شبكة قدس الإخبارية

تقريرالارتفاع الباهظ للأسعار بغزة.. الاحتلال و"تجار الحرب" يرهقون جيوب الغزيين

435212584_1473235733267390_2282056936465912205_n
يحيى اليعقوبي

قطاع غزة - خاص شبكة قُدس: بمجرد أن رد البائع على سؤال المواطن أحمد أبو شهلا، بينما كان يمسك حبة شمام واحدة وبيده ظرف نايلون أوشك على وضعها فيه بأن "سعر الكيلو الواحد منها يبلغ 20 شاقلا"؛ غيّر قراره بالشراء، فوضع قبلة على تلك الحبة مصحوبة بابتسامة ساخرة رسمتها ملامحه، تعلوها نظرة تعجب من غلاء سعرها، وأعادها إلى مكانها على بسطة بائع في سوق مركزي بحي "تل السلطان" بمحافظة رفح جنوب قطاع غزة.

لم يكن سعر كيلو هذا النوع من الفاكهة قبل الحرب على غزة يزيد عن 4 شواقل وأحيانا أقل من ذلك، ويطال غلاء الأسعار معظم المنتجات الأساسية والغذائية والمنتجات الزراعية واللحوم فأرهقت جيوب الأهالي وأوصلتهم لحافة الإفلاس، لعدة أسباب أولها الاحتلال الإسرائيلي وتحكمه بإدخال البضائع ومنعه دخول الكميات التي يحتاجها القطاع، وثانيها تحكم شركات استيراد ونقل البضائع بالأسعار، وثالثها غياب رقابة فاعلة من الجهات الوزارية المختصة في القطاع لضبط الأسعار بسبب ظروف الحرب وقصف مقراتها وعدم مقدرتها على العمل، فيترك السوق أمام العرض والطلب.

يقول أبو شهلا وهو يقف على ذات البسطة محاولا شراء بضع حبات خضار لإعداد طعام الغداء لـ "شبكة قدس": "لا أستطيع شراء الشمام، فالحبة الواحدة تزن كيلو غرام، وأحتاج 3 كيلو منها، ولا يوجد لدي مال بعد أن قصف بيتي وسيارتي وأصبحت لا أملك أي شيء".

وأضاف وهو يقلب كفيه بلهجة عامية "الواحد صار يخاف ينزل ابنه معه على السوق، عشان ما يشوف الشغلة ويقله بدي إياها".

بينما اضطر عماد راضي، الذي كان يقف بجواره، لشراء نصف كيلو من ورق العنب نتيجة ارتفاع سعر الكيلو الواحد منها ليبلغ 30 شاقلا بعد أن كان لا يتجاوز 10 شواقل قبل العدوان على غزة، ويقول: "تجولت في السوق ولم أجد طبائخ". وأضاف عن الغلاء وهو يعدد الأصناف "كيلو البندورة يبلغ 9 شواقل، الخيار مثله، الليمون 20 شاقلا، والبصل 15 شاقلا ووصل في وقت سابق 30-40 شاقلا".

"ارتفاع الأسعار أثر على حياتنا. ذبحنا ولا توجد لدينا أموال"، قال الستيني حماد الأخرس تلك الكلمات لبائع  الدواجن وهو يقلب كفيه بوجنتين رسم الغضب طريقه فيهما، وغادر المحل الواقع في أحد أسواق محافظة رفح، بعدما لم تنجح محاولته في العثور على كيلو غرام من اللحوم يناسب قدرته الشرائية.

وبلغ سعر كيلو غرام الواحد من صدر الدجاج 60 شاقلا، وهو ما اعتبره الأخرس "غلاءً فاحشًا" لا يستطيع شراءه كونه من منتفعي الشؤون الاجتماعية ولم يحصل على المخصصات التي كانت تصرفها السلطة منذ أكثر من عامين، فاقمتها حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023.

أمام هذا الارتفاع أقر الأخرس في حديثه لـ "شبكة قدس"، أنه سيضطر لطبخ الفاصوليا رغم كره أطفاله لتكراره طهيها، وقال بينما يقف أمام المحل التجاري على مرمى نظر البائع "الطفل ما بعرف أنه أبوه معوش مصاري".

