ما المطلوب من المثقّف في زمن الحرب، وتحديداً في زمن حربٍ إباديةٍ تستهدف الوجود الفلسطيني ذاته؟ هل يتمترس بمهمّة النقد والنقد الذاتي، أم يُرشّدها، أم يؤجلها برمتها ويلزم نفسه بمهمّات أخرى، مثل توليد أفكار عملية، واجتراح رؤى تساهم في صمود جماعته، ومواجهة مآزقها، ورفع معنوياتها حتى في أشد لحظات المعاناة وأكثرها دموية؟ لا خلاف على ضرورة النقد، بيد أن توقيته، وطبيعته، وفائدته الظرفية، خاصة وقت الحرب، تصبح هي معايير القياس. رشاد النقد زمن الحرب هو الخيار الأكثر فعالية. من دون رشاد، قد ينزلق النقد إلى التلذّذ بالتدمير الذاتي وتعميق خطاب العجز الذي يبرع في وصف المآزق، ويعجز عن طرح المخارج.
عرفتْ المقاومة الفلسطينية مثال المثقّف المقاوم والملتزم الناقد ونموذجه، واندرج مئات، إن لم يكن ألوف، من الكتّاب والروائيين والمفكّرين والفنانين والمثقّفين تحت هذا التوصيف، تمرّ أسماء كثيرين منهم أمام مخيلة أي منا فور النطق بهذا التوصيف. أنتج هؤلاء أدبيات وأفكاراً وأشعاراً أصبحت أقانيم راسخة في الثقافة الفلسطينية، وتحدّثت عن صنع المستحيلات أمام واقع مُنسد. من منا لم يحفظ مستحيلات توفيق زيّاد "كأننا عشرون مستحيل، في اللد، والرملة، والجليل". أنتج هؤلاء عالماً وفلسطينا موازية لفلسطين التي سُلبت، فلسطين التي لا تنقضي، فلسطين القادمة رغم جبروت العدو وخذلان الشقيق، ورغم ابتعاد التحرير، فلسطين المخيال الخصب الذي تحدّى الواقع المُدَمّر، والمنتقل من هزيمة إلى أخرى. ما صاغته الثقافة الفلسطينية المقاوِمة ومثقفوها أوجد، على الضدّ من مراحل المرارة والهزائم، حقلاً ثقافياً وحّد الفلسطينيين في أحلك لحظات تفكّك الحقول الأخرى، بما فيها السياسة والمقاومة العسكرية، كما يكرّر دوما الصديق الكبير جميل هلال. لو استمع صنّاع الثقافة الفلسطينية المقاوِمة الذين كانوا ينسجون عالماً حالماً ومتطلّعاً إلى المستقبل لأصواتٍ كثيرة تريد أن تحصر الكتابة عن غزّة اليوم بحبر الرثاء والنحيب واللطم العاجز، لما أنتجوا ما أنتجوه ولما تراكم لدينا إرث نضالي ثقافي نعتزّ به.
يتداعى هذا في سياق قراءة مطالعاتٍ عديدةٍ تنتقد كتابات المثقّفين الفلسطينيين والعرب التي تنحاز إلى المقاومة الحالية في قطاع غزّة وتتهمها بعدم قراءة الواقع والتضخيم وعدم المبالاة إزاء معاناة الناس والدمار الإبادي الذي تُجرّم به إسرائيل. بعض تلك المطالعات موضوعي ورصين، خاصة ما ينتقد منها عنصر التضخيم وتصوير المقاومة كأنها قوة عسكرية عظمى، مساوياً في القدرات الحربية بين الضحية والجلاد. لكن آخرين ينزلقون إلى مقاربة غير موضوعية تنتقد كل ما ليس له علاقة بالحديث عن الموت والتجويع والدمار وتكدّس الناس وكل أوجه الجريمة المُشاهدة يومياً. تتوقف هذه السطور عند الصنف الثاني من الكتابات التي لا تريد أن تخرج من دائرة اللطم والنحيب، من دون أن تقدّم أية أفكار عملية حول أي فعل إيجابي يمكن القيام به.
ينطلق النقد الذي توجّهه هذه السطور إلى هذا الخطاب من منظور أساسي، هو انتقاد سمة العجز الذي يتصف به، إذ لا يقدّم أي بديل. النقد موجّه هنا إلى تدوير العبارات اللّطمية ذاتها، وتعداد مظاهر النقد السلبي، ولغة المزايدة السياسية وتسجيل النقاط، أو "فشّ الغل". والحديث هنا عن كتابات لمثقفين ونشطاء العمل السياسي والمدني، ويستثني أي صرخات مريرة تصدر من أهل غزّة وما يتضمنه كثيرها من مرارات ودموع تنخلع لها قلوبنا. لنتأمل بعض الجوانب المشتركة في خطاب النحيب واللطم من هذا المنظور.
