مائتا يومٍ من الصمود الأسطوري لأهالي قطاع غزة في وجه حرب الإبادة الصهيوني الأكثر دموية وإجرامًا في التاريخ المعاصر، استَخدَم في خلالها الاحتلالُ الصهيونيُّ كلَّ أصناف السلاح والطيران الحربي وأدوات القتل والدمار لاقتلاع أهالي القطاع من أرضهم.
لم تكن مخططات التهجير ضربًا من الخيال، ولا مادةً للدعاية، فالاحتلال، الذي تمنَّى قادتُه يومًا أن يبتلع البحرُ غزة، لم تغادره فكرةَ أن تكون غزة مدينة بلا سكان، منطقة لا شيء فيها سوى الخراب الكبير الذي يؤمِّل أن يتحول إلى عبرة في منطقة بات فيها مؤشرات المواجهة أعلى وأكبر مع تصاعُد الفعل المقاوم في الإقليم وتنامي الجبهات المعادية للكيان والهيمنة الأمريكية في المنطقة.
في الواقع، فإن ضربة السابع من أكتوبر وانطلاق "طوفان الأقصى" لم -ولن- تتوقف ارتداداتها الاستراتيجية على مستقبل الصراع مع الاحتلال قريبًا، والتي عصفت وستعصف بالعديد من المشاريع في المنطقة، وستعيد صياغة شكل المشروع الوطني الفلسطيني من جانب، والبرامج السياسية للأحزاب الصهيونية من جانب آخر.
اليوم، وبعد مِائتَي يومٍ من الحرب المستمرة على القطاع، قدَّمت غزة معجزاتٍ يعجز العقل على تصوُّرها من الصمود الأسطوري، الذي حوَّل غزة على يد المقاومة من بقعة محروقة عملياتية، بيئة لا مجال فيها للمناورة في 365 كيلومتر مربع من أراضي سهل ساحلي مكشوف أمام أعتى منظومات المخابرات والأمن في العالم، إلى البيئة الأكثر تعقيدًا للمناورة وحروب المدن التي تستحق أن تُدرَّس في العالَم.
الرهانات الفاشلة
رهانات الانهيار: منذ اليوم الأول للحرب وحجم الاستخدام الغاشم للقوة النارية العدوانية على القطاع، عمد الاحتلال إلى حروب البروبجندا المترافقة مع العمليات الإجرامية والمجازر الكبرى بحق قطاع غزة، مراهِنًا على الانكسار والانهيار، ولم ينجح ولم تنكسر المقاومة أو تنهار، لا بالوصول إلى مجمع الشفاء الطبي، ولا باقتحام الشجاعية ولا حصار مخيم جباليا، ولا بعد أربعة شهور من العمليات الموسَّعة في خان يونس، كما لن تنكسر بدخول رفح أو المحافظة الوسطى.
رهانات الاستنزاف: أما الرهان الآخر على استنزاف المقاومة حتى آخر طلقة فقد قابلته المقاومة أيضًا بإدارة ذكية للنيران، وبعد مِائتَي يومٍ من القتال ما تزال المقاومة قادرةً على تحويل كل تحرُّكٍ لجيش الاحتلال إلى اشتباك موسَّع، وكل مترٍ من التقدم إلى تقدُّمٍ نحو حفر من النار، فيما لا يستطيع أحد اليوم أن يقيس حجمَ الاستنزافِ لمقاومة تقاتِل من أكثر من ثمانية شهور بلا خطوط إمداد مفتوحة، ويبقى الفيصل الميدان الذي يقول الكثير عن قدرات المقاومة التي ما تزال تطلق صواريخها من شمال قطاع، وتقنص الجنود على الحدود الشمالية والشرقية، وتنفِّذ كمائنها في الزنة شرقي خان يونس، وشرقي المغازي وشرقي الشجاعية.
رهانات تأليب الحاضنة الشعبية: شعبيًّا، راهن الاحتلال على أن تنقلب البيئة الشعبية على المقاومة، وأن تفلح سياسات التجويع والقتل والدمار في خلق حالة رافضة للمقاومة من جمهور دفع أغلى الأثمان وأكبرها، وأن تتنكر هذه الحاضنة لمقاومتها، لكن، وبعد مِائتَي يومٍ من الدمار والقتل، ما يزال أهالي قطاع غزة يخرجون من تحت الأنقاض مؤمنِين صابرِين متمسكِين بعهدهم بأن لا تنازل ولا تراجع ولا تفريط، على الرغم من انتقام الاحتلال أشد انتقام من هذه الحاضنة لعقابها على احتضانها أبناءَها المقاومِين.