يقول البائع المكنى "أبو زيد" لـ "شبكة قدس": إن "التجار يلجأون في بعض الأحيان لإشاعة وجود إغلاق في المعبر ليكون مبررا لرفع الأسعار وقد تكون الإشاعة غير صحيحة، الأمر الثاني عندما يكون تاجر اللحوم شركة واحدة فإن تاجر التجزئة يكون تحت رحمة سعرها".

الأمر الثاني الذي يرى له علاقة بالغلاء، هو ترتيب دخول الشاحنات بحيث "لا تعطى بعض الأصناف أولوية" ففي كثير من الحالات كانت شاحنات اللحوم الأقل إدخالاً، بينما دخلت شاحنات مكملات حياتية هناك من هو أولى منها.

5 شركات متحكمة

بحسب إفادة تجار لـ "شبكة قدس"، هناك خمس شركات معروفة في قطاع غزة تتحكم في نقل وتنسيق  البضائع وتقوم بنقل كل المنتجات الغذائية والزراعية واللحوم وحتى الوقود، وتحصل على مبلغ 20 ألف دولار على مبلغ تنسيق الشاحنات التجارية القادمة من مصر، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف التأمين ونقل البضائع.

وأفاد تجار وبائعون بأحاديث منفصلة، أن أسعار السلع بغزة تتضاعف عن سعرها لحظة الاستيراد بشكل مضاعف، فمثلا كيلو الدجاج يصل المعبر بسعر 17 شاقلا، إلا أنه تم بيعه في أوقات معينة بسعر 60 شاقلا وأكثر بسبب قلة الكميات المستوردة، وانخفض حاليا إلى 30-45 شاقلاً، وهذا يحدث فوضى وخللا في الأسعار.

ولجأ الكثير من التجار في أوقات مختلفة من العدوان إلى حبس السلع الأكثر استهلاكا من الأهالي، واحتكارها لإحداث حالة من تعطش الأسواق لها، ومن ثم تقطير إدخالها للسوق مما يؤدي للمحافظة على سعرها المرتفع  ساعدهم في ذلك منع الاحتلال إدخال تلك الأصناف بكميات كافية لاحتياجات الناس، وعدم وجود رقابة فاعلة أو محاسبة نتيجة ظروف الحرب وقصف المقرات الحكومية بغزة.

وشهدت بعض السلع ارتفاعا هائلا في الأسعار، فمثلا ارتفع سعر كيلو السكر إلى 80 شاقلا رغم انخفاضه حاليا إلى 10-12 شاقلا في أسواق جنوب قطاع غزة، وبلغ سعر كيلو غرام الواحد من البصل 30-35 شاقلا، وتذبذب انخفاضه ليتراوح ما بين 15- 20 شاقلا حاليا، وتضاعف سعر لتر السولار والبنزين من 6 شواقل قبل الحرب إلى 40 شاقلا للتر الواحد ووصل ببعض الأحيان إلى 60 شاقلا، ووصل سعر علبة السجائر إلى 700 شاقل رغم أنها لم تزد عن 20 شاقلا قبل العدوان.

 وفي أوقات معينة وصل سعر كيس الدقيق بمدينة غزة وشمال القطاع نحو 2000 شاقل أو أكثر بسبب منع الاحتلال إدخاله الأمر الذي أدى لحدوث مجاعة كان السبب الأساسي فيها هو الاحتلال الإسرائيلي الذي منع إدخال الدقيق واستغل التجار ذلك بنشوء ظاهرة الاحتكار بسبب زيادة الطلب وقلة العرض.

أسعار غير مستقرة

في قائمة أسعار الخضراوات على بسطة البائع أحمد الديري لحظة إجراء المقابلة معه في 20 إبريل/ نيسان 2024، بلغت أسعار الخضار: 9 شواقل لكيلو البندورة، و8 شواقل لكيلو الخيار، و14 شاقلا لكيلو الفلفل الرومي، و7 شواقل لكيلو البطاطا، و8 شواقل للكوسا، و10 شواقل للباذنجان، و15 شاقلا للبصل، وفي أسعار الفواكه بلغ سعر كيلو الشمام 20 شاقلا والتفاح 18 شاقلا، و10 شواقل لكيلو الملوخية.

