوقف إطلاق النار. إن عبارة "الهدوء المستدام" التي ورد استخدامها للمرة الأولى في تصريح للبيت الأبيض، وتوالَى استخدامها في التصريحات الأمريكية في الأشهر الثلاث الأخيرة، لا تَحمِل في طياتها الصيغةَ الجازمةَ لوقف إطلاق النار، وتترك هوامش فضفاضة في تفسيرها بعد انقضاء مراحل الاتفاق الخاصة بتبادل الأسرى، ويرد المصطلح ذاته في البند الخاص ببدء عملية التفاوض بعد إطلاق سراح نصف المحتجَزين، وبما لا يتجاوز ستة عشر يومًا من الاتفاق، للوصول إلى الترتيبات اللازمة لعودة "الهدوء المستدام"، والأمر سواء في نص البند الأول من المرحلة الثانية.
- حول الطيران (العسكري والاستطلاع) في قطاع غزة، ينص العرض الجديد على إيقافه ثماني ساعات في اليوم، ولمدة عشر ساعات في أيام إطلاق سراح المُحتجَزين والأسرى، بينما نصَّ مطلب المقاومة على أن تتوقف كل أشكال الطيران العسكري والاستطلاع.
- في البند الخاص بالعودة، فإنها تبدأ حسب العرض الجديد بعد اليوم السابع وانتهاء إطلاق سراح جميع النساء الأسيرات لدى المقاومة، مخالِفًا بذلك مطلبَ المقاومةِ بعودة غير مشروطة.
- في البند ذاته الخاص بالعودة، يَحمِل البندُ تحديدَ العائدِين المسموح لهم بالعودة بأنهم (المدنيين غير المُسلَّحين)، دون تحديدٍ واضحٍ لآليات الرقابة على كون العائدِين مسلَّحِين أو لا، أو مَن الذي يتولى مهمة الإشراف، وما تعريف المسلَّح إن كان من يَحمِل السلاح في خلال عودته، أو المُصنف لدى أجهزة أمن الاحتلال بأنه "مسلَّح"؟ وكيف سيُتعامَل مع من تشتبه به "إسرائيل" بأن "مسلَّح"، ما يجعل هذا البندَ يحتاج إلى توضيحات تفصيلية كي لا يتحول إلى أداة تسمح للاحتلال باختراق التهدئة واستهداف النازحين العائدين إلى منازلهم تحت مبرِّر أنهم مسلَّحين محتمَلين.
- في مفاتيح عملية التبادل، ينص العرض الجديد على أنه مقابل كل أسيرة من النساء والأطفال وكبار السن عشرون أسيرًا، فيما كان مطلب المقاومة أن المفتاح ثلاثون أسيرًا مقابل كل أسير لدى المقاومة من الفئات المذكورة، فيما حدَّد العرضُ المصريُّ الجديدُ شرطًا في تبادل كبار السن أن الأسرى المطلَق سراحهم مقابلهم (لا يزيد المتبقي من محكوميتهم عن عشرة أعوام)، وهو اشتراط يَحدُّ من خيارات المقاومة في اختيار الأسرى ضمن الصفقة.
- في البند الخاص بالأسيرات المجنَّدات، خُفِّض العدد من خمسين أسيرًا طالبت بهم المقاومة إلى أربعين أسير، فيما منحت "إسرائيل" صلاحية رفض مِائتَي اسم من الأسماء المقدَّمة، مع الشرط ذاته المرتبط بالمحكوميات (لا يزيد المتبقي من محكوميتهم عن عشرة أعوام).
- تجاوَزَ العرضُ المُحدَّثُ أيةَ إشارةٍ لمصير أسرى "شاليط" (الذي سبق وأبدت "إسرائيل" مرونةً بشأن إطلاق سراحهم).
- يَمنح العرضُ المحدَّثُ صلاحيةَ إبعاد الأسرى من أحكام المؤبَّدات إلى غزة أو الخارج، وهو مخالِف لمطلب المقاومة بإطلاق سراحهم إلى أماكن سكنهم.
- يتيح البند الخاص بأسرى المقاومة الزائدِين عن الثلاثة والثلاثين المُتفَق عليهم للاحتلال إنهاءَ الهدوء فور إتمام هذه المرحلة في حال لم تُقدِّم المقاومةُ قائمةً بأسماء من استطاعت الوصول إليهم، إذ رُبِط تمديد أيام الهدوء وعددها بعدد الأسرى الواردة أسماؤهم في هذه القائمة.
- في المرحلة الثالثة، ينص الجزء الثاني من البند الثاني على امتناع الجانب الفلسطيني عن إعادة إعمار البنى التحتية والمُنشآت العسكرية، ولا يستورد أية معدات أو مواد أولية أو مكوِّنات أخرى تُستخدَم لأغراض عسكرية، ما يوحي ضمنيًّا باستمرار الحصار على قطاع غزة وإخضاع الواردات لقوائم المنع بما يشمل القوائم "مزدوجة الاستخدام" التي سبق أن استخدمها الاحتلال لسنوات في حصار قطاع غزة.
- تجنَّبَ العرضُ أية إشارة لتفاصيل أو مَطالب خارج قطاع غزة، خاصةً المطلبَين المرتبطَين بالمسجد الأقصى والوضع فيه، والبند الخاص بأوضاع الأسرى والعودة إلى أوضاع ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
أبرز الاختراقات الإيجابية في العرض المُقدَّم:
- تحقيق اختراق في عنوان الانسحاب الإسرائيلي، واستعداد الاحتلال للانسحاب من محور "نتساريم"، بدءًا بشارع الرشيد وصولاً إلى الانسحاب من شارع صلاح الدين.
