لطالما حمل شهر رمضان خصوصية كبيرة في معادلات التوتر في المنطقة، وقد شهدت السنوات الأخيرة ارتباطه الطردي مع منسوب المواجهة والاشتباك مع الاحتلال، خصوصًا في القدس والضفة المحتلة، كان أبرز تجلياته المواجهة الكبيرة في القدس والشيخ جراح التي تُوِّجت بمعركة "سيف القدس"، التي شكلت نموذجًا مهمًّا لمدى قوة وتأثير قدرات الشعب الفلسطيني الكامنة لو توحدت في فعل كفاحي على امتداد الأراضي المحتلة وخارجها.
تزامَن رمضان في هذا العام مع دخول حرب الإبادة المستمرة بحق قطاع غزة شهرَها السادس على التوالي، لم يتوقف في خلالها شلال الدم الفلسطيني في القطاع، مخلفًا أرقامًا لا يمكن حصرها من الشهداء والمفقودين، المؤكَّد منها تجاوز ـثلاثين ألف شهيد ومئات الجرحى، أخذ الأطفال والنساء النسبة الأكبر منهم. تزامُن رمضان مع سيل الجرائم في القطاع وحساسية الشهر لدى الجماهير العربية والمسلمة، وحساسيته المضاعفة في الضفة الغربية والقدس، دفَعَ الوسطاءَ والولاياتِ المتحدةَ من خلفهم إلى المسارعة للضغط من أجل الوصول إلى تهدئة في خلال الشهر تنزع من المنطقة فتيل الانفجار.
تبريد الشارعين العربي والفلسطيني وتسكينهما
على خط متوازٍ مع مفاوضات التهدئة، اتَّخذ كل من الاحتلال ودول المنطقة إجراءاتٍ طالت مستوياتٍ عدةً، بهدف تبريد الشارع ومنع محفزات الاشتعال من الانطلاق في المنطقة، تجلَّى أبرز هذه الإجراءات في التالي:
- خفض مستوى التصعيد في المسجد الأقصى: اتَّخذ الاحتلال خطواتٍ واضحةً وملموسةً لمنع اشتعال ساحات المسجد الأقصى في خلال أيام رمضان، على صعيدين: الأول عبر تقليص مظاهر الاحتكاك وتجاوز مواضع التوتر المعتادة، وتقليص التضييقات على أعداد المصلين؛ والآخَر شن حملات اعتقال موسعة ضد كل الكوادر النشيطة في القدس، بما يشمل الأسرى المحررين والمفاصل التنظيمية والفاعلين الجماهيريين والنشطاء الشباب، مترافقة مع إجراءات تقييدية أخرى مثل الإبعاد والحبس المنزلي لمن تبقى من هذه الكوادر المقدسية.
- تصعيد الضغط على مواقع ارتكاز المقاومة في الضفة المحتلة: صعَّد جيش الاحتلال من اقتحاماته وعمليات التصفية والاغتيال والتخريب الواسع للبنية التحتية في المخيمات التي تنشط فيها خلايا المقاومة في الضفة المحتلة، ووضعهم تحت الضغط المستمر، لإجهاض أية مبادرات هجومية محتملة في خلال شهر رمضان.
- تمديد الاعتقال الإداري للكوادر في الضفة الغربية: وذلك استكمالًا لعملية التحييد الواسعة للكوادر منذ الأيام الأولى لعملية "طوفان الأقصى"، إذ أطلق سراح جزءٍ منهم في إطار تهدئة الشارع، بينما مدَّد الغالب المؤثر منهم، لإجهاض أية محاولات جدية لاستنهاض شوارع الضفة.
- تسريبات متعددة حول مفاوضات التهدئة: تستخدم الولايات المتحدة، والمنصات الإعلامية الحليفة لها، محادثاتِ التهدئةِ في إطار التسكين المستمر للجمهور، كون الاتفاق أصبح قاب قوسين أو أدنى.
- تقليص التفاعل في الرأي العام العربي والإسلامي مع الحرب في القطاع: مع دخول شهر رمضان، جرى تقليص ممنهج لحجم التغطية عبر وسائل الاعلام المرئي ومنصات التواصل الاجتماعي للحرب في القطاع، ما ساهم في تخفيض انشداد المتلقي العربي لوتيرة الحرب وحجم الجرائم المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.
- تعزيز الرقابة على خطباء المساجد والمنابر الدينية: عزَّزت الدول العربية والإسلامية من عمليات الرقابة على الخطاب الديني الصادر في المنابر والمنصات، بحيث يجري تدريجيًّا تجاهل الحرب على القطاع والحديث عنها وأهمية نصرة الشعب الفلسطيني، لصالح الحديث الديني العام عن القضايا الدينية المعتادة.
النصف الأول من رمضان
مرَّت أيام النصف الأول من رمضان، بما فيها الجمعتين الأولى والثانية، بهدوء محبِط للكثير من المتابعين، ونجحت الإجراءات المُتخَذة على عدة مستويات في داخل الأراضي المحتلة وخارجها في تبريد أجواء الانشداد لنصرة الشعب الفلسطيني، ما انعكس حتى على مجرى المفاوضات، إذ بعدما كان حلول رمضان سيفًا مسلطًا على رقاب الوسطاء والولايات المتحدة وحتى الاحتلال، بات مرور الأيام بهدوء بمثابة محفِّز للتنفس، والسماح بالمماطلة "الإسرائيلية" الحالية في المفاوضات، والاستمرار في إبادة قطاع غزة وأهله.