ولا تستقر أسعار المنتجات الزراعية سواء المنتجة في القطاع أو المستوردة من مصر وتتفاوت أسعارها، وهذا يرجع الديري سببه للعرض والطلب، وعدم وجود رقابة على تحديد الأسعار بشكل دوري وحثيث بالتالي تترك الأسعار للتجار.

يكشف الديري عن بعض طرق التلاعب بالأسعار، بأن التجار يقومون بحبس صنف معين ليوم أو أكثر، بهدف رفع سعره باليوم التالي.

فيما بلغت قائمة الأسعار على بسطة البائع عبد أبو العنين خلال شهر رمضان، 25-35 لكيلو الملوخية، و40 شاقلا لكيلو البصل، والكوسا 30 شاقلا والباذنجان 15 شاقلا، والبطاطا 17 شاقلا، والتي أدت لتذمر الناس.

ويقوم أبو العنين وكغيره من بائعي الخضار، بالتوجه صباح كل يوم للسوق المركزي بمحافظة رفح وهناك يحدد التجار الأسعار التي يلاحظ الأهالي أنها تختلف في كل يوم، ولا يرى وجود مبرر لرفع سعرها، كون لدى غالبية المزارعين آبار مياه خاصة وألواح طاقة شمسية لتشغيلها وثلاجات لتخزين البضائع.

بلهجة عفوية يعبر عن استيائه لاستمرار رفع الأسعار بملامح يعلوها الغضب "والله الواحد صار يخجل يحكي للناس الأسعار، واحنا بفترة حرب، التجار بحددوا السعر اللي بدهم إياه".

كان الحاج طارق حسونة النازح من شمال القطاع إلى جنوبه، يبحث عن بدائل تناسب مقدرته الشرائية، فمع غلاء أسعار اللحوم يستعيض عن ذلك بشراء لتر "مرقة اللحوم" خاصة أن أسعار اللحوم الطازجة تبلغ 150-200 شاقل في ظل ندرتها بعد قصف الاحتلال لمزارع تربية الحيوانات منذ سبعة أشهر من الحرب، ووصل سعر كيلو اللحوم المجمدة 50 شاقلا حاليا وحتى العشرين من رمضان وصل سعر الكيلو 90 شاقلا.

"بشتري الأساسي فقط، أما الشغلات التكميلية ببتعد عنها"، قال حسونة بينما يقف أمام بسطة خضار، مضيفا بابتسامة ممزوجة بمرارة الواقع: "حالنا كحال الناس، والبدائل نستخدمها حسب المتاح".

خلل في الأسعار

في ظل الحروب والأزمات والأوبئة يحدث خلل في الأسعار بسبب هجمة الأهالي على الأسواق، فضلا عن الخلل في حركة المعابر، خاصة وأن الاحتلال أغلق معابر قطاع غزة لفترة طويلة، ومنع إدخال الكثير من البضائع ما أدى لحالة فقدان سلع أساسية من السوق كان يجب عدم فقدانها، وفق المختص بالشأن الاقتصادي أحمد أبو قمر.

وقال أبو قمر لـ "شبكة قدس": إن "فقدان السلع كان سببه وجود حالة من الاحتكار، وأن وزارة الاقتصاد لم تؤد المهام المطلوبة منها بسبب الحرب والقصف والوضع الميداني، كما أن الاحتلال لعب على عاملين، حيث حاول تدمير الأمن حتى تكثر حالات السرقة والنهب، ودمر الاقتصاد بحيث لم تستطع الوزارة القياك بالمهام المطلوبة منها".

وأضاف "أن هذا الشيء خلق حالة ارتفاع كبيرة بالأسعار، فبعض السلع وصلت أسعارها أكثر من ألف بالمائة خاصة السلع الاستراتيجية، فرأينا حالة ارتفاع جنوني على دقيق القمح الذي انقطع بشكل نهائي في شمال القطاع".

الارتفاع الباهظ للأسعار، وفق أبو قمر، أدى لاستنزاف جيوب الأهالي، وأدى لنفاد حتى من لديه مدخرات، وزيادة مديونية الكثيرين، خاصة أن الحرب طال أمدها.