الجانب الأول هو انتقاد المقاومة في عملية ٧ أكتوبر بكونها لم تكن محسوبة وجلبت كارثة على الفلسطينيين. من ناحية الجانب الأول، انتقاد المقاومة في عملية 7 أكتوبر بأنها لم تكن محسوبة، وجلبت كارثةً على الفلسطينيين. من ناحية موضوعية صرفة، يحقّ لأيٍّ كان أن يتبنى هذا النقد ويطالب المقاومة بتقديم إجابات عن ذلك. لكن ما يتجاوز الموضوعية وينتقل بالنقد إلى المناكفة والتخذيل هو استمرار تكرار هذا النقد بعد مرور نصف سنة من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة. يعرف الناقد، وأقر بذلك المنتَقد، أن أحداً لم يتوقع حجم الإجرام الإسرائيلي واتساع نطاقه الزمني، وكذا استدامة الضوء الأخضر الأميركي والدولي الداعم لإسرائيل في جريمتها. ما الجواب الذي يتوقعه من يكتب الآن مُكرّرا النقد نفسه بلا ملل بعد كل هذا الدم الذي جرى؟ وماذا ننجز جماعيا لو صرنا نقول كل يوم وعلى وقع المذبحة التي تقوم بها إسرائيل: المقاومة جلبت كارثة علينا، المقاومة أخطأت في التقدير ودمّرتنا؟ ماذا سننتج عملياً إن كرّرنا ذلك كل يوم وفي كل كتاباتنا؟
من منظور أوسع، يتحرّر من ضغط اللحظة الراهنة، لو أردنا تطبيق منطق لوم المقاومة الفلسطينية تاريخياً لأنتجنا سردية لوّامة تضع المقاومة في قفص الاتهام من أول يوم انطلقت فيه: هي المتهم الأول في ضربات إسرائيل لقطاع غزّة في الخمسينيات من القرن الماضي، هي المتهم الأول في حرب أيلول/ سبتمبر في الأردن 1970، هي المتهم الأول في الحرب الأهلية اللبنانية، هي المتهم الأول في اجتياح لبنان 1982، هي المتهم الأول في ما تحمّله الشعب الفلسطيني في الانتفاضة الأولى سنة 1987، والانتفاضة الثانية سنة 2000. هي المتهم الأول في كل تلك المراحل والحقب، لأنها لم تقدّر نتائج ما كانت تقوم به. هذه القراءة الاسترجاعية للتاريخ، وبعد ظهور نتائج الفعل، أي فعل، قاصرة وقصيرة النظر، لأنها تتجاوز السياقات الظرفية أولاً، وتزعم عبقرية "اكتشاف" الأرض بعد أن تهدأ العواصف، ثانيا. الأهم هو التأكيد على أنه من دون تلك المراحل والمسيرة الطويلة وتضحياتها وأخطائها لاندثرت فلسطين وشعبها وقضيتها وشُطبت عن الخريطة واهتمام العالم. من دون أن يظل منظور الإنجاز التراكمي هو الناظم لفهم تلك الحلقات من النضال الفلسطيني، كما الحلقة الراهنة، فإن أي تقييم لكل واحدة منها على نحو معزول عن غيرها سوف يصل بنا إلى منطق استهتاري وعدمي.