رهانات التهجير: مثَّل أهالي شمال قطاع غزة النموذجَ الأكثر صمودًا في العالَم في مواجَهة أقسى حرب لتهجيرهم واقتلاعهم من أرضهم وأماكن سكنهم، وعلى الرغم من حجم الجحيم الذي صبَّته آلة القتل والدمار الصهيونية عليها، فإن صمود أكثر من ثمانمِائة ألف فلسطيني في شمالي القطاع شكَّلَ الإجهاضَ الأكبرَ لمشروع التهجير الذي هدف إلى تحويل شمالي القطاع إلى منطقة خالية من السكان، فيما مثَّلَت مَشاهدُ محاوَلات العودة الجماعية لمن نزحوا عند حاجز "نيتساريم"، الذي يفصل شمالي القطاع عن جنوبيه، الردَّ الأمثلَ على أحلام الساعين إلى دفع أهالي القطاع إلى هجرة جماعية من أراضي القطاع، سواءٌ في اتجاه سيناء أو غيرها، فالموقف الشعبي واضح: نعيش فوق الأنقاض ولا نقبل أية جنة في بقعة خارج فلسطين.
رهانات الفوضى: راهَنَ الاحتلال كثيرًا على الفوضى وإدخال القطاع في دوامة من الاقتتال الداخلي، فتحقِّق الفوضى ما عجزَت عن تحقيقه آلةُ القتل الصهيونية. وفي هذا الإطار وخدمة لهدف تفكيك القدرات السلطوية في القطاع، نفَّذ الاحتلال ضرباته المكثَّفة لقوى الأمن في القطاع، إلا أن التماسك المجتمعي، والبنية التحتية العميقة للقوى الوطنية والإسلامية والوعي الشعبي، كان الضامن الأبرز لإفشال هذه الرهانات.
رهانات البديل المحلي: راهَنَ الاحتلال على مدار أيام الحرب على إيجاد بديل محلي متعاون، سواءٌ أكان عشائر أو قوى محلية أو أجسام منظمة أخرى، تَقبَل التعاون مع الاحتلال تحت مبررات متعددة ما بين الإغراءات والأوهام، فكان حائط الصد الحائطَ الأكبر، فليس مِن أهالي القطاع مَن يَقبَل أن يكون عونًا أو يدًا أو أداة للاحتلال، حتى لو كان المَدخَل أن يكون الأداة التي تخفِّف حرب التجويع في شمالي القطاع، فالجوع شرف إن كان بديله التعاون مع الاحتلال.
رهانات متعددة، بحث فيها الاحتلال عن نصره الموهوم، بعد أكثر من مِائتَي يومٍ من القتال الدامي في القطاع، صمد قطاع غزة، لم يتزحزح أهله، ولم تتضعضع مقاومته، ولم تتراجع، في الوقت الذي تفاوض فيه اليوم من موقع القوة لا الضعف، من موقع الثابت المتمسك بحق أهله وحاضنته، لا من موقع المنهار الذي يعاني الأزمة، فيما تتصاعد الضغوطات على الاحتلال الذي بات يخوض حربًا بلا أفق، ولا أهداف حقيقية، وسط موجة كبرى في العالم مؤيِّدة للشعب الفلسطيني، باتت حناجر المؤيِّدين له تلاحِق قادةَ العالَم في كل محفل، تذكِّره بأن دماء عشرات الآلاف من قطاع غزة باتت تلطِّخ أيديهم جميعًا، في حرب بات هدفها الوحيد أن يستمر "نتنياهو" في موقعه رئيسًا لوزراء هذا الكيان.
في الواقع، وبعد أكثر من مِائتَي يومٍ من حرب الإبادة المستمرة ضد قطاع غزة، فإن للواقع في القطاع كلمته في وجه كل أضغاث أحلام قادة الاحتلال، لأهالي بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا والشجاعية والزيتون والبريج والمغازي ووادي السلقا والزنة والقرارة وعبسان وبني سهيلة وكل المناطق الذي راهن الاحتلال على تحويلها إلى مناطق عازلة، هم الرد الأمثل على كل رهانات الاحتلال، هو ذاته الرد التي رسَّخَت رصاصاتُ قناص بيت حانون، وبصماتُ مهندسِي كمين الزنة، وقاذفُ الدروع شرقي دير البلح، وقذائف مقاتِلي المغازي، ومدفعية وكمائن مقاتِلي المغراقة وحي الزهراء، وقنَّاصِي الشجاعية والزيتون.
في الواقع ذاته، فإن "نتنياهو" الذي أعلن أن حربه على قطاع غزة لا تَستَهدِف القطاع فقط، بل تَستَهدِف كلَّ من يعادي الاحتلال في المنطقة، كان الرد عليه بأن الصواريخ لا تتوقف من ضرب هذا الاحتلال من كل صوب وحدب، من شمالي لبنان وسوريا والعراق واليمن، وصولًا إلى الضربات المباشرة للمرة الأولى منذ خمسة وأربعين عامًا من إيران على عمق هذا الكيان على مرأى من كل العالَم، فمن بحث عن ردع مفقود داسه مقاتِلو قطاع غزة في السابع من أكتوبر بترميمه على أنقاض غزة، بات يرزح تحت ضربات لا تتوقف من أكثر من مِائتَي يوم من كل قوى المقاومة في المنطقة.