- السماح بعودة غير مشروطة للنازحين إلى مناطق شمالي قطاع غزة (مع أهمية استيضاح النقطة الخاصة بغير المسلحين)، ودون أن يمر العائدون عن حواجز لجيش الاحتلال أو تواجد مباشر للجيش.
- إضافة نص واضح حول حرية الحركة في الاتجاهين من شمالي القطاع إلى جنوبيه.
- القبول بمطلب المقاومة المرتبط بعدد شاحنات المساعدات وتضمنيها شاحنات وقود تصل منها مِائتان وخمسون إلى شمالي قطاع غزة يوميًّا (تضمَّن البندُ انخفاضًا عن مطلب المقاومة بنحو مِائة شاحنة).
- تضمَّن العرضُ الجديدُ نصوصًا واضحةً خاصةً بإعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية والمستشفيات والمخابز، ما تجنَّب العرضُ السابقُ الحديثَ بوضوحٍ حوله بل اكتفى بتأهيل المستشفيات والمخابز فحسب.
- تضمَّن العرضُ الجديدُ نصًّا واضحًا حول الوقود الخاص بتشغيل محطة توليد الكهرباء، ما ينسجم مع مطلب المقاومة، وما سبق وأن تجاوزته العروض السابقة.
- القبول الإسرائيلي الواضح بإطلاق سراح أسرى من أصحاب أحكام المؤبَّدات مقابل المجندات، وهو خلاف ما نصَّت عليه العروض السابقة إذ اكتفت بتعريف أصحاب "الأحكام الثقيلة".
- النص الواضح حول البدء في ترتيباتٍ لإعادة الإعمار مسقوفة بمدة زمنية لا تتجاوز خمس سنوات.
خلاصة: على الرغم من وجود العديد من الملاحظات التي تحتاج في جوهرها إلى عملية استيضاح أو تفسيرات مُلزِمة، خصوصًا في تفسير مصطلح "الهدوء المستدام"، والمعايير الخاصة بعودة النازحين إلى مناطق سكنهم، وألَّا يُمنَح الاحتلالُ ثغراتٍ يمكن التسلل منها لانتهاك الهدوء أو العدوان على أبناء الشعب الفلسطيني. في الإطار ذاته، فإن المقاومة في حاجة إلى أن تضع قيود وصيغ أكثر إلزاميةً وأن تصرَّ على أن يتوسع عدد الضامنِين للاتفاق بما يشمل الأمم المتحدة ودول مركزية مثل روسيا أو الصين.
يدلِّل العرضُ الجديدُ بدرجة أساسية على نجاح المقاومة في انتزاع تنازلات جوهرية كان يَعدُّها الاحتلال خطوطًا حمراء، فيما استطاعت المقاومة الحفاظ على خطوطها الحمراء، مع تأكيد أن عامل الزمن لعِبَ لصالح المقاومة ولم تفلح مراهنات الاحتلال على عامل استنزاف المقاومة لانتزاع تنازلات جوهرية، خصوصًا بشأن القبول المستدام بوجود جيش الاحتلال على الأرض ومنحه إمكانية استئناف عدوانه من حيث انتهى.
تعكس الغيمةُ الإعلاميةُ الكبيرةُ التي رافَقَت تقديمَ العرضِ الحاليِّ حجمَ الضغوطاتِ الكبيرةِ الواقعةِ على كل الأطراف، خاصةً الولايات المتحدة، التي تدخل في مرحلة حرجة جدًّا مع دنو الموسم الانتخابي، واشتعال الجامعات الأمريكية بالمظاهرات الرافضة لحرب الإبادة على قطاع غزة وعدم نجاح خيارات القمع والاحتواء في الحد من تأثيرات هذا الحراك المتصاعد، ومن جانب آخر، فإن حكومة الحرب في دولة الاحتلال أمام معضلة الضغط المتصاعد لأهالي الأسرى، وتقلُّص الدعم الدولي لاستمرار الحرب إلى حدوده الدنيا، وتصاعُد الملاحقة القانونية الدولية لقادتها وقادة جيشها، واشتداد الضربات من الجبهات الإسنادية لقطاع غزة، فيما تُشكِّل احتمالاتُ شن العدوان على رفح عاملَ ضغطٍ كبيرٍ على الوسيط المصري الذي يَستخدِم كل أدواته في الضغط للوصول إلى اتفاق يحُول دون الوصول إلى هذه العملية التي تمسُ أمنَه القومي مساسًا مباشرًا، وتضعه أمام خيارات كلها صعبة، ما يجعل الموقف التفاوضي للمقاومة الموقفَ الأكثر ارتياحًا بعد فشل الاحتلال في تحقيق أية أهداف على مدار نحو سبعة شهور من العدوان الوحشي على قطاع غزة، ما يتيح لها هامشًا أوسَع للمناورة وتحقيق أفضل النتائج الممكنة، ولا ينبغي أن تسمح للمقاومة بأن يجري الضغط عليها برفع آمال الرأي العام الشعبي الطامح للوصول إلى اتفاق يَخلق حالةً من الهدوء للحاضنة الشعبية في قطاع غزة التي أُنهِكَت بفعل حرب الإبادة التي حرقت كل مقومات الحياة في القطاع.