يركّز الجانب الثاني على انتقاد مقولة أن إسرائيل لم تحقق أهدافها في الحرب، وهذا النقد فيه وجاهة طبعا، لكنه يتسم بالانسداد، إذ لا تترتّب عليه فكرة عملية أو اقتراح بديل، ويتوقّف عند النقد وحسب. حققت إسرائيل بالفعل أهدافاً كثيرة في حربها، وأهمها التهجير من خلال تدمير قطاع غزّة وتحويله إلى منطقة غير صالحة للحياة. لكنها في الوقت ذاته لم تتمكّن من هزيمة المقاومة، ولا السيطرة عسكريا وأمنيا على قطاع غزّة رغم مرور نصف سنة. من حقنا، نحن الفلسطينيين، أن نرفع قبّعات الفخر هنا، ونحن نتذكّر جميعاً أن إسرائيل هزمت الجيوش العربية مُجتمعة في حرب 1967 في ستة أيام، وسيطرت على سيناء كلها، والضفة الغربية بما فيها القدس، ومرتفعات الجولان. لكن ما يفكّك انسداد النقد المُحق هو التحرّك إلى الأمام واقتراح أفكار يمكن أن تعيق إسرائيل في تحقيق أهدافها: أي كيف نوقف التهجير، وكيف نعيد قطاع غزّة إلى منطقة حية. التمترس خلف جدل ومناكفة نظرية مع كاتب هنا أو سياسي هناك يقول إن إسرائيل لم تحقق أهدافها في الحرب يظل جدلاً عديم الفائدة، وغرق في سجالٍ لا يقود إلى نتيجة. لنفرض أن صاحب مقولة "إسرائيل لم تحقق أياً من أهدافها في الحرب" اقتنع بما يقوله ناقدوه وأقر بأن إسرائيل حققت أهدافها في الحرب، ما الذي يترتّب على ذلك عمليا؟ يمتد النقد ذاته إلى ما يصرّح به قادة المقاومة أن إسرائيل لم تحقق أهدافها. ما هو المطلوب عمليا هنا وكلّنا نعلم أن تصريحات السياسيين في خضم المعركة ينتمي كثيرها إلى خطاب تحدّي العدو والتحريض الوطني ورفع المعنويات. هل مهمّة القائد السياسي أو العسكري أن يطلق تصريحات موضوعية وأكاديمية باردة وجيشه في قلب المعركة ويقول مثلا: إن عدوّنا يحقق كل أهدافه، وعلينا ان نعترف موضوعيا بأن جيشنا يُدمر وقواعدنا تتقهقر وشعبنا يهزم؟ هل حدث وقام بذلك أي قائد في تاريخ المعارك في العالم؟
يتعلق الجانب الثالث بحصر الكتابة والحديث عن معاناة الناس وتصوير حجم الكارثة والدمار والدماء. قبل كل شيء، وإلى جانب ما ورد أعلاه لنتفق على النقد الافتراضي التالي: إذا كانت المقاومة تعرف مسبقا أن الدمار والموت والشهداء والدم المسال سيكون بهذا الحجم ومع ذلك قامت بما قامت به فهي تستحقّ كل النقد وعليها أن تُحاسب شعبياً وسياسياً. يلي ذلك القول إنه ليس هناك من يقلّل من قيمة أية قطرة دم فلسطينية سالت وتسيل في غزّة، وأنحني وأنا أكتب هذه الكلام بخجل وحزن وقلب ثقيل وأقبل أقدام كل أم كليمة، وكل طفل جريح، وكل أبٍ مقهور، وكل طفلة فقدت والديها، وكل أهل دمرت دارهم، أو استشهد نصفهم. ليس هناك لغة وصف يمكن أن تلتقط عمق المرارة والألم والمعاناة التي تجرحنا جميعا ونحن نشاهد أهلنا مشرّدين في خيام جديدة يرتجفون برداً وجوعاً، أو يبحثون عن أجساد شهداء تحت الأنقاض. كل من يقلّل من عمق (وحجم) الألم الذي لا يمكن أن يستشعره إلا من عاشه ويعيشه يفتقد لأدنى حس أخلاقي ووطني. في الوقت ذاته، من الواجب الوطني القول إن البقاء في دائرة توصيف هذا الألم والنحيب عليه لا يقلّل من حدّته، ولا يقدم له حلولاً. كما أن توظيفه للجم أي حديث عن صمود المقاومين وبسالتهم يفتقد إلى المروءة الوطنية. يمكننا ببساطة، بل علينا المزاوجة بين الأمرين في الوقت نفسه: الإشادة بمقاومة المقاومين وصمود الناس العاديين وبقائهم.
يقول قائلون: ليس هناك صمودٌ ولا من يحزنون، الناس مُجبرون على ما فُرض عليهم. ... تحول استخدام كلمة صمود في عرف بعض الناقدين إلى عيبٍ لغوي ووصفي، وكأن ما يجب أن يُقال إن الناس يموتون ويُداسون فقط. لماذا هذا الشرط المُفتعل الذي يطلب عدم الإشارة إلى بطولات المقاومين عند الحديث عن معاناة الناس العاديين وصمودهم؟ ولماذا هذا الفصل التعسّفي بين مقاومة المقاومين ومعاناة الناس، وكأن المقاومين جاؤوا من كوكبٍ آخر، وليسوا من أهل قطاع غزة ومن عائلات الناس التي تعاني وتستشهد؟ نعرف جميعا وكما تنقل الأخبار اليومية أن الإجرام الإسرائيلي استهدف عوائل ممتدةّ في مربعات وأبنية عرفت إسرائيل أنها عوائل لمقاومين. من أين جاء عشرات الألوف من المقاومين؟ أليس هؤلاء من الأهالي والعوائل التي تستشهد يومياً؟ خطاب الإقرار بالجرح والكارثة واقعي ومهم، لكن يجب أن يتجاوز اللطم اليومي وتعميق العجز الذاتي ويتقدّم نحو البحث عن حلول ومخارج نتوق إليها جميعاً.