ورأى أن المشكلة الأساسية تكمن في عدم سيطرة الفلسطينيين على المعابر وهذا الخلل سببه بروتوكول باريس الاقتصادي الذي منح الاحتلال سيطرة كاملة على المعابر، إضافة إلى أن حركة التجارة بالأسواق تحتاج لردع وأمن لضبطها، خاصة في حالة غير طبيعية من الحرب الأمر الذي يحتاج لضبط أسعار السلع الأساسية.

وتابع "رأينا انفلاتا في الأسعار، صحيح أن الأمر متروك للعرض والطلب، لكن الأمر يحتاج رقابة ومتابعة مستمرة"، مشددا على ضرورة إدخال الكميات التي يحتاجها القطاع لضمان عدم انقطاعها، والتحكم في المعابر، وتخزين السلع الاستراتيجية، وإدخال السلع الأساسية بدلا من الثانوية.

ولطالما أكدت وزارة الاقتصاد في أوقات سابقة إن لدى القطاع سلع أساسية تكفي لستة أشهر، فيما يلفت أبو قمر أن الاحتلال تعمد قصف الأماكن التي تواجدت بها هذه السلع لإحداث حالة من الفقدان، إضافة لضرب الأراضي الزراعية المحررة في غزة التي كانت تعد السلة الغذائية للقطاع.

طبقة "أغنياء الحرب"

من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي محمد مقداد، أن ارتفاع الأسعار أدى لإرهاق جيوب الناس وأدى لنشوء طبقة "أغنياء الحرب" أو ما يعرف باسم "تجار الحروب" وسحق طبقة التجار الأصليين الذين لم يستطيعوا العمل في ظروف الحرب والحصار.

وأوضح مقداد، أن "طبقة تجار الحروب نشأت بسبب امتيازات عائلية وعلاقات تمكنهم من شراء البضائع من المعبر بطريقة رسمية أو غير رسمية، وهذه الطبقة ربحت الملايين على حساب الناس، ونشأ الاحتكار الذي يتم عبر حبس السلع حتى ترتفع أسعارها ثم طرحها تدريجيا حتى يتم المحافظة على السعر المرتفع".

ولمواجهة الأسعار المرتفعة، أنشأت وزارة الاقتصاد ما يسمى "نقاط بيع" بطرح سلع أساسية بمحال تجارية تعلن عن أسمائها، بأسعار أقل بأكثر من نصف  سعرها في السوق، وكانت تشهد اكتظاظا كبيرا بسبب إقبال الناس عليها بأعداد أكبر من الكميات التي تطرحها الوزارة بأضعاف مضاعفة.

ورأى مقداد أن تجربة "نقاط البيع" استغلها التجار الصغار أو المتوسطين في احتكار السلع وبيع جزء منها بالسوق السوداء، مما أدى لارتفاع أسعارها، كما أن الناس لم تستطع الوصول لتلك النقاط بشكل آمن.

كما لعبت شركات نقل البضائع، وفق مقداد، التي تأخذ مبالغ باهظة على تكاليف التأمين والأرضيات دورا في ارتفاع الأسعار، مبينا، ارتفاع السلع أضر بالنسيج المجتمعي وأوصل الناس لحافة الإفلاس، ولم يعودوا يستطيعون توفير المال لشراء السلع.

وللسيطرة على الأسعار المرتفعة؛ هناك حاجة لضبط الأسعار بما يتناسب مع الوضع في القطاع، بإدخال كميات من السلع تكفي حاجة الأهالي، ومراقبة ومتابعة مستمرة للأسواق من دائرة حماية المستهلك ومباحث التموين بما يضمن عدم وجود أي أنواع من الاحتكار، كذلك التحكم فيما يتم إدخاله من المعبر والكميات التي يحتاجها السوق دون أي تقنين أو تحديد من الاحتلال الإسرائيلي لما يتم إدخاله أو ما يتم منعه، وحل مشكلة نقص السيولة، بإدخال سيولة إضافية للأسواق، كونها سببا في الغلاء لأن المواطن يخسر نسبة كبيرة من ماله كنسبة للصرافين تصل إلى 17- 20% عن كل عملية سحب نقدي، وتوسيع قاعدة المستوردين إلى أقصى ما يمكن وتحرير التجارة مع تشجيع الاستيراد وتسهيل الإجراءات على المعبر لدخول كل أنواع البضائع، كون التجار يجلبون من البضائع حسب حاجة السوق لضمان تحقيق الربح.

 

#غزة