كفاحيًّا، كانت ثمة مبادرات عديدة لشبان ومقاومين في الضفة الغربية، فاقت 200 فعلٍ كفاحيٍّ ما بين الشعبي والمسلح، وفقًا لإحصائيات فلسطينية، شملت مجموعة عمليات نوعية، تنوعت ما بين استدراج ضباط الشباك، إلى استدراج قوة وتفجير عبوة ناسفة فيها، وصولًا إلى عمليتَي القناص قرب رام الله، وإطلاق النار على باص في أريحا، وعمليات الطعن، وهي مبادرات هجومية مهمة في إطار الحفاظ على الزخم المرتبط بشهر رمضان.
على صعيد الحراك الشعبي، لم تشهد ساحة الضفة الغربية حراكاتٍ شعبيةً مؤثِّرةً، وسادت حالة السلبية في الميدان، بل وفي السلوك أيضًا، إذ لم تشهد مدن الضفة أيَّ حراك مؤثِّر، والأمر سواءٌ في القدس التي نجحت إجراءات الاحتلال في احتواء الفعل الجماهيري فيها، فتغييبُ المناضلين والمؤثِّرين عن الشارع، ونزعُ خطوات التوتر التي تشعل ساحات المسجد الأقصى كل عام، ساهما في تمرير الجمعتين الأولى والثانية دون أي فعل صارخ، فيما اتسمت الجمعة الثالثة بتحرك خجول نجحت الحراكات العربية في إحيائه.
الحراك الجماهيري والفرصة الأخيرة في رمضان
أشعل الطوفانُ الجماهيريُّ الحاشدُ، وحراكُ الأردنِّ الجماهيريُّ الزاحفُ في اتجاه السفارة "الإسرائيلية" في عمَّان، الأملَ في عودة الزخم الذي طال كثيرًا إلى الشوارع العربية، وقد بَثَّت الصورُ الواردةُ من هناك روحَ التفاؤل وحتى التحفيز في العديد من النشطاء والحراكات العربية للمبادرة لتحريك الشارع، وهو ما كان في مصر وتونس، ليستكمل المشهد مع التحركات اليمنية الدائمة والحاضرة التي تُشكِّل محط فخر لكل عربي ومسلم.
يُحْيِي التفاعلُ والأثرُ الذي يتركه الحراكُ الأردنيُّ والإصرارُ على استمرارِه جذوةَ العودةِ إلى الشوارع، حتى أن تأثيره بات يمتد إلى الضفة الغربية، التي برزت فيها دعوات إلى تحويل يوم الأرض إلى يوم للتحرك الجماهيري الواسع نصرةً لغزة وأهلها في وجه المذبحة الصهيونية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.
وأما الأسبوع الأخير من رمضان فسيكون محطة اختبار مهمة، في إطار ألَّا تُفوَّت فرصةُ رمضان والضغط المرافق له هباءً، وألَّا يُخاطَر بأن تدخل غزة في مرحلة جديدة من الحرب والاستنزاف، لأن مخطئًا كلُّ مَن يعتقد أن الضغط الحالي على "إسرائيل" من أجل الوصول إلى اتفاق يمكن أن يتكرر في المدى القريب في حال فشلت جولة المفاوضات الحالية.
الفرصة الأخيرة: إما الانتصار لغزة وإما التواطؤ في ذبحها
المسؤولية كبيرة والوقت من دم، والمطلوب من الجميع أن ينزع عن نفسه ثوب الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع، وأن يعلم أن صمته شراكة وتواطؤ في استمرار المذبحة، فأضعف الإيمان أن يتحرك الشارع العربي والإسلامي نصرة لفلسطين، فليس من المنطقي أن الحشود في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والدول الأوروبية تفوق في حشدها واستمراريتها أضعاف من نراه في العواصم العربية، وليعلم كلَّ مستسلم يَحمل مبررًا حول كون الأنظمة تمانِع أو تضع العوائق أمام الحراكات، أن أهل غزة لا يدافعون عن نفسهم فحسب، بل إنها معركة كل الأمة التي يخوضونها عنهم ضد العدو الذي إن هزم المقاومةَ في قطاع غزة لن يتوقف حتى يُخضِع كلَّ المنطقةِ لهيمنته وإجرامه وبطشه.
يوم الأرض، والجمعة الأخيرة من رمضان، ويوم القدس العالمي، كلها أيام يجب أن تتحول إلى أيام غضب لغزة، لتصدح فيها كل الحناجر، نصرةً للشعب الفلسطيني، وغضبًا على العالم المتخاذل الذي يشرعن ذبح غزة، ولنساهم في تقليص عمر هذا العدوان ولجم شهية القتل المفتوحة لهذا العدو المجرم الذي يُصرُّ على إبادة الشعب الفلسطيني.